"إنهم يريدوننا أن نغادر
حلب، لقد قصفوا جميع المستشفيات والمدارس، لم تعد هناك حياة أصلا حتى يتخلى عنها الناس، حتى الأدوية واللقاحات قاربت على الانتهاء. لا أعتقد أن الوضع يمكن أن يستمر أكثر من أسبوعين".
بهذه الكلمات لخصت إحدى الطبيبات الحلبيات؛ الحالة المأساوية التي يعيشها من تبقى من سكان أحياء حلب الشرقية المحاصرة، والتي تواجه ثنائية الموت جوعا وقصفا، فآخر دفعة مساعدات دخلت المدينة كانت في الشهر السابع من هذا العام، وهو التاريخ الذي اكتمل فيه حصارها، لكنها اليوم، وبعد فشل كافة محاولات فك الحصار عنها، تواجه كارثة إنسانية، فإما الموت جوعا نتيجة الحصار المطبق الذي تفرضه عليها مليشيات إيران والأسد، أو قتلا نتيجة القصف الجوي والبري الذي يتركز في غالبيته على المشافي ومستودعات الأدوية والأغذية ومحطات معالجة المياه.
القصف دمر ثمانية مستشفيات وبنكا للدم خلال أسبوع!
منذ يوم الثّالث عشر من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر؛ لم تتوقف الطائرات الحربية الروسية ومروحيات النظام، وراجمات الصواريخ، عن القصف المركز على المستشفيات، وذلك بهدف إخراجها من الخدمة، وهو ما يمكن اعتباره جريمة حرب، تشنها دولة عظمى دونما مبرر أو مسوغ قانوني، خاصة وأنها تستهدف منشآت طبية إنسانية، يستخدمها جرحى ومرضى، يفترض أنهم محميون بموجب المواثيق والمعاهدات الدولية، التي لا يبدو أنها تنطبق على المسلمين السنة، وهو ما يضع علامة استفهام حول سر التواطؤ الأممي مع
روسيا والأسد.
يقول السفير الروسي في بريطانيا، ألكسندر ياكوفينكو، إن مشاركة بلاده في العمليات العسكرية الأخيرة بسوريا تهدف لمنع وصول عناصر تنظيم الدولة من الموصل بالعراق إلى
سوريا، وهو تصريح ينم عن صلف وكذب المسؤولين الروس، ومحاولتهم استغباء العالم. إذ كيف يمكن لعاقل أن يقبل تفسيرا يقول إن روسيا تقصف المستشفيات في أحياء حلب الشرقية المحاصرة من كافة الجهات منعا لوصول مقاتلين من العراق؟
هو نفس التفسير الذي بررت به روسيا تدخلها في سوريا، عندما صرح مندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة "فيتالي تشوركين" في الثّالث من شهر تشرين الأول/ أكتوبر من هذا العام، بأنه لولا التدخل الروسي لكانت الرايات السود ترفرف فوق العاصمة دمشق. يتحدث وكأنّ هذه الرايات سترفرف فوق مبنى "الكريملن" في موسكو! إنه عذر أقبح من ذنب هذا الذي يقدمه الروس، فهم يقاتلون كي لا ترفع رايات سود فوق العاصمة السورية، لكنهم ساعدوا على رفع رايات شيعية حمر وخضر وصفر، فوق مساجد المسلمين السّنة، وفي أكثر من مدينة سورية.
منذ التدخل الروسي العسكري في سوريا أواخر الشهر التاسع من العام 2015؛ وهذا التدخل يأخذ منحى تصاعديا، فقد وقعت اتفاقا مع نظام الأسد في شهر آب/ أغسطس من نفس العام يسمح لها بتوسيع قاعدة حميميم العسكرية المخصصة أصلا للمروحيات، واستخدامها دون مقابل. فوسعت القاعدة وأنشأت مدرجا (عرض 100م وطول 4600م) يسمح بهبوط طائرات النقل الكبيرة من طراز أنتونوف، إضافة لاستخدام المتوفر من مطارات النظام المتهالكة، وبدأت بإنشاء مطارات وقواعد في مناطق سيطرة الأكراد، وصولا لإصدار مجلس الدوما (البرلمان) في الشهر العاشر من هذا العام، قرارا حوَّلَ قاعدة طرطوس البحرية إلى قاعدة دائمة. وحقيقة هذا القرار تكمن في أنه قد سمح لروسيا بحرية الحركة دون التشاور مع نظام الأسد، أو حتى إطلاعه على حركة عبور ومغادرة الأفراد والمعدات والأسلحة، وبهذا فإن روسيا قد باتت تحتل سوريا رسميا.
ترابط اليوم أمام سواحل اللاذقية وطرطوس حوالي 30 قطعة بحرية روسية ما بين طراد ومدمرة وسفينة من بينها 4 غواصات
مجلس الدوما وفي بداية هذا الشهر تشرين الثاني/ نوفمبر أقر قانونا مقدما من وزارة الدفاع، يسمح للمواطنين الروس بالتعاقد على الخدمة العسكرية في الخارج، وهو ما يمكن اعتباره محاكاة وتقليدا للشركات الأمنية الأمريكية سيئة السمعة، كـ"بلاك ووتر" التي تؤمِّن "المرتزقة" للقيام بمهام القتال القذرة، الأمر الذي يسمح للحكومات بالتنصل مما يرتكبه عناصر هذه الشركات من جرائم وتجاوزات. هذه الخطوة تؤشر إلى نية موسكو الانخراط أكثر في المستنقع السوري.
التصعيد الروسي جاء في مرحلة أعقبت تحسن علاقاتها مع تركيا، التي أطلقت بدورها عملية "درع الفرات" لتأمين حدودها الجنوبية، لكنها تصمت اليوم، وبشكل مريب، عما يحدث لمدينة حلب، التي لطالما أشاد المسؤولون الأتراك بوشائج القربى والأخوة التي تجمع بين أهلها والأتراك، وتعهد الرئيس التركي نفسه في أكثر من مناسبة؛ بحماية حلب وعدم التخلي عنها.
هل كانت حلب ثمنا لتأمين الحدود الجنوبية لتركيا؟
سيتسلَّم ترامب مهامه الرئاسية، في العشرين من شهر كانون الثاني/ يناير، أي بعد حوالي الشهرين من الآن، وهي فترة تدخل فيها السياسة الخارجية الأمريكية مرحلة شلل وعجز عن التحرك تجاه قضايا لا تهم الأمن القومي الأمريكي، أو هكذا تعتقد روسيا التي لم تتأثر عملياتها العسكرية بالانتخابات الأمريكية، فوتيرة القصف الروسي لحلب وباقي المدن السورية استمرت صعودا وهبوطا، وبضوء أخضر أمريكي رغم الضجة الإعلامية، وبحسب ما تقتضيه مجريات المعارك على الأرض، وما تمارسه روسيا من ابتزاز بحق كافة الأطراف، من إيران إلى تركيا فنظام الأسد؛ العاجز عن فعل شيء سوى التغني ببطولات الروس والإيرانيين.
روسيا تستغل المرحلة الانتقالية ووصول ترامب إلى البيت الأبيض، فتجوّع الحلبيين، وتحدث أكبر قدر ممكن من الدمار في أحيائهم، علها تنجح في فرض استسلام على ثاني أكبر مدن سوريا وبوابتها الشمالية إلى العالم، وهو ما سيمكنها من الانتقال إلى إدلب، آخر معاقل المعارضة المسلحة، علّها تنهي بذلك أسطورة ما يسمى "المناطق المحررة"، وتثبت أقدامها كأهم لاعب في سوريا والمنطقة.
الأمين العام الجديد للأمم المتحدة "أنطونيو غوتيريس"، وفي معرض رده على رسالة التهنئة التي أرسلها "أنس العبدة"، تعهد بأن تستمر المنظمة بالتزام الحياد، مستلهما من الخط الذي سار عليه سلفه بان كيمون. هي نفس الحيادية التي دفعت اثنين من كبار مسؤولي المنظمة للقول إنهم "يشعرون ببالغ الأسى والفزع جراء التصعيد الأخير للقتال في عدّة أجزاء من سوريا".
دي ميستورا بدوره؛ يعرض على نظام الأسد فكرة إنشاء إدارة ذاتية في شرق حلب، لكن الطريف في الأمر هو رفضها من قبل المعلم، وزير خارجية الأسد، العائد للأضواء، معتبرا أنها نيل من "السيادة" الوطنية، ومكافأة للإرهاب، على حد وصفه. حتى مشروع التقسيم ما عاد مطروحا.
يستمر تدفق المزيد من عناصر "حزب الله" والمليشيات الشيعية، وما يتم تشكيله من مليشيات طائفية جديدة على غرار سرايا وهاب "التوحيد" الدرزية، للمشاركة في معركة "قيامة حلب". وفي المقابل، تستمر فصائل المعارضة بالاقتتال على فتات ما تبقى من حواجز ومعابر تربط أرياف حلب وإدلب بتركيا، فهي الدجاجة التي تبيض ذهبا للقادة، أما السوريون من مدنيين، ومجاهدين، وثوار، ممن وثقوا بهذه الفصائل وداعميها، فليذهبوا إلى الجحيم، فأوامر الداعم مطاعة، وإرادته فوق كل إرادة، والتفاهمات الدولية أهم من دماء السوريين، ومن لم يمت بالقصف مات جوعا، تعددت الأسباب والتخاذل واحد، فـ"الموم" الشمالية أخت "الموك" الجنوبية، ولكم في فصائل الجنوب وحوران عبرة ومثالا، فلو أنها تحركت لقامت قيامة الأسد وإيران!!