بعد 22 عاما من آخر انعقاد للمجلس الوطني
الفلسطيني، قرر الرئيس الفلسطيني محمود عباس عقد دورة جديدة للمجلس الوطني الفلسطيني في مدينة رام الله بالضفة المحتلة، وليس في الشتات، متجاهلا بذلك قرارات اجتماع اللجنة التحضيرية للمجلس العام الماضي، وبمشاركة الشخصيات والتنظيمات التي ترفض حضوره تحت حراب المحتل، وتلك التي تشكك بشرعية انعقاده في ظل الانقسام الفلسطيني، وبدون مشاركة القوى خارج المنظمة فيه.
قاطعت
حماس والجهاد اجتماع المجلس الذي لم تدع إليه أصلا، وتضامنت معهم الجبهة الشعبية في ظل الخلافات الفلسطينية والحصار الذي يقوم به عباس لقطاع غزة تحت حجج ومبررات مختلقة.
ويأتي هذا الانعقاد في ظل صفقة القرن المرفوضة فلسطينيا، والتي تحتاج لتكثيف الجهود ضدها حتى لا تعصف بقضايا القدس واللاجئين المستوطنات. وفيما يدعي عباس رفضه لها، فإنه في الوقت ذاته يهيئ الأجواء لنجاحها بإضعاف الجبهة الداخلية الفلسطينية، وتشديد الحصار على قطاع غزة، وخلق أزمات فلسطينية تضعف الجبهة الداخلية.
فصل غزة
وقدم عباس بين يدي المجلس اتهامات لحماس بتدبير محاولة لاغتيال رئيس الحكومة رامي الحمد الله، متجاهلا بذلك اتهامات بمشاركة أجهزته الأمنية في هذه المؤامرة التي تمت تحت سمع وبصر، وربما مشاركة، الاحتلال. ويأتي الانعقاد في ظل محاولات عباس لفصل غزة وعزلها عن المشروع الفلسطيني، بما يهيئ الأجواء للقضاء على المقاومة وتسليم غزة لمخطط أمربكي إسرائيلي عربي لإقامة دولة فلسطينية تستوعب اللاجئين في غيتو سيناء، بعد بث اليأس بالفلسطينيين للقبول بما يعرض عليهم.
حينما يخير عباس فلسطينيي غزة بين الاندماج مع رام الله وتفكيك سلاحها المقاوم، أو المضي بمشروعها لوحده، فكأنما يدعو لفصل غزة عن الوطن، وإقامة دويلة عليها مع بعض من أراضي سيناء لإقامة دويلة فلسطينية لا تسمن ولا تغني من جوع!
وهذا يشكك في موقفه بأنه ضد صفقة العصر، بل ويؤكد تساوقه معها بقصد أو بدون!
وحين يعزل عباس شخصيات وازنة في
فتح ترفض مخططاته ويستبدلها بأخرى، فإنه يضعف الصف الفلسطيني والفتحاوي ويجعل قوى وشخصيات فلسطينية فريسة سهلة لصفقة العصر، لصالح استمرار تفرده وهيمنته على القرار الفلسطيني!
حين يضعف عباس مؤسسات المنظمة ويجعلها عاجزة عن التصدي لصفقة القرن، عبر انتخاب قيادة المنظمة وقيادة المجلسين المركزي واللجنة التنفيذية للمنظمة في رام الله، فإنما يقدم خدمة مجانية للعدو، ويقدم لترمب الأرضية الخصبة لتنفيذ مخططاته.
وحين يسعى لنزع سلاح المقاومة ويجرمها ويلاحق رموزها ويزج بهم في السجون أو يتعاون مع الاحتلال أمنيا لملاحقتهم، فلن يكون ذلك قطعا في صالح المشروع الوطني الفلسطيني أو صموده في وجه مخططات إضعافه.
لا يمكن أن تكون تصرفات عباس انتقامية من حماس فقط، فهذا التفسير يظل قاصرا عن فهم موقفه الحقيقي، فهو لا يتلاعب بقوت أبناء غزة بدون سبب، بل يسعى لإضعافهم وتسليمهم لقمة سائغة للعدو، ويسعى لضرب الروح المعنوية فيهم لمواجهة المحتل ويعمل على إضعاف المقاومة.
ولا يمكن التعامل مع مواقف هذا الرجل بأنها ناجمة عن ردود فعل انفعالية، فمن يعطل المصالحة ويحاصر غزة ويقزم مؤسسات المنظمة لتعمل لصالحه - كما فعل ذلك على الدوام - لا يمكن أن يعمل لخدمة المصلحة الوطنية!
إنقاذ المشروع الوطني
ويستدعي ذلك من القوى الفلسطينية الحية متضامنة مع شخصيات وطنية، أخذ مهمة إنقاذ الوضع الفلسطيني على عاتقهم، وعدم ترك هذا المشروع يضيع أو يتفتت على يد فئة متحكمة في القرار الفلسطيني.
لقد قادت هذه الفئة الوضع الفلسطيني سنوات عديدة، متكئة على تقديم تنازلات سياسية وأمنية للعدو علها تقنعه بتقديم تنازلات في القدس واللاجئين والمستوطنات، وتجاهلت صياغة مشروع حقيقي للمقاومة والتحرير، بل وعمدت على تشويهه ومحاربته على أساس أنه لا يخدم المشروع الوطني.
كما تآمرت هذه القيادة على إجهاض انتفاضات الشعبي الفلسطيني، وعملت على استغلالها لصالح تسوية لا تحقق أدنى تطلعات الشعب الفلسطيني. ولم يكن من ضمن أجندة هذه القيادة تطوير النضال الوطني الفلسطيني، ومراكمة الإنجازات الوطنية التي تحققت في انتفاضات 1987 و2000 و2015 - 2016.
وفضلا عن هذا، كانت هناك مساع للتآمر على المقاومة التي وصفها عباس بأقذع الألفاظ، دون أن يقدم شيئا لدعم الانتفاضة الشعبية السلمية التي قال إنها الأنسب لمواجهة المشروع الصهيوني. وبدلا من كل هذا، تمسك عباس بالمفاوضات واصفا التنسيق الأمني بأنه مقدس، وهو التنسيق الذي عمل ضد المقاومة وبذل كل إمكاناته لإجهاضها، وأسفر عن تشكيل تيار كبير من الأجهزة الأمنية للاندماج به، وهو الذي أسفر عن اختراقات أمنية من جيل يعمل تحت إمرة الاحتلال وينفذ مخططاته!!
إن هذا الوضع الذي وصل فيه الصراع مع العدو إلى هذا الحضيض؛ يلزمه الاتفاق على برنامج وطني يعيد اللحمة أولا للشعب الفلسطيني، ويعزز إمكانات صموده في وجه محاولات الاجتثاث والتركيع، ويؤدي إلى التمسك بالثوابت الوطنية.
إن الانطلاق من حضيض التنازلات إلى تصعيد النضال، ورفض مخططات التهويد والمصادرة وفق برنامج محدد، يمثل المخرج الآمن للقضية من المأزق الذي تعيشه.
بدائل وصعوبات
غير أن عملية إعادة إنتاج الوضع الفلسطيني الداخلي تتطلب من قوى العمل الوطني الاتفاق أولا على برنامج وطني سياسي، وعلى آلية للوصول إليه من خلال تنظيم انتخابات تشمل المنظمة والتشريعي والسلطة.
يمكن البدء مثلا بإعلان إخراج القيادة الحالية من هذا البرنامج، واعتبارها خارجة عن الصف الوطني، والإعلان عن بديل مناسب لتكتل القوى والشخصيات لقيادة هذا المشروع، ولكن كيف يمكن الحصول على شرعية وطنية وعربية لهذا المشروع؟ وما هو البرنامج الذي ستتفق عليه هذه القوى؟
وإذا كان ذلك غير ممكن أو غير مناسب، فهل من المناسب العمل على إنشاء تكتل وطني خارج إطار المنظمة، عبر إجراء انتخابات شاملة تؤدي لقيادة تتصدى للمشروع الوطني؟ وهل من المناسب التفريط بشرعيات المنظمة التي شكلت إنجازا وطنيا فلسطينيا؟
تحتاج هذه الخيارات بحثا فلسطينيا معمقا في ظل ظروف تعصف بقضية فلسطين، على رأسها مؤامرة صفقة القرن والاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة للكيان الفلسطيني، في ظل توثب فلسطيني لمقاومة المحتل، وفق نفس نضالي عال وتعطش لاستعادة روح التضحية والنضال، من أجل القدس والمسجد الأقصى ومقاومة الاحتلال. ويتطلب هذا الأمر الاستفادة من ذلك لصياغة برنامج وطني يقود القضية نحو التمسك بالثوابت لا التفريط بها، كما تفعل القيادة المنهزمة لمنظمة التحرير.