هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا يمكن فصل التصاعد الحاد في نبرة التصريحات والتهديدات المتبادلة بين معسكري الصراع في ليبيا، عن مجمل تطورات الصراع الإقليمي حول اثنين من أهم ملفات الصراع في المنطقة.
الأول: هو ملف التنقيب عن النفط والغاز في حوض البحر الأبيض المتوسط، وتقاسم حصص الإنتاج بين دوله، وما سيتبع ذلك من احتمال ظهور منافسين تجاريين جدد، سيتحول بعضهم من مجرد مستورد للطاقة لمصدر لها، الأمر الذي سيؤدي حتما لتقليص حصص دول منتجة كبرى في السوق الإقليمي والعالمي.
الثاني: ويرتبط ارتباطا عضويا بالملف الأول كونه على صلة بالصراع على النفوذ بين تركيا وعدد من الدول الإقليمية والدولية، لعلاقته بثورات الربيع العربي والثورات المضادة، وحرب الوكالات إضافة لتنامي الدور التركي في المنطقة وتمدده الذي شمل دولا عديدة من المتوسط وإفريقيا.
الثورات المضادة الممولة عربيا بضوء أخضر غربي وبمباركة وتخطيط الكيان الصهيوني، نجحت وإلى حد بعيد في إحباط ثورات الربيع العربي وتحجيم نتائجها وتحويلها لخريف وصولا لمرحلة فرض أنظمة أشد تطرفا واستبدادا، كإعادة تعويم نظام الأسد في سورية والتمكين لنظام السيسي في مصر إضافة لميليشيا حميدتي في السودان والتمكين للعسكر في الجزائر، والتدخل في اليمن وما أفرزه من نتائج كارثية عسكريا وسياسيا واجتماعيا، ناهيكم عن التدخلات في باقي دول الربيع العربي، ودعم أنظمتها والتدخل في شؤونها الداخلية، وإفساد أي توجه لتغيير حقيقي يفضي لأنظمة جديدة تمثل تطلعات الشعوب العربية.
تصاعد حدة التهديدات يشي بقرب اندلاع جولة جديدة من المعارك يمكننا القول انها ستكون الأعنف، بين حكومة الوفاق التي أعلنت النفير العام للتصدي لمحاولات إخضاع طرابلس، والتي من المفترض أنها شرعية، باعتراف "المجتمع الدولي" بها من جهة، ومن جهة أخرى قوات حفتر التي تمثل الدولة العميقة وامتدادا لها، والتي تتألف قواتها من بقايا ميليشيات النظام البائد والمرتزقة الروس والأفارقة وقوات مصرية، وتحظى بدعم عدة أطراف فاعلة مثل الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا، إضافة لمصر والإمارات والسعودية.
أهم ما يميز المشهد الحالي، هو دخول دول اقليمية ودولية على خط التهديد والتصعيد بشكل مباشر، الأمر الذي يؤكد أن ليبيا مقبلة على مرحلة جديدة، عنوانها صدام عسكري اقليمي بشكل رسمي معلن، خاصة بعد توقيع وتفعيل إتفاقيات التعاون الأمني والعسكري، بين حكومتي الوفاق وتركيا، هذه الإتفاقات التي كانت محل استنكار وإدانة العديد من الدول كمصر واليونان وفرنسا وقبرص اليونانية وحتى إيطاليا التي كانت ولوقت قريب تخوض صراع كسر عظم خفي مع فرنسا التي تحاول بدورها تعزيز نفوذها في إفريقيا عموما وليبيا خصوصا وإن على حساب إيطاليا التي لطالما اعتبرت ليبيا حديقة خلفية لها وأنها من حصتها وأملت في عودة نفوذها لهذا البلد الغني بموارده النفطية.
إن تصاعد حدة النبرة في خطاب مصر الموجه ضد حكومة الوفاق وإدانة استعانتها عسكريا بتركيا ينبئ بأمر خطير يقضي الزج بمصر في محرقة ليبيا من خلال مواجهة عسكرية ضد تركيا، مع ملاحظة أنه قد جرى السماح مؤخرا بتسليح الجيش المصري بغواصات ألمانية وطائرات رافال فرنسية ودبابات تي 90 الروسية الحديثة المعدلة وبتمويل إماراتي سعودي من خلال صفقات قضت بتقديم السلاح القديم مع قطع غياره لنظام الأسد، وهذا ما كان ليتم لولا أن الكيان الصهيوني مطمئن لوجود السيسي الذي يبدو في على أتم استعداد للعب دور رأس الحربة في إنهاء ما تبقى من رمزية لثورة الشعب الليبي وحرمان تركيا من أي نفوذ في المنطقة، إضافة لحاجته الملحة للخروج من أزمته الإقتصادية الخانقة.
الجيش المصري اليوم في أضعف حالاته، كونه تحول فعليا من مؤسسة عسكرية، من المفترض ان تكون مهمتها الدفاع عن الدولة وحماية حدودها، إلى مجرد جهاز أمني لحماية النظام ومقاول عقاري وزراعي ومؤسسة حكم موازية تستأثر بحوالي 70% من إيرادات الدولة وتخصصها للإنفاق على أفرادها والحفاظ على امتيازات ضباطها، وبما يضمن بقاء الدولة تابعا لها وليس العكس، وهو ما جعلها مؤسسة هشة متخبطة عسكريا.
استجابة تركيا لأي طلب تدخل من حكومة الوفاق يعتبر شرعيا بالقياس لتدخل روسيا وإيران في سورية بطلب من نظام الأسد كما يرددون، وبالتالي فإن تركيا تستطيع تغيير المعادلة العسكرية على الأرض خاصة وأن دعمها السابق لحكومة الوفاق كان قد اقتصر على تقديم آليات وطائرات مسيرة، وهو ما سمح ببقاء كفة الصراع متكافئة نوعا ما، مع الأخذ بعين الإعتبار ضعف وهشاشة قوات حفتر بريا لولا التدخل العسكري الجوي الإماراتي – المصري ومراكز القيادة والتحكم الجوي الفرنسي عدا عن وجود مرتزقة روس وأفارقة وجنود مصريين يقاتلون على الأرض وإن بعدد محدود وغير معلن حتى الآن.
في حال لبت تركيا طلب حكومة الوفاق إرسال قوات برية تركية إلى ليبيا، فإن الصراع سينتقل لمرحلة متقدمة من الحسم والتحول من الدفاع إلى الهجوم، خاصة مع وجود تهديدات من بعض أطراف الصراع، باستهداف أي قوات تركية تدخل إلى ليبيا.
هذه التهديدات التي صاحبها بالفعل قصف لبعض المواقع التي يشك أن فيها وجود عسكري تركي، هذا التهديد سيدفع تركيا للتدخل بحزمة أدوات عسكرية من ضمنها منظومات دفاع جوي لحماية وتأمين قواتها وهو ما سيحيد العدد المحدود من الطائرات المصرية والإماراتية التي تقوم باستهداف قوات الوفاق، وهو ما لن تسمح به القوى المتحكمة بالصراع في ليبيا والمنطقة، وبالتالي نحن أمام خيارين تحكمهما الظروف: الأول تطور الصراع بشكل دراماتيكي خطير يؤدي لحسمه عسكريا لصالح أحد المعسكرين، وإما تسوية تفضي لإنهاء الصراع وتقاسم السلطة بين معسكري الوفاق وحفتر.
لا تبدو روسيا في وارد الإنخراط مع أي من أطراف الصراع في ليبيا، فكل ما يهمها هو تعزيز موقفها في سورية والحصول على بعض الإمتيازات من الصراع على ليبيا لكن هدفها الأكبر يكمن في تأجيج الصراع على الإمتيازات النفطية والغازية في المتوسط، وحتى توريط هذه الأطراف بنزاع عسكري مسلح، يمنع أو يؤخر عمليات التنقيب وبشكل يضمن لها البقاء كأكبر منتج ومورد نفطي وغازي في العالم ومصدرا آمنا لإمداد أوروبابالطاقة.
إن ليبيا اليوم مهيئة أكثر من أي وقت مضى لتصبح ساحة صراع مسلح يستنزف المنطقة بشريا واقتصاديا وماليا ويستكمل مسلسل شرذمة وتدمير المنطقة ومنع استقرارها، وذلك من خلال إشغالها بسلسلة حروب وصراعات إفناء دموية لا تبقي ولا تذر، وبتمويل من قوت الشعوب العربية التي اكتفت بدور المتفرج على ما يحدث.