رغم تمتع حكومة الرباعي بدعم إعلامي كبير سواء في المنابر الخاصة أو العمومية، ورغم عودة أغلب وسائل الإعلام إلى ممارسة دور "التغطية" بالمفهوم الدستوري-التجمعي للكلمة –أي التغطية بمعنى حجب الواقع والتعتيم عليه، لا بمعنى قراءته موضوعيا وتسليط الأضواء عليه-، ورغم انحياز أهم الفاعلين الجماعيين-مثل النقابات واتحاد الأعراف- لهذه الحكومة ضمن منظور هو أقرب إلى منطق "التمييز الإيجابي" مقارنة بفترة الترويكا خاصة، رغم كل ذلك، فإنّ الواقع الصعب الذي يعيشه المواطن
التونسي يدفع به دفعا إلى أخذ مسافة نقدية من السرديات المتفائلة مهما كان مصدرها.
بعيدا عن الطبيعة العفوية للوعي الجمعي-وهي عفوية يمكن التلاعب بها وتزييفها في اتجاهات تبلغ حد التناقض أحيانا-، يمكن للمراقب المحايد للشأن التونسي أن يقف على مؤشرات كثيرة تحمله إلى مشاركة ذلك المواطن البسيط -وغير المسيّس أو المؤدلج بالضرورة- الكثيرَ من مخاوفه المشروعة. إنها مؤشرات متنوعة بعضها يخضع للإحصاء، وبعضها يرتبط بعوامل غير قابلة للتكميم quantification من مثل المناخ السياسي العام، وما يبعث به من رسائل غير مطمئنة لعموم المواطنين.
لا شكّ في أن الإجابة العلمية على المسارات/المآلات الممكنة للوضع التونسي، يفترض إحاطة شاملة بجملة المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية المتحكمة في هذا الوضع بدرجات متفاوتة. ولكن غياب هذه المعرفة الشاملة لا يعني التوقف عن الحكم، بل يعني فقط أنّ علينا الابتعاد عن منطق المُطْلقات والدوغمائيات والتلاعب المفضوح بالوعي الجمعي، كما يعني تنسيب الفرضيات التي قد نميل إلى ترجيحها والتعامل معها بحذر شديد، انطلاقا من وعينا بالقيمة التفسيرية أو الاستشرافية المحدودة للمعطيات الناقصة والجزئية التي نمتلكها.
في ظل غياب سياسات حكومية واضحة لمواجهة الانحدار الكارثي في مختلف المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفي ظل اعتماد كل حكومات ما بعد الثورة –بما فيها الترويكا- لخيارات اقتصادية واجتماعية وثقافية موروثة عن نظام بن علي، يمكننا مبدئيا أن نفترض تواصل الوضع الحالي وتأزمه بصورة أكبر. ولكن لمّا كانت الدول الطرفية التابعة مثل تونس لا تمتلك مقوّمات السيادة الوطنية ولا قرار لها في واقعها ولا في مستقبلها، فإنّ مخرجات/مآلات الأزمة البنيوية الحادة التي تعيشها تونس، لا يمكن أن تكون مرتبطة بإرادة الفاعلين المحليين -مهما كانت نواياهم "الطيبة"، ومهما كانت ادعاءاتهم الذاتية- بقدر ارتباطها بإرادة القوى الإقليمية والدولية فيهم /لهم.
لو أردنا تعريف الحكومات المتعاقبة على حكم تونس قبل "الثورة" وبعدها، لقلنا إنها ذلك المركّب الجهوي-المالي-الأمني المشرف -بموجب موافقة دولية وإقليمية مشروطة- على إدارة عملية"التحديث" المأزومة والفاشلة، وتبريرها انطلاقا من تضخيم المعطيات الثقافوية –الهووية والدفع بالمعطيات الاقتصادية إلى خلفية المشهد أو التلاعب بها بصورة قصدية. ولا تعني هذه الاستراتيجيات السلطوية إلا التعطية على فشل عملية التحديث وإدارة واقع التبعية والتخلف بصورة تضمن مصالح المركز الغربي ووكلائه المحليين، وتعيد إنتاج شروط ذلك التخلف والتبعية، لكن بصورة مقبولة أو قابلة للاحتواء من طرف أجهزة السلطة القمعية-الأمنية والإيديولوجية-، بحيث لا يبلغ الاستياء العام والاحتجاجات الشعبية مرحلة الثورة "الحقيقية".
وإذا ما قرأنا "الثورة التونسية"- بل مجمل الثورات العربية- من هذا المنظور، فإننا نستطيع أن نعتبرها –من حيث المآلات وليس بالضرورة من حيث المقاصد- مجرد لحظة اختلال عابرة في صيرورة أنظمة تابعة وفاقدة لمقومات السيادة، وهي أنظمة استطاعت أن تستعيد توازنها بصور مختلفة ولكنّ مؤداها واحد. فرغم الاختلاف الظاهر بين التجربتين المصرية والتونسية، لا يمكن للمراقب المحايد أن ينكر أنّ الدولة العميقة في كلا البلدين قد نجحت في استعادة الحكم ،وفي تدجين القوى "الثورية" والانقلاب على الاستحقاقات المشروعة "للثورتين".
من غير استحضار هذا العامل -أي عامل ارتباط الحكومات العربية بإرادة خارجية وتعبيرها عن مصالح إقليمية ودولية تتجاوز ما يُسمّى مجازا "مصلحة وطنية"، بل تُشكل حدود تلك المصلحة وتضبط سقفها -، سنكون خاضعين عند التعامل مع الأزمة التونسية الحالية لمنطق الرغبة أكثر من خضوعنا لمنطق الواقع ولتحوّلاته الممكنة. فرغم أن الواقع التونسي مفتوح نظريا على الكثير من الممكنات الكارثية - من مثل احتدام الصراعات الهووية-الثقافوية للتغطية على الطبيعة الاقتصادية للأزمة، وهو ما قد يصل إلى مرحلة الاحتراب الأهلي، ومن مثل الاحتجاجات المطلبية العنيفة التي ستواجه على الأرجح بمزيد من القمع بحجة المصلحة الوطنية والإجماع الوطني، وضرورة قمع الحريات لمواجهة خطر الإرهاب، ومن مثل شبح الدولة الفاشلة الذي يخيم على البلاد بحكم استضعاف الدولة من طرف اللوبيات المالية والنقابية -، برغم ذلك كله، فإنّ المحدد الأساسي لمآلات الوضع العام يظل خارج البلاد، أي يظل مرتبطا باستراتيجيات الفاعلين الدوليين وما حددوه للنموذج التونسي من دور تحفيزي أو عقابي لباقي السياقات الإقليمية، في الفضاء الجغرا-سياسي العربي الإسلامي.
من الواضح أنّ سياسات حكومة الرباعي تحثّ الخطى نحو إعادة إنتاج أزمة النظام السابق. ومن الواضح أيضا أن "فتنة السلطة" قد زينت للمنظومة الحاكمة ولنواتها الصلبة استحالة أن يكون مصيرها هو مصير النظام السابق؛ فالمنظومة الحاكمة التي استطاعت تجيير الديمقراطية لصالحها، ترى أنها أقدر من سلفها النوفمبري على التصدي للاحتجاجات الشعبية وعلى وأدها بصورة "شرعية" قبل أن تتخلّق، وذلك اعتمادا على نقاط القوة التي لم تكن متاحة لنظام بن علي -مثل الشرعية الانتخابية المعترف بها محليا ودوليا، والدعم الدولي والإقليمي لإعادة التوازن للمنظومة القديمة مع تعديل جزئي لنمط شرعيتها ولقاعدتها الزبونية، والتحالف الاستراتيجي مع لوبيات الإعلام والأعمال واستثمار الخطرالإرهابي.. إلخ-. ولا يمكن لهذا المنطق السلطوي إلا أن يرتهن في بقائه للدعم الخارجي، وهو دعم لا يرتبط بتطلعات الشعب التونسي واستحقاقات الثورة إلا قليلا.
بعد أن نجحت النواة الصلبة للمنظومة الدستورية-النوفمبرية في إعادة أغلب القوى اليسارية إلى مربّع التناقض الرئيسي مع الرجعية الدينية، وتهميش التناقض الجوهري مع الرجعية البرجوازية واختياراتها اللاوطنية-وهو المنطق الذي حكم دخول العديد من التقدميين إلى التجمع الدستوري الحاكم في عهد المخلوع بن علي، كما برّر خدمتهم لآلات القمع الإيديولوجية والبوليسية زمن المحرقة الإسلامية في أوائل تسعينيات القرن الماضي-، وبعد أن نجحت "العائلة الديمقراطية" في تدجين النهضويين بفزاعة السيناريو المصري وباسثمار رغبتهم في الحصول على "الاعتراف" بـ"تَونستهم"، وبأنهم قد صاروا نظراء وأندادا للنخبة العلمانية المهيمنة على إنتاج الثروات المادية والرمزية منذ بناء"الدولة الوطنية"، بعد أن تمّ تحييد القوتين الأساسيتين في البلاد باللعب على تناقضاتهما الإيديولوجية وعلى مخاوفهما المرضية المتبادلة، كان من المنطقي أن توافق حكومة الرباعي على إملاءات الجهات الدولية المانحة رغم وعيها بانعكاساتها الكارثية على المواطن التونسي من الناحية الاقتصادية.
بعد عودتها إلى الحكم مباشرة ومن دون وساطة الوكلاء الجدد –من اليساريين والإسلاميين-، صار في مقدور النواة الصلبة للمنظومة الحاكمة- وهي نواة ذات بنية جهوية-مالية-أمنية شبه ثابتة قبل الثورة وبعدها- أن تتحرك بأريحية أكبر، بحيث لا تأبه كثيرا بردود الأفعال الممكنة على سياساتها اللاوطنية. فهي تراهن على استحالة ظهور قاطرة جماعية تكون أداة قيادة للاحتجاجات الشعبي على المدى المنظور. وهو ما يعني من هذا المنظور السلطوي أنّ التحديات التي قد تواجهها الحكومة لن تتجاوز بعض الاحتجاجات المعزولة، التي لا تمثّل تحديا جديا للطبقة الحاكمة ولمصالح اللوبيات التي تقف وراءها في الداخل والخارج.
في ظل غياب مشروع وطني جامع يتحرك في أفق مواطني اجتماعي، وفي ظل هيمنة المال السياسي الفاسد على الحقل السياسي، لا تستطيع الحكومة القائمة ولا البدائل المقترحة لها - سواء أكانت حكومة ائتلافية، أم حكومة وحدة وطنية، أم حكومة إنقاذ- إلا أن تعيد إنتاج الأزمة البنيوية التي تعاني منها تونس. فالطبقة السياسية ستكون مجرد واجهات قانونية لتمرير مصالح ضيقة لا علاقة لها بالوطنية إلا من جهة الدعوى. ومن المرجح أن يزيد هذا المنطق في تعميق الأزمة التي يعيشها النظام من جهة أولى، والمواطن التونسي من جهة أخرى، ولكنه سيظل مهيمنا على المجتمع التونسي رغم كل أزماته الدورية، وذلك لأنّ أغلب الفاعلين الجماعيين-يمينا ويسارا- مازالوا محكومين بمنطق المضادة الإيديولوجية والصراعات الدونكيشوتية التي تجعلهم جزءا وظيفيا من النظام، وإن توهّموا أنهم يفكرون ضده من منظور وطني "خالص".