الكتاب: "توجّهات النخبة السياسية الفلسطينية نحو الصراع العربي – الإسرائيلي"
المؤلف: الدكتور عزام عبد الستار شعث
الناشر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات 2019
الصفحات: 300 صفحة من الحجم الكبير
"توجّهات النخبة السياسية الفلسطينية نحو الصراع العربي ـ الإسرائيلي" هو عنوان كتاب للدكتور عزام عبد الستار شعث، يمثِّل إضافة في مجاله بتسليط الضوء على هذه النخبة وتشكّلها وتوجّهاتها. تتوزّع مضامين الكتاب على أكثر من مائتي صفحة، تليها ملاحق من عشرات الصفحات، وهو يقوم على دراسة أنجزها الباحث وكرّسها لفحص توجّهات النخبة السياسية الفلسطينية وتحليلها والكشف عن طبيعة دورها في إدارة الصراع مع الاحتلال وقياس اتجاهاتها.
صدر الكتاب الجديد عن "مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات"، الذي نشر سابقاً ما يدخل في مباحث النخبة السياسية، لاسيما كتاب "سمات النخبة السياسية الفلسطينية قبل وبعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية" الصادر عام 2009، وهو من تأليف سمر جودت البرغوثي.
ويكتسب الكتاب الجديد للدكتور عزام شعث، الواقع في زهاء ثلاثمائة صفحة من القطع الكبيرة، أهمية إضافية بالنظر إلى أنّ الدراسة تتناول قضية راهنة تتّصل بواقع الشعب الفلسطيني ومستقبل قضيّته في لحظة دقيقة، خاصة مع حالة الانسداد القائمة والمآزق المتراكمة التي تعتريها من جانب؛ وتفاقُم مخاطر استشراء الاحتلال وتصفية القضية في هذه المرحلة من جانب آخر.
فصول الدراسة ومضامينها
يقع كتاب "توجّهات النخبة السياسية الفلسطينية نحو الصراع العربي ـ الإسرائيلي"، في فصول خمسة تسبقها مقدمة وتليها خاتمة، والفصول مكرّسة على التوالي لبحث نخبة منظمة التحرير الفلسطينية، ثم نخبة السلطة الفلسطينية، ثم دور المقاومة الفلسطينية في معادلة الصراع، ثم دور التسوية السياسية في معادلة الصراع، يليها الفصل المشتمل على نتائج الدراسة الميدانية.
يستعرض الفصل الأول من الدراسة؛ المساعي الرسمية لإنشاء الكيان الفلسطيني، وبنية النظام السياسي الفلسطيني، ومراحل تشكّل النخبة السياسية الفلسطينية في إطار منظمة التحرير خلال المرحلة الممتدة من سنة 1964، أي عندما تأسست المنظمة، وحتى سنة 2017، وعبر هذه المدة التي تتجاوز نصف قرن تقلّبت القضية الفلسطينية ونخبتها السياسية بين محطات شائكة وحرجة.
يتناول هذا الفصل آليّات تشكّل النخبتيْن التشريعية والتنفيذية من خلال المجلس الوطني والمجلس المركزي واللجنة التنفيذية للمنظمة، والظروف التي أثّرت في إنتاجهما، ومن ذلك نظام المحاصصة (الكوتا) التي كانت، وما زالت، فصائل منظمة التحرير تلجأ إليها لتصعيد نخبتها إلى المؤسسات التشريعية والتنفيذية وإلى أطر المنظمة ولجانها المختلفة. الأمر الذي يعني أنّ المنظمة لم تكن تعتمد نظاماً انتخابياً في اختيار أعضائها أو من يتولّون المناصب القيادية في مؤسساتها، وكان لهذا تبريراته عادة (ص 37-38، 221).
في الفصل الثاني تتناول الدراسة هيكل مؤسسات السلطة الفلسطينية وبنيتها، باعتبارها المكوِّن الثاني للنظام السياسي الفلسطيني، وآليّات تشكّل النخبة السياسية في أطرها، وهي التي تأسّست في أعقاب توقيع اتفاق أوسلو (1993 ـ 1994)، وذلك عبر لجوئها إلى تنظيم الانتخابات العامة التشريعية والتنفيذية في مناطق السلطة في السنوات 1996، 2005، 2006.
وتشير الدراسة إلى أنّ هذه الانتخابات تُعَدّ أول مظاهر الديمقراطية في النظام السياسي الفلسطيني بعد ما يزيد عن ثلاثين عاماً أبقت فيها المنظمة على نظام المحاصصة في مؤسساتها كافّة، وهذا ما ميّز السلطة الفلسطينية من جهة الآليّات التي لجأت إليها لاختيار أعضاء النخبة السياسية في السلطة التشريعية (ص 71). كما مهّد قيام السلطة الطريق أمام تشكّل نخبة سياسية فلسطينية جديدة لها سماتها ومواصفاتها الخاصّة، التي جمعت ما بين "النخبة المحلية"، أي نخبة الضفة والقطاع، و"النخبة العائدة" إلى مناطق السلطة عقب توقيع اتفاق أوسلو.
وميّزت الدراسة في هذا الفصل بين مرحلتين من مراحل توليد النخبة السياسية في إطار السلطة؛ المرحلة الأولى تلت الانتخابات التشريعية والرئاسية سنتي 1996 و2005، وقد عُرفت النخبة السياسية المتشكِّلة في هذه المرحلة بالنخبة التقليدية ذات الطيف السياسي الواحد وهي النخبة التي أيّدت اتفاق أوسلو، ثم المرحلة الثانية بعد الانتخابات التشريعية سنة 2006 التي عرفت مشاركة واسعة للفصائل الفلسطينية، وبناء على ذلك تجدّدت النخبة السياسية وتنوّعت في المؤسستين التشريعية والتنفيذية للسلطة. كما ترافق ذلك مع بروز تمظهرات أخرى للنخب الفلسطينية. لكنّ مفارقة مرحلة النخبة السياسية في السلطة ذات الطيف الواحد تلازم مع حالة انقسام في البيت السياسي الفلسطيني بعد سنة 2006، كما تلحظ الدراسة.
أما الفصل الثالث فيستعرض تطوّرات الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ويسرد الخيارات التي لجأ إليها الفلسطينيون في إدارة الصراع. جاء من ذلك استخدام القوى والمنظمات الفدائية أداة المقاومة بصورتيها الشعبية المسلّحة والشعبية السلمية، وتأثُّر خيار الكفاح المسلح بشروط الواقع وحرية الحركة المتاحة له وبالظروف الإقليمية. ويتناول الفصل ذاته مفهوم المقاومة المسلّحة والسلمية في الفكر السياسي الفلسطيني.
ثمّ يأتي الفصل الرابع ليصف التحوّلات السياسية التي شهدتها منظمة التحرير بانتقالها من هدف التحرير الشامل إلى التسوية السياسية والحلول المرحلية بوساطة دولية، وهذا بدءاً من سنة 1974. ويستعرض الفصل تطوّرات المشهد الفلسطيني على صعيد التسوية والعلاقة مع الجانب الإسرائيلي والوساطات والمبادرات الدولية والإقليمية ذات الصلة.
وفي الفصل الخامس تتحرّى الدراسة توجّهات النخبة السياسية الفلسطينية نحو الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بسؤال أعضاء النخبة ذاتها عن رؤيتهم لمستقبل الصراع في ضوء المأزق القائم الذي يتجلّى في عدم تحصيل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. ويقوم الفصل على دراسة ميدانية تشتمل على مبحثين: تضمّن أولهما الإجراءات الميدانية للدراسة وعرض الثاني لنتائج الدراسة ومناقشتها.
وتمّت الدراسة على عيِّنة قصدية من خمسين شخصية من النخبة السياسية الفلسطينية من اتجاهات متعدِّدة، من أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وأعضاء المجلس التشريعي، ووزراء الحكومة السابعة عشرة المسماة "حكومة التوافق الوطني"، وأعضاء في المكاتب السياسية لستة فصائل هي حركتا "فتح" و"حماس" والجبهتان الشعبية والديمقراطية والجهاد الإسلامي وحزب الشعب. وتمّ سؤال العينة عبر استمارة تتضمّن أسئلة تتوزّع على قسمين؛ البيانات الشخصية لعضو النخبة والأسئلة المتعلقة بالموقف السياسي. وتوزّعت هذه الأخيرة على محاور ثلاثة: الأهداف الوطنية الفلسطينية، وآليّات حلّ الصراع، وآليات الحل الدولية والإقليمية للصراع.
حيرة النخبة واضطراب الخيارات
تمنح نتائج الدراسة الميدانية التحليلية انطباعاً بأنّ النخبة السياسية الفلسطينية تقف بحالة انتظارية بلا خيارات ملموسة تحظى بقدر كافٍ من الوضوح والتوافق، فهي غير راضية عن مآل مشروع التسوية لكنها لا تملك رؤية متماسكة أو مشروعاً بديلاً على ما يبدو من إجاباتها. فمعظم النخبة تؤيد إنهاء اتفاقات أوسلو (72%)، وثمة إقرار جارف بأنّ المفاوضات بعد إعلان ترمب بشأن القدس لم تعد ذات جدوى وطنية (80%) (ص 215). لكنّ الدراسة تشي بحيرة النخبة السياسية الفلسطينية في التعامل مع واقع الانسداد القائم، وتعبِّر بعض التوجّهات عن اضطراب في الخيارات. فبينما تؤيد ثلاثة أرباع النخبة (76%) عقد مؤتمر دولي كامل الصلاحيات على أساس الشرعية الدولية لحل الصراع، فإنّ أكثر من النصف (52%) أفصحوا عن رأيهم بأنّ ميزان القوى الحالي لا يسمح ببلورة مبادرة سياسية دولية جديدة لحلّ الصراع.
الدراسة تبيِّن أنّ 96 في المائة من النخبة السياسية الفلسطينية المبحوثة لا تعتقد بأنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترمب سيتقدّم بخطة سلام تلبِّي تطلّعات الشعب الفلسطيني في إنهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية
البحث عن دور دولي بديل
تُفهَم هذه النتائج، نسبياً، بالتعويل على دور دولي بديل عن الرعاية الأمريكية للمفاوضات، وهو ما يتّضح مع قناعة 54 في المائة من المبحوثين بإمكانية إيجاد راعٍ لعملية السلام بديل عن الولايات المتحدة إلى حدّ ما. في التفاصيل يقبل 48.2 فى المائة بالأمم المتحدة كراعٍ للتسوية، و17.9 في المائة يقبلون بأعضاء مجلس الأمن دائمي العضوية لهذا الغرض، و16.1 في المائة يقبلون برعاية الاتحاد الأوروبي، و8.9 يقبلون برعاية روسيا، و7.1 في المائة يقبلون برعاية صينية، أمّا الولايات المتحدة فلم تحظَ بأكثر من 1.8 في المائة في هذا الشأن، وهو ما يحمل دلالة عميقة بشأن خبرة ربع قرن من التسوية المتعثرة التي تم استهلالها بالمراهنة على الدور الأمريكي (انظر الفصل الرابع، ص 143-172).
ثمة إقرار واضح في هذا السياق بما طرأ من تغيّرات في آفاق التسوية، حتى أنّ 8 في المائة فقط يعتقدون أنّ المبادرة العربية ما زالت صالحة لحل الصراع (ص 217)، وهو ما يثير تساؤلات بشأن جدية قناعة النخبة السياسية الفلسطينية بالخيارات المعروضة عربياً في المستوى الرسمي لحل الصراع، أخذاً بعين الاعتبار أنّ قمّة الظهران العربية "قمة القدس" المنعقدة في سنة 2018 واصلت التمسّك بالمبادرة العربية للسلام التي تم إطلاقها سنة 2002. تشير النتائج أيصاً إلى أنّ 44 في المائة من المبحوثين يؤيدون حلاً سياسياً إقليمياً يضمن إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967 (ص 216).
حيرة مفهومة
يمكن فهم أمارات الحيرة الماثلة في بعض توجّهات النخبة والاضطراب النسبي في خيارات التعامل مع الانسداد القائم، حسب ما يتضح من نتائج الدراسة؛ في واقع التكبيل الذي آلت إليه القضية الفلسطينية عموماً، و"القيادة الفلسطينية" والنظام السياسي الفلسطيني الناشئ بعد اتفاقيات أوسلو خصوصاً، وهو تكبيل قائم بالاتفاقات الموقعة وما ترتّب عليها، فالقيادة ومعها السلطة والمؤسسات والنخبة السياسية ذاتها، محاصرة جغرافياً وسياسياً ومالياً باشتراطات واقع يتحكّم به الاحتلال وتهيْمن عليه الولايات المتحدة، علاوة على تضعضع الواقع الإقليمي العربي وغياب الظهير الدولي.
وجسّدت المؤتمرات العامّة لحركة "فتح" المنعقدة بعد قيام السلطة الفلسطينية، أي بدءاً من المؤتمر السادس المنعقد سنة 2009 في بيت لحم، واقع الانسداد ومأزق الارتهان للوضع القائم دون الانفتاح على خيارات بديلة، وهو ما يُلحظ في تفاصيل السرد الذي تضمنته الدراسة (ص 148 مثلاً).
انهيار حل الدولتين
ما يُفاقم المعضلة أنّ النخبة السياسية الفلسطينية، خاصة المرتبطة منها بمشروع السلطة القائم على التسوية السياسية وعلى أنّ المفاوضات خيار استراتيجي؛ تواجه في المرحلة الراهنة تحديداً مأزق تضعضع مشروع الدولتين بالصفة التي حدّدتها الرباعية الدولية في العقد الماضي. فإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب تدفع باتجاه تصفية القضية الفلسطينية خطوة خطوة لا تسويتها كما يقضي بذلك اتفاق أوسلو أو خطوط الرباعية، وهذه الإدارة ماضية على ما يبدو في حسم بعض ملفّات القضية، كما اتضح في شأن القدس، بمعزل عن المسار التفاوضي، علاوة على ما يلوح في الأفق الوشيك تحت عنوان "صفقة القرن".
ويفرض الاحتلال واقعاً مستشرياً على الأرض يتكرّس فيه الاستيطان وتتقلًص فيه فرص التواصل الجغرافي لمناطق الدولة الفلسطينية المفترضة حسب مشروع الرباعية؛ فلا تعود معه أي فرصة لدولة فلسطينية مرتقبة "قابلة للحياة" أساساً. ويتكرّس مع الوقت الدور الوظيفي لأجهزة السلطة الفلسطينية الأمنية بصفة تقف على النقيض من خيار المقاومة المسلّحة وبما لا ينسجم مع ثقافة المقاومة الشعبية أيضاً، بينما يتعمّق الانقسام في البيت السياسي الفلسطيني وتتسع الهوّة الإدارية بين الضفة والقطاع.
ما يزيد من خطورة هذا المأزق، أنّ النخبة السياسية الفلسطينية تبدو متشائمة في إمكانية رأب الصدوع الداخلية والاتفاق على وجهة فلسطينية واحدة، فالدراسة تُظهر أنّ أقل من نصف النخبة السياسية الفلسطينية حسب العينة المبحوثة (48%) تعتقد بإمكانية أن تتفق القوى السياسية الفلسطينية على برنامج سياسي واستراتيجية موحّدة لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي إلى حدّ ما (ص 215).
وسطاء الخداع.. عن حقيقة الدور الأمريكي في عملية السلام
دعوة لتأسيس علم مقاصد الدين من منطلق تجديد فاعلية علم الكلام
رؤى غربية عن إشكاليات صلاحية الشريعة لبناء نظام قانوني