كثيرا ما أتساءل عن أسباب تكاثر القنوات الفضائية الدينية، الإسلامية كما المسيحية على حد سواء، في العالم العربي؟ وهل هي مؤشر على قدرة العرب والمسلمين على مسايرة التكنولوجيا أم هي مجرد ظاهرة عابرة سرعن ما سينحسر مدها ومداها.
ويبدو لي هنا أنه ليس ثمة سبب واحد مانع جامع، بقدر ما نحن بإزاء مجموعة أسباب، منها ما هو موضوعي خالص، ومنها ما هو ذاتي صرف، أو لنقل عنصر مساعد:
- أول معطى موضوعي في هذا الباب يتمثل في الثورة التكنولوجية التي طالت ميدان الإعلام والمعلومات والاتصال، وطالت بجريرة ذلك كل الصناعات الثقافية التي تدور في فلك هذه الثورة، من مكتوب ومقروء ومسموع، بكل أنواعه وأشكاله وأحجامه. ولذلك، فإن الطفرة التي طالت مجال الإعلام الفضائي هي سليلة الطفرة الأولى، وتحديدا الفرع المقتني ضمنها للأقمار الصناعية ذات البث التلفزيوني العابر للحدود.
ميزة هذه الثورة أنها حررت ميدان الإعلام والمعلومات والاتصال من إكراه الندرة الذي لطالما كان رديفا للتقنيات التناظرية، والتي لم يكن من الممكن في ظلها إرسال أكثر من قناة تلفزيونية عبر حامل واحد. الثورة الرقمية التي ظهرت على أنقاض هذه التقنيات التناظرية، تجاوزت على هذا الإكراه، فبات بإمكان حامل واحد أن يفرز العشرات من القنوات التلفزية، وبجودة عالية، ويغطي بالنتيجة فضاءات جغرافية واسعة، لم تكن تقنية البث التقليدي قادرة عمليا على إدراكها.
هذا معطى تقني خالص، لا يسمح المجال هنا للتفصيل فيه. لكن المهم أن هذه الثورة التكنولوجية (الرقمية بلغة المهندسين)، هي التي مكنت من استنبات العشرات من القنوات الفضائية، ووسعت من سعة السواتل، ودفعت العديد من الدول إلى إطلاق أقمار خاصة بها لغاية الاتصالات، ولغايات البث التلفزيوني على وجه التحديد. المحصلة أن المنطقة العربية، شأنها في ذلك شأن معظم مناطق وجهات العالم، قد ركبت ناصية هذه الثورة، فأطلقت لها أقمار صناعية إقليمية أو وطنية، أو عمدت إلى امتطاء ناصية أقمار دولية، لاستنبات فضائيات كانت عمومية عامة في البدء، ثم ولجت ميدان التخصص فيما بعد، كما الحال مع الفضائيات الدينية.
- ثاني معطى موضوعي هو تزامن هذه الطفرة التكنولوجية مع بداية انفجار الهويات الطائفية والمذهبية والعرقية واللغوية التي اشتدت مع تقدم مد العولمة، ثم احتلال العراق فيما بعد، ثم قدوم الربيع العربي منذ بداية العشرية الثانية من هذا القرن. قد لا يكون بين الظاهرتين علاقة سببية من نوع ما، لكن ثمة بكل الأحوال تزامنا لا بد من الانتباه إليه، وإلا فكيف نفسر هذا العدد الهائل من القنوات ذات الطبيعة المذهبية (الشيعية أو السنية) أو العرقية أو الباثة بهذه اللغة المحلية أو تلك؟
ثم إذا لم يكن الأمر كذلك، فما السر في انتشار فضائيات ذهب بها "الطموح" لحد الادعاء الصارخ بالخصوصية، وهي لا تزال ضمن نطاق الدولة الواحدة، أو تتنكر للتراث المشترك مقابل الدفع بالهوية الذاتية أو التاريخ "المستقل"، وقس على ذلك؟ هذا معطى أساسي كذلك، لا بد من مساءلته لفهم سياق بروز هذه الفضائيات، العام منها كما المتخصص وضمنها الفضائيات الدينية.
- أما المعطيات الذاتية فتتمثل تحديدا في توافر رؤوس أموال، لا سيما بالخليج، بدا لها الإعلام الفضائي مجال استثمار مربح وفضاء واعدا لتدوير هذه الأموال. لذلك عمد القطاع الخاص، أشخاصا ومؤسسات، إلى ولوج هذا المجال، لا سيما وأن التكلفة من بين ظهرانيه ليست مرتفعة، وتقنيات العمل متوفرة بكثرة بالسوق العالمي. هذا أمر يسري على فضائيات الغناء والسينما، ويسري أيضا على الفضائيات ذات النكهة الدينية، أو الدينية الصرفة في برامجها وموادها وخطها التحرير العام.
المعطى الذاتي الثاني ويتمثل فيما نتصور، في غيرة العديد من المؤسسات والأشخاص الذاتيين على دينهم (أو هكذا قيل ويقال)، فعمدوا إلى خلق فضائيات إما بغرض تصريف خطاب ديني يبدو لهم أنه هو المفروض تقديمه والدفع به، أو بغاية الرد على ما اعتبروه استهدافا للإسلام والمسلمين، فجاءت القنوات إياها كأداة لتفنيد ذلك، أو تقديم صورة عن الإسلام والمسلمين بهذه المواصفات الإيجابية أو تلك.
أما عن السؤال في صحية هذه الظاهرة من عدمه، فأنا أزعم وباختصار شديد هنا، بأن العبرة في التكنولوجيا هي بالاستعمال والاستخدام، وليست بركوب الموجة لاعتبارات قد لا تكون دائما سليمة. أعني أن قدوم هذه الفضائيات قد ملأ إلى حد ما فضاء كان فارغا، ومنها من قدم رسالة غاية في الأهمية، لكن العديد منها للأسف بقي حبيس حسابات سياسية، أو مذهبية أو عقائدية، فتحولت قنواتهم إلى منابر للفتنة والتشدد والغلو، عوض أن تكون وسيلة لتقديم الدين الإسلامي كقيم وأخلاق وسلوك ومنظومة فعل وتفاعل مع الذات ومع الآخر.
هل نجحت هذه الفضائيات في المهمة؟ أعني، هل استطاعت أن تخدم الإسلام والمسلمين، أن توحد خطابهم برسالة موحدة، أن تصد الهجمات ضدهم، وأن تروج لمضامين الوسطية والاعتدال التي ينشدها الدين الإسلامي؟ هذا مستوى آخر سنعود له في القادم من مقالات.