صديقي حسن الكردي الذي لا تعرفه وسائل الإعلام؛ لا يجيد التنظير ولا يستمع إلى أحاديث السياسيين ولا
يهتم بحسابات الواقعيين، إنه فقط يعيش حلماً يسكن جوارحه ويمتزج بروحه ويخالط
أنفاسه. في إحدى ليالي الانتفاضة الأولى كان صديقي حسن الأسير في سجن النقب يتسامر
مع رفاق سجنه فيقول لهم وهو ينظر في نجوم السماء البعيدة: ماذا لو خرجت جموع
اللاجئين الفلسطينيين مرةً واحدةً، وتوجهوا صوب بلداتهم وقراهم المحتلة في مسيرة
سلمية، واقتلعوا الأسلاك والحدود وفرضوا على العالم واقعاً جديداً! لم يزد رفاق
سجن حسن أن نظر بعضهم إلى بعض باهتين، ثم رجعوا إلى أحاديث دنياهم منشغلين.
جمعني الحلم مع حسن
عام 2011، لقد كان صاحب البيان الأول في ذلك العام الذي دعا إلى "ثورة
اللاجئين الفلسطينيين"، مستلهماً مشهد اعتصام ميدان التحرير، ومن ثم انتشرت
فكرته عبر فضاء فيسبوك العابر للجغرافيا، حتى وصلت إلى مجدل شمس ومارون الراس، منذ
ذلك الحين أتقاسم مع حسن رحلات المساء، حيث يشترك كلانا في حب الطبيعة دون أن نرى
انفصالاً بين هذه الرحلات الترفيهية وبين الهم العام، بل إن العكس هو الصحيح،
فالثائر رومانسي بالضرورة، ذلك أن الثائر يستمد قوته من الأحلام التي تملأ خياله،
أما الواقعيون فإنهم لا يثورون.
في التاسع من كانون
الأول/ ديسمبر الماضي خرجنا معاً في إحدى تلك الرحلات وكانت وجهتنا شرقاً، حيث
الطبيعة الخلابة داخل أراضينا المحتلة عام 48 والتي يفصلنا عنها السلك العازل. بعد
أن انصرفت في ذلك اليوم كتبت:
"وصلت إلى نقطة المواجهة الحدودية، ولم يعد
يفصلني عن السلك الشائك سوى أمتار قليلة..
أنا الآن في نقطة
تسمح لي برؤية ملامح الجنود المدججين بالسلاح، والمتحصنين خلف السواتر الترابية في
حالة تأهب لإطلاق الرصاص على الفتية المتجمعين..
لم أقصد من بلوغ تلك
النقطة مشاركة الفتية في رمي الحجارة، بل حركتني دوافع رومانسية.
كانت أجواء ما قبل
الغروب وظلال الأشجار الكثيفة وهدوء الابتعاد عن زحام المدينة يصبغ الأماكن
الشرقية بسحر جذاب يوقظ في قلب المرء عشق الطبيعة والرغبة في الاعتكاف فيها.
أشار صديقي حسن: هذه
هي الحدود. معقول! عشرون متراً فقط تفصلنا عن أراضينا المحتلة. في سجن القطاع فإن
فرص زيارة أراضينا المحتلة نادرة، فيصبح رؤية الجانب الآخر إنجازاً يستفز القلم
ويستثير الخيال.
أكمل صديقي حسن وهو
يشير إلى السماء: انظر إلى الطيور. نظرت إلى الطيور فإذا بها تتنقل بين الأشجار
على طرفي الأسلاك دون أن يوقفها أحد.
ما أيسر الأمر إذاً!
تقرر الطيور أن تطير فتطير، ماذا لو أن أحدنا في لحظة استغراق تأملي رأى نفسه
طيراً! ماذا لو غفل عن هذه الأسلاك المشؤومة ولم ير أمامه سوى تلك الشجرة فقرر أن
يجلس تحت ظلالها؟ ماذا لو قال له الأفق البعيد: هيت لك، فاندفع إلى الأمام قاصداً
بلوغه وواصل السير في أرض منبسطة وحدتها الجغرافيا منذ الأزل.
ما دخل تلك الرصاصة
الملعونة لتعكر حلمه وترديه صريعاً كأنما ارتكب جريمةً؟
لماذا نعقد الأمور
البسيطة؟ أليس من حق الإنسان أن يتنقل مثل الطيور كيفما يشاء؟ أي تهديد للسلم
العالمي حين يقرر إنسان أن يتجول في أرجاء الطبيعة.
إن الكلاب والثعالب
والغزلان أكثر وعياً من هؤلاء الحمقى، هي لا تعترف بهذه الأسلاك، وتقفز عنها دون
اعتبار لقرارات ووقائع سياسية.
لقد اكتشفت السبب
الحقيقي لبغض الاحتلال، ليس لدي مصلحة خاصة في تحرير الأرض، ولا أملك دونمات
مسجلةً باسمي في الأرض المحتلة، لكني أبغضه لأنه ينغص علي رحلتي المسائية، أبغضه
لأنه يناقض قانون الطبيعة، إنه يمنعني أن أكون طيراً محلقاً، إنه يقتل أحلامي".
كانت هذه الخاطرة
بمنزلة الولادة الروحية لفكرة
مسيرة العودة في نسخة عام 2018، ثم أعقبتها بعد شهر
في 7 كانون الثاني/ يناير 2018 بخاطرة أخرى مثلت الولادة الواقعية للفكرة جاء
فيها:
"ماذا لو خرج مئتا ألف متظاهر في مسيرة سلمية،
واقتحموا السلك الشائك شرق
غزة ودخلوا إلى أراضينا المحتلة بضعة كيلومترات وهم
يرفعون أعلام فلسطين ومفاتيح العودة، ويرافقهم الإعلام الدولي، ثم نصبوا الخيام في
الداخل وأقاموا مدينةً هناك، ولنسمها مدينة باب الشمس، والتحم بهم الآلاف من
فلسطينيي الداخل، وأصروا على البقاء هناك بطريقة سلمية دون استعمال أي شكل من
أشكال العنف؟
ماذا بوسع الاحتلال
المدجج بالسلاح أن يفعل لتلك الزحوف البشرية المسالمة؟
هل سيقتل منهم عشرةً
أو عشرين أو خمسين؟ ثم ماذا سيفعل أمام الإصرار والزحف البشري الهادر؟
شعب يريد الحياة
وليس أكثر من الحياة..
لا شيء يؤخر هذه
الفكرة سوى الأغلال الذاتية التي نسجناها من أوهامنا..
إننا نموت في مكاننا
الضيق المحاصر، فلماذا لا ننفر قبل أن تذبحنا السكين؟
إنهم يدبرون المكيدة
لطردنا إلى الجنوب بعد أن يعملوا فينا قتلاً، فلماذا لا نسبقهم بخطوة ونبادر
بالفرار إلى الشمال؟
إن كان لا بد من
ثمن، فليكن هذا الثمن في الاتجاه الصحيح، اتجاه العودة إلى فلسطين، اتجاه أن نكسب
أرضاً جديدةً وأن نعمق مأزق العدو الوجودي..
سنكتشف حين نطبق هذه
الفكرة وتحقق اختراقاً تاريخياً كم أضعنا من السنين هباء في التردد والإحجام..
ثوروا فلن تخسروا
سوى القيد.
#مسيرة_العودة_الكبرى".
منذ لحظة تدوين هذا الحلم
تصاعد تفاعل الشباب مع الفكرة، حتى تحولت إلى تيار مجتمعي عريض، ثم تجسد في آليات
واقعية تم تشكيل هيئة وطنية لمسيرة العودة تكونت من القوى السياسية والمجتمعية
التي وضعت الفكرة موضع التنفيذ، واتخذت قراراً بإنزالها إلى الميدان.
تقول مدرسة
الواقعيين إن العبرة ليست أن تحلم، بل أن تجد القدرة لتطبيق حلمك. هؤلاء الواقعيون
لا يرون قيمةً لأحلامنا؛ لأنهم يفكرون بمنطق أنهم "أكثر مالاً وأعز نفراً،
لكن ماذا لو أنك امتلكت مالاً وعتاداً لكنك لم تمتلك الحلم؟ ماذا ستصنع بهذه
الأموال سوى أن تبددها؟
إن الحلم هو الذي
يثري الواقع وينفخ فيه روح الحيوية والتجدد، ويحرره من آفات الرتابة والجمود.
لا جدال في أهمية
تنزيل الأفكار من سماء الخيال إلى أرض الواقع، لكن الخطر هو إبخاس الحلم حقه،
والاعتقاد بأن العمل المنظم للفكرة كاف لنزع الشرعية عن حق الحالمين في مواصلة
حلمهم، وفي استمرار حسهم الناقد تجاه الواقع الذي لا يروي ظمأهم وتجاوز الصيغ التطبيقية
إلى رؤىً أكثر مثاليةً. إن بقاء الحلم يقظاً شرط لتجديد الواقع ودفعه في اتجاهات
تطورية.
إن الحالم يبحر في
الخيال الذي هو أوسع من الواقع، إنه لا يعترف بشرعية الواقع فلا توقفه حواجزه
ويستولي عليه مخيال جميل فلا يصد اندفاعه منطق: "ما سمعنا بهذا في آبائنا
الأولين".
حاجة الواقعي إلى
الحالم لا تقل عن حاجة الحالم إلى الواقعي، فالواقعي هو الذي يطبق الأفكار، بينما
الحالم هو الذي يغذيها ويحررها من الرتابة والجمود ويبصر بآفاق رحيبة.
ما أجمل أن يتواضع
الجميع فيسود منهج التعاون والتكامل لا منهج الإلغاء والاستعلاء. إن على الشباب
الحالمين أن يقروا للقوى السياسية بفضلها في تطبيق أفكارهم، فالناس لا تعيش
بالأحلام وحدها، وقد يموت الحلم إن لم يجد من يتبناه. وفي المقابل، فإن على القوى
السياسية ألا تتعامل مع الشباب المبادرين بمنطق: "من أنتم" أو تنظر
إليهم أنهم مجرد عناصر تنفيذية لمجرد أن هؤلاء الشباب لا يمتلكون مثل قدراتهم
المادية، فالروح الشبابية المبادرة هي التي تعطي دفعةً لحالة الجمود الفكري وهي
التي تساعد القوى نفسها في التحرر من قيود التفكير المنظم وحسابات السياسة
المعقدة.