الجسد العربي جسد وقور.
رأينا في فلم "التوت والنبوت" الفتوة حسونة السبع يأمر ضيا الناجي، ابن عائلة الناجي العريقة، التي حكمت الحارة بالرقص، فيرقص. الرقص سخرية، وإهانة، وإقرار بالتنازل عن الكرامة في الثقافة العربية. وفي فلم "المليونير المتشرد" يغضب رئيس العصابة جافيد عند توقف الرقص، الرقص فردوس المجرمين. المجرم عادة لا يرقص، غالبا يتمتع بالنظر.
لن يجد الباحث، وهو يتفحّص التاريخ القديم، رقصات عربية، في الجاهلية، أو في الإسلام، سوى في العهود المتأخرة، الرقصة الوحيدة في السيرة النبوية هي رقصة الأحباش في المسجد النبوي، والتي غضب منها أبو بكر رضي الله عنه، وهمّ بطردهم، فنهاه عليه الصلاة والسلام. ويلاحظ من الخبر أموراً ثلاثة: أنهم أحباش، ورقصتهم بالحراب، وفي يوم عيد.
مؤخراً، شاعت أفلام عاطفية، تدعو إلى الرقص كفلم "ما تيجي نرقص" لإيناس الدغيدي، خصوصاً الأزواج مع سكرتيراتهم، إذا عرفنا أن العمل في الشركات العربية ضعيف المردود، سوى في الرقص والنصب، بطُل العجب. الفلم يدعو إلى الخيانة الزوجية الرمزية، أو من الدرجة الثانية، أما في أمريكا وأوروبا، فالرقص هدى وتقوى اجتماعية، فهو يحد من الجريمة، وينظم العقل، ويضبط العنف. الحضارة الغربية حضارة الحواس الخمس.
ترى موسوعة الويكيبيديا أن الرقص رياضة مسليّة ورخيصة، وفن يدعم القصة والأغنية، ويمدها بتعبير جديد، وهو ترفيه وتخويف قبلي للقبائل الأخرى إذا كان الرقص مسلحاً، وتعبير عن سعادة غامرة، برنامج "ما الك هيفا" كان يقنّع الرقص بالرياضة، زميلة هيفا الشقراء، كانت أجمل، لكن هيفا هي التي اشتهرت.
رقصات الطرق الصوفية دخلت مع الشعوب غير العربية في ديار الإسلام ومناسكه، مثل الرقص المولوي في الطرق الصوفية التركية. رقصات الطرق الصوفية في القوقاز، فيها كثير من الحركة، ويُظنّ أن للطقس البارد فيها سبب، فالرقص يدفئ البدن. رأى كاتب هذه السطور طائفة سورية في إحدى ليالي الصيف، يرقصون في عرس، بوقار يشبه الصلاة، مدججين بخناجرهم، خاشعين، دون اهتزاز أمام الموسيقا الصاخبة، كأنهم محنطون، والنسيم هو الذي يهزهم، لا الطبل.
يقول خبراء لغات الجسد: إن الرقص الشرقي فيه بضع وعشرون حركة، مثل حروف العربية، فالرقص شِعر الجسد، أما الرقص الهندي فهو أعقد لغةً، لكنه أقل سفوراً من الرقص الشرقي العربي، الذي يثير الغرب. بدلات الرقص الشرقي شائعة كهدايا في أوربا. الرقص الشرقي، الذي نعرفه في الأفلام المصرية، يجعل الجسد أفصح في الإغراء، ويعرّيه أكثر، ويبرز مفاتنه، ولسبب ما، لعله الحداثة والتأثر بالغرب. وجد صانعو “العيال كبرت" أن الباليه رقصة تربوية مباحة، مع أن الراقصة لا ترقص وحدها على عكس الرقص الشرقي، والسبب هو أن الراقصة الشرقية، ترقص و"تفتح" للزبائن، لاحقا سيبادلها فتحا بفتح، غالبا سيفتح لها جيبه وربما قارورة العسل. بل إن راقصة الباليه، تؤدي حركات تشبه حركات الحية مع الثعبان، وهي أكثر فتنة في عين المسلم، فالراقصة الشرقية تسدل بعض الستائر على الجيوب في جسدها، أما راقصة الباليه، فترتدي غشاوات رقيقة، وهي تؤدي لوحاتها التعبيرية، وتسعى لإبراز الجيوب، وفتح أقواس بالفرجار مع شريكها، يصعب على عين الذكر العربي المحروم من السياسة والجنس، فهم تعبيراتها. الخبز عندنا للأكل، عند آخرين، قد يصلح لوحة!
أهل الخليج يرقصون رقصات وقورة، ملوك الخليج، لا يجدون غضاضة في الرقص مع شعوبهم، فهي رقصات جليلة، وغالباً هي بالسيف. وكان صدام حسين، الزعيم العربي الوحيد، الذي يرقص مع شعبه، ويقود حلقة الدبكة، وفي فمه سيكار كوبي.
وقد رأينا الرئيس الأمريكي، يرقص رقصة العرضة في السعودية، مقابل مبلغ خرافي من المال، فيرقص تلك الرقصة السهلة التي لا تحتاج إلى تدريب. رقصات السيف تجمع بين الفروسية والفرح، أو هي اختباء خلف السيف، الذي لا يُسلّ سوى في الأفراح وأعياد الميلاد، من أجل نحر كعكة الميلاد. ثمة رقصات في الخليج بالعصا، يهز الراقص فيها رأسه ورقبته، ويثبت القدمين، ونصف الجسد السفلي، فالأرض الترابية ستزكم الأنوف بغبارها، إذا خاطبتها الأقدام.
وقد يكون الجسد العربي الجمهوري في مصر وسوريا معذوراً في فرحته بالأعراس الديمقراطية، فالموسيقا راقصة، والرقص أمام صناديق الانتخاب ضريبةٌ كبرى. الصناديق الانتخابية الإكراهية، التي تساق إليها الجماهير، لا بهجة فيها، إلا برشوة الموسيقا، والتي صارت تصدر كل هذا الألحان المطربة، تعويضاً عن تزوير الأصوات. هكذا جرى الظن، إلى أن علمنا أن النظام المصري جنّد آلاف الراقصات، وخريجات معاهد الآداب في السجون، لإمامة الرقصات الانتخابية.
ذكّر إعلامي مصري بنبوة السيسي من جديد، فزعم أن الرقص، يذكّر باستقبال الأنصار للرسول. إعلامي آخر، اعتبرها فرحاً وتعبيراً عن البهجة. الرقص في العقل الشرقي العربي خزي وعار، وهو ما رأيناه في تغريدة فنانة مصرية اسمها مي كساب تعيب على الناس الرقص في الشوارع. هذا خلط للسياسة، بدين النظام، الذي هو الفن. نحن نرقص في عرس، ليس أشد ذلّاً منه، الأرض محتلة، "ونحن فقراء قوي"، والإرهاب يحيط بنا. رقص على أغنية لحنها هندي ومؤديها خليجي والراقص مصري، والعريس ميع رفش!
فلعل المصري ينتقم من ذاته، أو أنه يرقص ألماً، لا طرباً كما يقول بيت المتنبي الشهير، أو هي عودة للوثنية، فقد كان الرقص هو الصلاة.
العربي يعدُّ رقصة المرأة عاراً، ورقصة الرجل أكثر خزياً، وشهيرٌ قول عادل إمام أمام القاضي في مسرحية "شاهد ما شفش حاجة": "لو كل واحد ساب بيته علشان تحته راقصة، البلد حتبات في الشارع"، ونحن حقاً على قارعة شارع الحضارة.
في الغرب، الأمر مختلف، فالعامة والرؤساء يرقصون مع زوجاتهم، وعادة ما يتبادلون الزوجات رقصاً، وقد رقصت جيهان السادات مع الرئيس الأمريكي، لكنها الوحيدة، التي طلبت المال على شهادتها في برنامج "بلا حدود"!
فُسِّرتْ ظاهرة حمى الرقص، أو "رقص سانت جون"، الاجتماعية في قارة أوروبا، بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر، بمقاومة الجوع، كان الجميع، رجالاً ونساءً وأطفالاً، يرقصون إلى حد الانهيار من الإرهاق. اندلعت هذه الظاهرة أول الأمر في آخن، في ألمانيا عام 1374، وانتشرت بسرعة عبر أوروبا كلها، وقد كانت أشهر أحداث هذه الظاهرة "طاعون الرقص" في ستراسبورغ عام 1518.
أغلب الظن أن الرئيس العربي، مثل الفتوة حسونة السبع في فلم التوت والنبوت، لا تستوي فتوته، ولا يعلو سلطانه، إلا بإهانة خصمه، وجعله يرقص.
الرئيس العربي هو القرّاد الأخير، الذي مسخ أفراد الشعب قروداً حتى يلمّ النقطة، والنقطة هي الإرادة، وقد انقرض السيرك بعد أن روض الإنسان كل الحيوانات تقريباً. السيرك الوحيد الباقي، هو سيرك ترويض الشعوب العربية. الغرب يتفرج مستمتعاً برؤية القرد العظيم، "الكينغ كونغ" الفرعوني، وهو يرقص حتى فقدان الوعي.
لم نرَ السيسي، أو الأسد يرقصان، ولا زوجاتهم، ولا أمهاتهم أو عماتهم أو خالاتهم، أو بنات الأخ وبنات الأخت. قبل يومين رأينا فلم الانتخابات المصرية، وهوس الرقص على بشرة خير، وقد فاز الطبل المثقوب بدورة رئاسية ثانية.
كان الأفارقة ومازالوا، يرقصون لجلب المطر، أو لدرء الأرواح الشريرة. أما رؤساء الجمهوريات العربية، فيجلبون بها الولاء والبراء. الأفارقة كانوا يستطيعون المشي على الجمر للحظات، بعد رقصات مجهدة تفقدهم الشعور، ونحن نفقد الأبناء والآباء، التاريخ والجغرافيا، ونرقص، وسنمشي على الجمر مدة رئاسية كاملة، أربع سنوات في مصر، سبعاً في سورية، بعد رقصات عابرة نخضُّ بها في أقفاص أجسادنا، أرواحاً أسيرة.