عدت في شهر رمضان لقراءة أدبيات التاريخ المعاصر لتونس، خاصة الظروف التي تهيأت للاحتلال الفرنسي سنة 1881. استفزني في الحقيقة أحد المسلسلات لقناة تجارية يدعي رصد مرحلة القرن التاسع عشر وما سبق الاحتلال الفرنسي، لكنه يغرق في تفاصيل "حريم السلطان" في تقليد بدائي للمسلسلات التركية الرائجة. المحبط أكثر هو توظيف غير المختصين من المؤدلجين الهستيريين في "المراجعة التاريخية" للمسلسل.
معطيات ما قبل سنة 1881، وخاصة تورط قيادات كبيرة في الدولة التونسية، على رأسها الباي، في تهيئة ظروف إفلاسها وبروز الدول الأجنبية (خاصة الثلاثي الفرنسي- البريطاني- الإيطالي) كبديل مالي، معروفة، غير أن الغوص في تفاصيل هذا المسار وإعادة قراءة مصادر تلك الفترة دائما؛ معين كبير للاعتبار، خاصة أننا الآن، وبعودة نخبة الدولة القديمة للسلطة واهتراء القدرة على السيطرة على الوضع الاقتصادي وهيمنة صندوق النقد الدولي على السياسات العمومية، نعيش حالة تشبه في بعض الجوانب ما حدث سابقا.
المسألة التي تستحق التركيز هنا هي: هل المزايدون بالوطنية من نخبة الحكم التقليدية، والذين يحكمون بذريعتها، سيكونون في مقدمة التصدي لمن يريد الهيمنة عليها؟ أم هم حلفاؤهم الموضوعيون؟
تجربة الغزو الفرنسي لتونس بين شهري نيسان/ أبريل وأيار/ مايو سنة 1881 هي حالة مخبرية ثمينة للغاية لتعرية النخب التقليدية الحاكمة، والتي بعض أسرها وشبكاتها العائلية الموسعة لا زالت مؤثرة إلى الآن. وقائع الهيمنة العسكرية الاستعمارية في ربيع صيف 1881 مرآة لا تقدر بثمن؛ للكشف عن المكنون والمخفي خلف الخطابات الرنانة.
في 26 نيسان/ أبريل 1881، وبدون إطلاق رصاصة، واحدة اقتحمت قوات الاحتلال الفرنسي الكاف، أول مدينة تونسية، بقيادة الجنرال لوغيرو (Logerot)، إثر استسلام رشيد باي، حاكم المدينة، لتدخل القوات الفرنسية المدينة منشدة المارسييز.
قبل ذلك بيومين (24 نيسان/ أبريل)، يعرض "الشيخ قدور"، زعيم الطريقة الصوفية القادرية في الجهة، خدماته لقوات الاحتلال عبر الموظف القنصلي الفرنسي في الكاف (روي Roy). البرقيات االسرية المتبادلة بين الأخير والسفير الفرنسي في تونس روستان (Roustan) تشير إلى أن السفير شجع أي عمليات استسلام، وعرض خدمات و"إهدار غير ضروري للدماء". اتصالات روستان بالباي في تونس تشير إلى أن هناك قرارا من أعلى سلطة بتجنب المواجهة العسكرية مع القوات الفرنسية. في المقابل (حسب شهادة روي)، فإن قبيلة "الخمامسة مع جيرانهم" في الكاف تجمعوا بتحريض من بعض شيوخ الدين منهم الشيخ علي بن عيسى لإعلان الجهاد، وأن الأخير تشبث بذلك الموقف، إلا أن النخبة المحلية (قضاة وأعيانا) مع رشيد باي؛ أصروا على الاستسلام وفتح أبواب المدينة.
يوم 1 أيار/ مايو 1881 كان يوم اقتحام قوات الاحتلال الفرنسي لمدينة بنزرت. ومثل الكاف، لم يتم إطلاق رصاصة واحدة. استسلم الباي حاكم المدينة، وهو صهر ملك البلاد، دون أن يخوض أي قتال، ولم يستغرق إقناعه لفتح أبواب المدينة ساعات قليلة، واشترط مكتوبا فرنسيا بأنه لم يرضخ إلا تحت القوة. كان يحتاج غطاء فرنسيا لتسليمه المدينة بلا قتال.
في تلك الأيام في الحاضرة (تونس) كان الخلاف واضحا بين الباي الذي لم يكن ينوي القتال إلا إذا وجد حلفاء دوليين (الإيطاليين والبريطانيين)، وإلا فإنه يريد "السلام" أي الاستسلام، وفي يوم احتلال بنزرت اكتفى بتوجيه "برقية احتجاج" للسفير الفرنسي روستان.. في المقابل، تنقل التقارير الفرنسية أن شيوخ الدين فقط كانوا يشكلون مصدرا للتحريض على القتال. بالمناسبة، كان هناك احتقان كبير في جهة بنزرت ضد الفرنسيين رغم استسلام الدينة. فتح احتلال بنزرت الباب أمام إنزال بضعة آلاف من القوات الفرنسية في مينائها، والأهم فتح الباب أمام تقدم سريع نحو الحاضرة.
إثر احتلال بنزرت وإنزال ستة آلاف جندي فرنسي في مينائها، توجه رتل قوات الاحتلال بقيادة الجنرال بريارت (Bréart)، بدءا من يوم 8 أيار/ مايو بتؤدة إلى مدينة تونس. دخل صباح يوم 12 أيار/ مايو إلى إحدى ضواحي العاصمة، تحديدا منطقة منوبة (حيث توجد بعض قصور الباي).
في كل هذه الأثناء، اكتفى ملك البلاد محمد الصادق برد فعل واحد، هو احتجاجه لدى السفير الفرنسي "لتواجد القوات الفرنسية قرب مقر إقامته"، ثم أرسل يطلب قبول الجنرال بريارت في قصره، كأنه ضيف قادم في زيارة مجاملة.
في ذات اليوم الساعة الرابعة ظهرا امتطى الجنرال الفرنسي مع مساعديه خيولهم تحت الأمطار الغزيرة متجهين إلى باردو، حيث استضافهم الصادق باي برفقة وزيره الأكبر (غلامه سابقا) مصطفى بن إسماعيل. سبق الجنرال الفرنسي برقية أوصلها سفير باريس، عرضت تفاصيل اتفاقية "الحماية". طلب الصادق باي أن يجتمع بمستشاريه. لم يقض سوى ساعتين ليخرج بعدها مستعدا للإمضاء أمام الجنرال الفرنسي على "اتفاقية" الاحتلال. هكذا سقطت مدينة تونس... أيضا بدون إطلاق رصاصة واحدة. واعترف ملك البلاد بالسلطة الفرنسية على كامل أراضيه.
في المقابل، عندما كان الصادق باي يرتب استسلام المدينة تلو الأخرى كانت قبائل خمير في الجبال تدافع على شرف البلاد. بين 24 نيسان/ أبريل و12 أيار/ مايو، منذ دخول قوات الاحتلال البلاد إلى إمضاء الصادق باي على "اتفاقية" الاحتلال كان هناك مساران في رد فعل التونسيين: السلطة المعنية رسميا بالدفاع عن البلاد مسنودة بنخبتها (من أعيان المدن وقضاة ومشائخ الطرق الصوفية الأكبر) كانت تتهيأ بنسق تصاعدي للاستسلام الكامل. مدن الكاف وبنزرت (تحت إشراف أقرباء ملك البلاد) وتونس استسلمت على التوالي بدون أي مقاومة… في المقابل، كان المجتمع الأهلي (من قبائل وإعراب ومشائخ طرق مهمشة) يقومون بما كان يجب أن تقوم به الدولة، أي مقاومة الغزو.
أول مقاومة مسلحة تصطدم بالقوات الغازية كانت في جبال خمير من القبائل المسماة بذات الاسم (والتي يبدو أنها تنتسب بشكل مختلط إلى أصول أمازيغية وعربية). كانت تتمركز في المنطقة الجبلية الحدودية مع الجزائر وجنوب مدينة طبرقة، بل كانت ملاحقة قبائل خمير هي الذريعة وراء الغزو الفرنسي منذ شهر شباط/ فبراير.
الجنرال الفرنسي لوغيرو دوّن كيف لاحقت القوات الفرنسية بصعوبة محاربي القبائل من قمة جبلية إلى أخرى. كان مقر الولي الصالح سيدي عبد الله أبو الجمال مركز المقاومة، حيث تم تجميع الأسلحة "أنتيشان" أحد مرافقي الحملة الفرنسية قال معلقا: "إن إحتلال مقام الولي مثّل الحدث الأكثر أهمية في الحملة"... لم يكن احتلال ثلاث مدن كبرى هو أهم حدث، بل احتلال مقام ولي صالح معزول في قمة أحد الجبال.
الذاكرة الشعبية خاصة الشعرية التي سجلت في الذاكرة الوطنية صدى معارك جبال خمير ومن أشهر مقاطع هذه الذاكرة:
الباي باع الوطن كيف يصير.. ما عاد له تدبير
الله ينصرك يا جبل خمير.. الله ينصره ويحميه
هذه القصيدة التي سجلت لحظات الاحتلال رغم هيمنة السردية الاستعمارية قالت كل شيء. الباي باع الوطن. والمجتمع الأهلي بقي صامدا في الجبال لوحده.