الكتاب: الشريعة الإسلامية وتحديات الحداثة
تحرير: إيفون يزبك وباربرا شتو فازر
ترجمة: شريف مجدي وعبد الرحمان عادل
الناشر: عالمك الأدب للترجمة والنشر
الطبعة الأولى: 2019، بيروت- لبنان
عدد الصفحات: 400 صفحة
يناقش هذا الكتاب بؤرة التوتر بين الإسلاميين والعلمانيين، والمرتبطة بصلاحية الشريعة الإسلامية لتأطير النظام الدستوري والقانوني في الراهن الحالي، والتحولات التي عرفتها المجتمعات العربية الإسلامية، وتأرجحها بين إقرار سلطة الشريعة ومرجعيتها، وبين الإفادة من المنظومات الثقافية الغربية المرتبطة تحديدا بمنظومة حقوق الإنسان، كما يعرض للجدل الدهري المستعصي بين وجهات النظر التي تنتصر لسمو المنظومة القانونية الدولية، وبين احتفاظ قاعدة مهمة من المجتمع بحقه في تحديد القوانين الخاصة به، والحفاظ على تقاليده الموروثة. كما يتعرض للمسار والديناميات التي عرفتها المؤسسات القانونية في المجتمعات العربية الإسلامية، وشكل تمثلها للمرجعيات القانونية الغربية كليا أو جزئيا، والجهود التي تم القيام بها للتكيف مع هذه القوانين، ومحاولة إضفاء الطابع الإسلامي عليها (محاولة أسلمتها).
على الرغم من محدودية المجالات التي بقيت فيها الشريعة مهيمنة على المجال القانوني والتشريعي، فقد سجل الكتاب استمرار مفهوم سيادة الشريعة الإسلامية على جميع مجالات الحياة
وقد ضم الكتاب ثمانية فصول، يعرض كل فصل منها إلى دراسة مستقلة لأحد الباحثين سواء من العرب أو الأجانب، لكنها في مجموعها، تندرج ضمن خلفية فكرية واحدة مع وجود قدر من الاختلاف والتباين في بعض الآراء حول قابلية الشريعة للتكيف مع النظم القانونية وعدم قابليتها.
مسارات التحديث والابتعاد عن الشريعة
يستعرض الكتاب مسارات التحديث والاقتراب من التشريعات الغربية وذلك من القرن التاسع عشر، بدءا من التحلل من الإرث الفقهي المهيمن على الأطر القانونية، وانتهاء بالتحرر من الإرث العثماني وآثاره على المنظومة القانونية، تعريجا على الصراع الذي حصل على خلفية المرجعية القانونية بين الاستعمار والبلدان المستعمرة، وكيف آلت الأمور بعد الاستقلال إلى الاقتراب من المنظومات القانونية الغربية، وطرح جدوى صلاحية الشريعة لتأطير الحياة القانونية للمجتمعات العربية الإسلامية خاصة في مجال فقه الأسرة أو ما يعرف بالأحوال الشخصية. واستعرض الكتاب جهود الإصلاحيين الأوائل في محاولة تكييف الفقه الإسلامي مع المتطلبات القانونية الحديثة، من خلال فقه الأسرة.
وعلى الرغم من محدودية المجالات التي بقيت فيها الشريعة مهيمنة على المجال القانوني والتشريعي، فقد سجل الكتاب استمرار مفهوم سيادة الشريعة الإسلامية على جميع مجالات الحياة في مختلف مجالات التشريع التجاري والجنائي والمدني وغيره. ويرى الكتاب أن النخب قبلت التشريعات الغربية باعتبار أنها صارت ضرورة، لكن دون إضفاء الطابع الشرعي على التغييرات التي طالت الفقه الإسلامي المؤطر لهذه المجالات.
يسلط الكتاب الضوء على الجدل الذي ثار بين العلمانيين والإسلاميين على خلفية مزاعم الطرح العلماني بفقدان الشريعة لقوتها المعيارية بسبب عدم قابليتها للتطبيق
ويتوقف الكتاب عند لحظة السبعينيات، وأثر سقوط الإيديولوجيات العلمانية القومية والاشتراكية بعد النكسة في بروز تيار الصحوة الإسلامية الذي أعاد طرح مفهوم سيادة الشريعة وشمولها، وركز - بوازع إيماني - على إعادة استخدام المعايير الشرعية للحلال والحرام كمعايير أخلاقية، في حين برزت في المقابل مع هذا التيار الدعوي، وجهة نظر جديدة تربط عودة الشريعة بالأصالة واستعادة الاستقلالية الثقافية، وذلك عبر المطالبة بالإقرار الدستوري بمرجعية الشريعة الدستورية والقانونية.
ويسلط الكتاب الضوء على الجدل الذي ثار بين العلمانيين والإسلاميين على خلفية مزاعم الطرح العلماني بفقدان الشريعة لقوتها المعيارية بسبب عدم قابليتها للتطبيق، ويشير في هذا الصدد، لموقف الأستاذ التونسي محمد الشرفي، المتخصص في القانون، في حين يشير في الجهة المقابلة لموقف الإسلاميين الذين يؤكدون على سلطة الشريعة، وأنها سابقة ومهيمنة على الممارسات الاجتماعية، بحيث يطلب في حالة التعارض بينهما تغيير الممارسات الاجتماعية وليس تغيير مقتضيات الشريعة لتتكيف مع هذه التحولات، ويمثل لذلك بأطروحة سيد قطب منظر الإخوان المسلمين.
ويسجل الكتاب مفارقة دالة بين موقف الإسلاميين الذين يدعون إلى استعادة سلطة الشريعة وبسط سيادتها على مختلف المجالات القانونية، وبين الجهود المحدودة التي بذلك لتطوير وجهات نظر مبتكرة تخص أساليب الشرعية للفقه التقليدي، ويذكر من ضمن هذه الجهود القليلة، مساهمة الشيخ محمد الغزالي والشيخ يوسف القرضاوي، اللذين توصلا إلى صيغ جديدة للحقوق الاجتماعية والسياسية للنساء المسلمات في التسعينيات من خلال الفقه الإسلامي. كما أشار الكتاب لجهود الاجتهاد والتجديد التي انطلقت من أرضية الشريعة لمسايرة مسارات الحداثة والتحديث.
وائل حلاق ومفهوم الترقيع الرث
في الفصل الأول من الكتاب، تنتصر مساهمة وائل حلاق لفكرة عدم قابلية الشريعة للتطبيق، ويرى أن الدولة القومية الحديثة والمسار الذي قطعته، يجعل من إمكانية العيش في ظل نظام شرعي شامل أمرا غير ممكن الحصول، ويعتبر أن ما يتم تقديمه استنادا إلى الشريعة من إصلاحات وتغييرات واجتهادات تقدم لتبرير قدرة الشريعة على التكيف هو بمثابة ترقيع رث.
ويذهب وائل حلاق إلى أنه في الوقت الذي يدفع فيه الضغط الغربي الجاثم على المجتمعات العربية للتأقلم مع المنظومة القانونية الدولية، تحاول الدول القومية أن تخلق عنصر التوازن وذلك بالمواءمة بين التكيف مع هذه المنظومات وعدم خسارة التقاليد الشرعية الموروثة، والذي يبقى حكرا على قضية الأحوال الشخصية، ويرى أن ذلك سيدفع مع التحولات الاجتماعية، إلى حصول توتر بين النسيج الاجتماعي وبين القانون. ويرجع وائل حلاق ضعف الفقه الشرعي عن التكيف مع التحولات الاجتماعية إلى سيطرة الدولة القومية على الأوقاف، وفقدان المدارس الشرعية والفقهية لمصادر التمويل التي كانت تعتمد عليها لإنتاج رؤاها التجديدية باستقلال عن السلطة السياسية، وأن ذلك هو الذي تسبب في تدمير تقاليد هذه المؤسسات في التجديد والاجتهاد الشرعي.
تجربة التكيف بين الشريعة والقانون
يستعرض الفصل الثاني من الكتاب، نقاشا مهما يتناول تجربة المحكمة الدستورية في مصر في الجمع بين مطلب جعل الشريعة مصدرا للأحكام، وبين المواءمة وإحداث التوازن مع
القوانين الوضعية التي تمت صياغتها بمقصد تحقيق مصلحة الشعب، ويرى ناثان براون وعادل شريف ـ خلافا لوائل حلاق ـ أن التجربة المصرية أثبتت أن الشريعة يمكن أن تعمل ضمن إطار دستوري حديث، فعلى الرغم من أن هذه التجربة لم تتطور بعد، فقد رسخت طوال العقدين الماضيين فكرة أن مبادئ الشريعة تمثل نظاما قانونيا يسد إلى حد كبير احتياجات الغالبية العظمى من السكان دون أن يحدث أي مس بحقوق الأقليات الدينية في مصر.
وقريبا من الرأي الذي أسس له وائل حلاق، يرى سكوفجارد بيترسن في دراسته المقارنة عن الفعالية القانونية والاجتماعية والسياسية لمفتي الدولة في سوريا ولبنان ومصر ـ نشرت في الفصل الثالث من هذا الكتاب ـ أن سيطرة الدولة على أموال الأوقاف قد أثرت في استقلالية نظام الإفتاء الرسمي وسلطته، مما دفع بعض أعضائه في بعض الحالات إلى دعم سياسات للدولة تعرضت لمقاومة شعبية شديدة على خلفيات دينية. لكن على الرغم من ذلك، يسجل الباحث أن ذلك لم يمنع نظام الإفتاء الرسمي من إنتاج مواقف معارضة للسلطة السياسية، أو على الأقل شحذ القاعدة الشعبية للرأي العام للتأثير على القرار السياسي، كما يشير الباحث للمناورات التي يقوم بها المفتي حين يشعر بضعف موقعه فيلجأ إلى تقويتها من خلال الانحياز للقاعدة الشعبية للرأي العام.
التجربة المصرية أثبتت أن الشريعة يمكن أن تعمل ضمن إطار دستوري حديث
وتدرس آن ماير في الفصل الخامس من الكتاب، فكرة وائل حلاق عن التوتر الحاصل في المنظومات القانونية العربية بين الأحوال الشخصية أو مدونات الأسرة، وبين الأنظمة القانونية الأخرى ومحدودية التجانس بينهما. وترى أن هذا الوضع قد أفسد المصداقية الدولية، وذلك لأن الأمم المتحدة تضطر ـ حسب الباحثة ـ إلى تصديق حكاية محافظة الحكومات العربية على الشريعة في مجال الأحوال الشخصية استجابة للإرادة الشعبية، في حين يتم إهمال هذه الشريعة في المجالات الأخرى. وتعتبر أن ذلك يشكل مناورة مزدوجة من قبل الحكومات، وذلك بهدف تهدئة القواعد الشعبية المحافظة، ثم بهدف إظهار تكيفها مع المنظومات الحقوقية وسعيها لجعل القوانين أكثر اتساقا مع "السيداو".
وفي السياق نفسه تقريبا، تدرس لمى أبو عودة في الفصل السابع من الكتاب، النقاشات المصرية الحديثة والمعاصرة المتعلقة بقانون الأسرة وحقوق المرأة، وتعتبر أن الأنظمة القانونية قد أصبحت في تمثلات المجتمع والحكومات تمثل الأصالة الثقافية، وأن الدفاع عنها يمثل تحديا للنظام القانوني الأوروبي. وتعتبر الباحثة أن قانون الأسرة قد تمكن من الاحتفاظ بوضعه في الشرق الأوسط على الرغم من رسوخ القوانين الأوروبية في هذه المنطقة، وأن ذلك كان له تأثير على الحركة النسوية المصرية، إذ ألزمها بالاشتغال على ثلاث أبعاد أو دفعها للنضال على ثلاث جبهات، إذ تجعل من برنامجها النضالي مناقشة قوانين الأسرة وما يرتبط بالنوع الاجتماعي من زاوية علاقته بالمرجعية الإسلامية من جهة، والقوانين الأوروبية من جهة ثانية، ثم من زاوية صلته الوثيقة بالنظام الذكوري السلطوي من جهة ثالثة.