الباقون في حيفا والجليل.. منكوبون منسيّون

الكتاب: نكبة وبقاء.. حكاية فلسطينيين ظلوا في حيفا والجليل
المؤلف:عادل منّاع
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية / 2016

يعيد المؤرخ الفلسطيني والباحث في الدراسات الإسرائيلية عادل منّاع قراءة أحداث النكبة من وجهة نظر المهزومين الذين لم يسمع صوتهم، وهؤلاء هم الفلسطينيون في الداخل الذين صاروا "مواطنين" في إسرائيل، وعانوا لفترة طويلة من تهميش مزدوج (إسرائيلي وعربي). وبدلا من البحث في مسألة تهجير الفلسطينيين الذين صاروا لاجئين، يبحث في أحوال ومواقف من لم يطردوا، أو هجّروا وعادوا إلى بيوتهم وبلداتهم. 

 

حكايتهم في حيفا والجليل

وبكثير من التدقيق والاستقصاء يسلط منّاع الضوء على حالات "عدم الطرد"، ويحاول الإجابة على أسئلة تتعلق بحيثيات البقاء وأسبابه، ومدى وجود نمط وسياسة عليا إسرائيلية موجهة، إذ يبدو واضحا أن "عدم الطرد في شمال فلسطين لم يكن عشوائيا، بل نتيجة أوامر وسياسة عليا، وهذا لا يتناقض مع الهدف الرئيسي للقيادة الصهيونية بإبقاء أقل عدد ممكن من العرب في دولة اليهود". 

يناقش الكتاب حكاية الفلسطينيين الذين بقوا في حيفا والجليل من عدة زوايا، ويستكشف آليات تأقلمهم مع واقع جديد فرض عليهم كأقلية غير مرغوب فيها، وصراعهم ضد سياسات الطرد والقمع والمراقبة الدائمة، كما يرصد معاناتهم بعد أن تم عزلهم عن محيطهم العضوي العربي والفلسطيني على حد سواء، فأصبحوا كما السجناء لدى إسرائيل. ويتوقف أيضا عند "النوافذ الصغيرة" التي فتحت لهم على العالم الخارجي لسببين؛ الأول: يتعلق بوجود المسيحيين الذين ظلت الكنائس الغربية تهتم إلى حد ما بأحوالهم، والثاني: وجود عدد لا بأس به من الشيوعيين الذين ربطوا أجنداتهم السياسية بالاتحاد السوفييتي، و"ناضلوا" إلى جانب رفاقهم في حزب "ماكي" الشيوعي الإسرائيلي ضد سياسات التمييز والقمع.

تطهير عرقي شامل

اختلفت تداعيات وتفاصيل النكبة من منطقة إلى أخرى؛ بعض القرى في الجليل تعرضت لأعمال إرهابية مثل المجازر والطرد الجماعي، في حين نجت قرى أخرى مجاورة من هذا المصير، أما في الجليل الشرقي نواحي صفد وطبريا وبيسان، فلم ينج من التشريد إلا عدد قليل من القرى، في حين احتفظت بعض المناطق بكتل سكانية متراصة كما في الناصرة والبطوف والشاغور. أما سكان المنطقة الوسطى، فإن تجربتهم بعد نقل قراهم تحت السيطرة الإسرائيلية لم تختلف كثيرا عن أهل الشمال، "فعلى الرغم من الظروف المميزة المتعلقة باتفاقية نقل الأردن قراهم إلى إسرائيل في رودس ربيع 1949، فإن سياسة القمع التمييز والقمع نفسها طالتهم بعد ضم هذه القرى". 

 

اختلفت تداعيات وتفاصيل النكبة من منطقة إلى أخرى؛ بعض القرى في الجليل تعرضت لأعمال إرهابية مثل المجازر والطرد الجماعي، في حين نجت قرى أخرى مجاورة من هذا المصير

يلفت منّاع الانتباه أيضا إلى "سياسة إسرائيل المتنوعة" تجاه أبناء الطوائف الثلاث، المسلمين والمسيحيين والدروز. فقد تبين أن القرى الدرزية لم تتعرض للتنكيل بسكانها أو تهجيرهم بعد عقد اتفاقيات تعاون مع قادة الطائفة، على عكس مع تعرضت له قرى المسلمين، في حين احتل المسيحيون موقعا وسطا بين الطائفتين.

"في بعض الأماكن كالناصرة مثلا، تم إصدار أوامر مشددة بعدم التعرض للأماكن المقدسة ولسكان المدينة، غير أن سكان بعض القرى المسيحية تعرض للقتل والطرد كما حدث في عيلبون، كذلك تم تدمير عدد من القرى الحدودية واقتلاع السكان، مثلما جرى في كفر برعم وإقرت". 

يورد منّاع الكثير من روايات شهود العيان عن المجازر وعمليات التطهير العرقي التي تعرضت لها قراهم، لكنه في الوقت نفسه يستند إلى المصادر التاريخية والأرشيفية التي تظهر حقيقة النكبة التي أصابتهم. عشية تقسيم فلسطين في تشرين ثاني (نوفمبر) 1947 وصل عدد سكان الجليل إلى 241 ألف نسمة، منهم نحو 40 ألف يهودي فقط، وبضعة آلالف من الشركس والأرمن، والبقية من العرب شكل المسلمون أغلبيتهم. 

وقد سكن العرب 220 مدينة وقرية في الجليل بقي منها نحو 70 فقط، فقد دمر أكثر من ثلثي البلدات العربية وطرد سكانها، ولم ينج من هذا المصير سوى 100 ألف نسمة أو أقل. "صحيح أن نسبة الباقين (في الجليل) بصورة عامة كانت أكبر من أي منطقة أخرى احتلتها إسرائيل سنة 1948، لكن التطهير العرقي في بعض نواحيه كان شبه شامل".

تهجير متواصل رغم الهدنة

في الفصل الرابع من الكتاب، يتحدث منّاع عن استمرار تهجير الفلسطينيين في الجليل رغم انتهاء حرب 1948 وتوقيع اتفاقيات الهدنة مع الدول العربية، فعلى عكس التوقعات بالتزام إسرائيل بقرارات الأمم المتحدة بخصوص حقوق الإنسان وحق العودة والتعويض للاجئين الفلسطينين، فتحت إسرائيل أبوابها أمام يهود العالم كي"يعودوا" ويعيشوا فيها، ومنعت الفلسطينيين الذين طردوا من بيوتهم في الأمس القريب من العودة إليها. قامت إسرائيل بعد انتهاء الحرب وحتى أواسط الخمسينيات بطرد 10 آلاف فلسطيني على الأقل من الباقين في الجليل، وإذا ما أضيف إليهم العرب الذين طردوا من النقب، فإن الرقم يتضاعف. لكن منّاع يلفت أيضا إلى أن عددا مماثلا من الفلسطينيين ممن هجروا وطردوا من بيوتهم وقراهم عاد إليها بعضهم متسللا، وتمكنوا من الاستقرار فيها. يتحدث عن قصص لقرى كاملة لم تركع لسياسة التهجير مثل عيلبون ومجد الكروم، وهي أمثلة حية لذلك الصمود. وحكايات العودة هذه يتناقلها الأحفاد عن الآباء والأجداد. وقد قدرت مصادر إسرائيلية رسمية أنه بعد خمس سنوات من إتمام احتلال الجليل، نجح نحو 21 ألف "متسلل" في الحصول على المواطنة في إسرائيل.

يتتبع الفصل الخامس من الكتاب حكايات بعض القرى التي صار يعرف سكانها بـ "الغائبين الحاضرين"، وهؤلاء ظلوا في فلسطين ومنعتهم إسرائيل من العودة إلى قراهم واستولت على أراضيهم ووطنت يهودا فيها، كما يتوسع في تسجيل روايات شهود العيان عما جرى في قرى المثلث ومدينة يافا، وقد وجد منّاع في سردها وتوثيقها غاية إنسانية تاريخية ضرورية لكل قارىء وباحث في القضية الفلسطينية. 

ويرى أن حكايات المثلث وسكانه شكلت حلقة جديدة من صراع البقاء في الداخل، فقد عاشت المنطقة بحكم قربها من الحدود الأردنية وانتقالها من الحكم العربي إلى السيطرة الإسرائيلية في 1949 تبعات قاسية، حيث هدمت قرى وهجر سكانها، فضلا عن الهجمات الانتقامية ضمن ما أطلق عليه "حرب الحدود" سقط فيها آلاف الفلسطينيين بين قتيل وجريح، الأمر الذي خلق أجواء توتر استمرت نحو سبع سنوات وبلغت ذروتها في مذبحة كفر قاسم في تشرين أول (أكتوبر) 1956.

صراع من أجل البقاء

يشير منّاع إلى أن عزل الفلسطينيين (السكان العرب) عن سائر مواطني الدولة الإسرائيلية، وفرض الحكم العسكري عليهم أدى دورا كبيرا في التجاوز على حقوقهم الأساسية. استخدمت إسرائيل قانون الطوارىء لسنة 1945 الذي وضعه الانتداب البريطاني، ومن ثم شرعنت سياسة القمع والنهب والتهجير في الجليل وغيره من المناطق، وجعلت هذه السياسة السكان العرب متهمين دائمين بمخالفة تلك القوانين المجحفة. ففرض منع التجول الدائم في الليل، وتحديد حركة المواطنين ونظام التصاريح الذي يمنح للمقربين ويمنع من الآخرين حرم الناس العيش الكريم وحريات المواطن الأساسية. كما أعلن الجيش مناطق واسعة من أراضي الفلسطينيين مناطق عسكرية منع أصحابها من دخولها وزراعتها. 

لكن الفلسطينيين أدركوا أنهم أمام صراع بقاء ووجدوا في الهويات الزرقاء التي منحت لهم في ما بعد فرصة سانحة لمقاومة محاولات طردهم، فتوجه العديد منهم إلى المحاكم، وإلى محكمة العدل العليا تحديدا، وكانت الالتماسات المرفوعة تتعلق في معظمها بمصادرة الأراضي وطرد السكان واعتقالهم، ومنع السلطات من إعادة طرد بعض ممن نجحوا في العودة إلى بيوتهم. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد أصبح التصويت في انتخابات البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) أداة وسبيلا لتأمين البقاء ومنع الطرد من البلد. فهم الباقون أن التنظيم السياسي لحراكهم والانخراط في الحياة العامة التي فرضها الاحتلال عليهم هي وسيلة من وسائل الصمود أمام أية محاولة جديدة لتهجيرهم.

 

الفلسطينيون أدركوا أنهم أمام صراع بقاء ووجدوا في الهويات الزرقاء التي منحت لهم في ما بعد فرصة سانحة لمقاومة محاولات طردهم

ويفرد الكتاب صفحات كثيرة لنشاط ومواقف الشيوعيين العرب في الدولة اليهودية، وهي مواقف أثارت جرأتها وتطرفها أحيانا الكثير من الجدل، لكن مناع وجد فيها ما يتجاوز ثنائية الوطنية والخيانة، وحاول قراءتها قراءة موضوعية في السياق الذي دارت فيه وحوله، دون أن يغفل عن توجيه انتقادات قاسية وصريحة لها، منها على سبيل المثال مطالبتهم بتجنيد العرب في الجيش الإسرائيلي في سبيل إثبات الولاء ومحاولات ضمان البقاء والمساواة في الحقوق. وكادت هذه المطالبة أن تتحقق لولا أن تراجعت عنها الحكومة الإسرائيلية، التي نجحت في نهاية المطاف بفرض التجنيد الإجباري في العام 1956 على أبناء الطائفة الدرزية، وهو أمر ساهم إلى حد كبير في توسيع الشرخ بينهم وبين بقية أبناء الشعب الفلسطيني. 

لكن منّاع يلفت الانتباه إلى أن الاستعداد المبدئي لآلاف من الباقين للانضمام إلى الجيش عكس مدى ضعف الأقلية العربية في ذلك الوقت، وضعف قياداتها التي لم تجرؤ على معارضة تلك المحاولة علنا. فوضعها الهش لم يكن يسمح لها بالتصدي والمقاومة، وجل ما كانت تسعى إليه هو البقاء في قراها ومدنها ومنع التهجير. 

يتابع منّاع: وقد نجحت هذه الأقلية المستضعفة في تحقيق هدفها وصارت اليوم جماعة قوية تحمي نفسها، وتساهم في نضالات الشعب الفلسطيني من أجل الحرية والاستقلال.