لو عدنا إلى أي تعريف مدرسي بحثا عن معنى "حكومة الوحدة الوطنية"، لوجدنا أنه يذكر أنّ الأطراف المكوّنة لها هي أكبر الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان. وهي حكومة تختلف عن حكومة الإنقاذ الوطني التي تكون في فترة الأزمات القصوى- تلك الأزمات المهددة أحيانا لوجود البلاد ذاتها أو لاستقلالها- ولذلك لا تتشكل حكومة الإنقاذ بالضرورة من الأحزاب الممثلة في البرلمان فقط . كما تختلف حكومة الوحدة الوطنية عن الحكومة الائتلافية التي تتشكل أساسا من أكبر حزبين برلمانيين، مع الاستعانة أحيانا ببعض الأحزاب الصغيرة لضمان الأغلبية المريحة للحكم.
يتفق أهم الفاعلين السياسيين على تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، عندما تستدعي ظروف معينة أن تتجاوز النخب السياسية الشكل التقليدي للصراع بين أغلبية حاكمة وأقلية معارضة. ولا شك أننا في
تونس نعيش ظروفا اقتصادية واجتماعية وأمنية تستدعي وجود قاعدة صلبة للحكم تتجاوز التمثيلية النيابية، لكن دون أن تصبح بديلا عنها ، أي دون أن تتحول"الوطنية" إلى مدرج للانقلاب على الإرادة الشعبية وعلى صناديق الاقتراع. ولا شك أيضا في أنّ التوافق على حكومة الوحدة الوطنية لا يعني انتهاء الاختلافات الأيديولوجية أو الصراعات السياسية والاستقطابات الهووية والمصالح الفئوية والجهوية، وإنما يعني فقط تحييد تلك المحددات الصريحة والضمنية للفعل السياسي وضبطها بصورة فعالة، قصد التخفيف من الآثار الكارثية لطبيعته اللاوظيفية.
لو أردنا أن نفهم الرهانات الحقيقية التي طرحها الاقتراح الرئاسي بتشكيل حكومة وطنية، فإن أول الاحتياطات المنهجية التي علينا القيام بها هي أن نتعامل-من جهة أولى- بحذر شديد مع التوجّهات العامة لوسائل الإعلام العمومية والخاصة في تونس، وألاّ نثق كثيرا-من جهة ثانية- فيما يقدمه السياسيون من تبريرات، سواء لدعم المبادرة أو لرفضها. وهو ما يعني ببساطة أن نبحث عن المسكوت عنه واللامفكر فيه داخل المشهد التونسي، دون أن نزعم أنّ ما نقدمه هو حقائق مطلقة لا تقبل التنسيب والتعديل، بل النقض أحيانا.
يمكن فهم مبادرة الرئيس الباجي قائد السبسي بالانطلاق من أنها تعبّر عن وعي بوجود "مأزق " أو "أزمة" حقيقية تستدعي تغيير شكل الحكومة، ولكن علينا أن ننطلق أيضا من الوعي بوجود مسافة كبرى بين الاعتراف بالأزمة وتحديد طبيعتها واقتراح الحلول المناسبة لها. بصرف النظر عن تغوّل مؤسسة الرئاسة وعودتها التدريجية إلى ممارسة الوصاية على قصر الحكومة بالقصبة ومجلس نواب الشعب بباردو -كما كان الشأن زمن المخلوع-، وبصرف النظر عن مدى دستورية المبادرة الرئاسية في فترة يحكمها بقانون الطوارئ، بصرف النظر عن ذلك كله، فإن السؤال الذي ينبغي أن يُطرح عند التعامل الموضوعي مع مبادرة الرئيس التونسي هو السؤال التالي: كيف تفهم مؤسسة الرئاسة الأزمة السياسية، وما هي الحلول المقترحة لحلّها أو على الأقل للتخفيف من آثارها المؤكدة على مجمل القطاعات الأخرى؟
تفترض الإجابة على هذا السؤال أن نبتعد عن "شخصنة" الأزمة من جهة أولى، -فليس السيد الحبيب الصيد رئيس الحكومة إلا نتيجة أزمة وليس سببها-، كما أن الإجابة على إشكال"الأزمة" يستدعي -من جهة ثانية- ألاّ نربطها بتركيبة الحكومة الحالية أو بطبيعة أدائها، وكأنّ حكومة الصيد هي البداية المطلقة للتاريخ التونسي أو لأزماته السياسية البنيوية. فالأزمة التي تعرفها تونس-وهي أزمة مفتوحة على "الدولة الفاشلة" وعلى إمكانية الإفلاس وعجز البلاد عن سداد ديونها للجهات المانحة - هي أزمة خيارات تحديثية وتنموية فاشلة منذ بناء "الدولة الوطنية"، ولذلك فهي أعمق بكثير من أن نربطها بأي حكومة تولّت زمام السلطة بعد الثورة في مراحلها الانتقالية وفي مرحلتها الحالية.
منذ عهد المخلوع زين العابدين بن علي، عرفت تونس العديد من البرامج"الإصلاحية" التي كانت في الحقيقة مجرد تطبيق لإملاءات خارجية، وكان هدف "الإصلاحات الهيكلية" هو حماية مصالح الجهات المانحة وضمان الموارد القادرة على سداد الديون بصرف النظر عن كلفتها الاجتماعية أو طبيعتها "المشبوهة"، فأغلب الديون المستحقة على البلاد التونسية هي حسب الخبراء إما من"الديون الكريهة" أو "غير الشرعية" أو "غير القانونية" أو "غير القابلة للتحمل"، وهي أنواع من الديون التي كان باستطاعة الدولة التونسية بعد الثورة أن تطالب بإلغائها أو بإعادة جدولتها أو تحويلها على الأقل إلى استثمارات، ولكنّ غياب الإرادة السياسية-أو ارتهان تلك الإرادة للمال السياسي الفاسد وللوصاية الأجنبية- حال دون ذلك مع مختلف الحكومات الانتقالية ومع الحكومة الحالية أيضا.
بصرف النظر عن المزايدات الأيديولوجية وعن الشعاراتية التي تحكم الوعود الانتخابية، لم تُظهر كل الحكومات المتعاقبة على إدارة الشأن العام بعد الثورة نيةً جدية في اجتراح حلول من خارج المنظورات المهيمنة على الدولة الوطنية بلحظتيها الدستورية والتجمعية. تلك المنظورات المأزمة التي كرست التبعية والمديونية للخارج، وجعلت الدولة نهبا لثالوث التهريب والتهرب الجبائي والإرهاب في الداخل.
ومن المستبعد أن يكون السيد باجي قائد السبسي قد بنى مقترح حكومة الوحدة الوطنية على الرغبة في استعادة السيادة الوطنية، ومن غير المرجح أيضا أن يكون هدفه من المقترح القطع مع منطق الدولة المافيوزية ومع جماعات الضغط المالية-الجهوية-الأمنية التي أوصلته هو نفسه إلى قصر قرطاج. وهو ما يعني ضرورة فهم المبادرة على أساس أنها تهدف إلى البحث عن أفضل الحلول لإدارة الأزمة"البنيوية" التي تعيشها تونس، والتخفيف من آثارها الكارثية المرتقبة، وليس على أساس أنها مبادرة تعكس وعيا رئاسيا بخطورة المرحلة وبضرورة اتخاذ إجراءات "سيادية" مؤلمة، ولكن لا مهرب منها إن نحن أردنا مواجهة الأسباب الحقيقية للأزمة.
تبدو مبادرة السيد قائد السبسي لتشكيل حكومة وحدة وطنية أقرب ما يكون إلى التعبير عن مربع 13 جانفي 2011-أي الليلة التي سبقت سقوط المخلوع- وذلك عل الأقل من جهة طبيعة رهاناتها، وكذلك من جهة ممكناتها واقعيا، فرغم أنّ مقترح حكومة وطنية يستوجب بالضرورة أن يكون للمعنيين به تمثيلية نيابية، كانت مبادرة الرئيس منذ خروجها إلى العلن أبعد ما تكون عن هذا المنطق؛ إذ اشترط رئيس الجمهورية مشاركة الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمة الأعراف، كما أنه استبعد العديد من الأطراف المعارضة والممثلة نيابيا-خاصة حزبي المؤتمر والتيار الديمقراطي- واستدعى شخصيات سياسية لا تمثيلية نيابية لها، وهي شخصيات تشترك مع "الجبهة الشعبية" –القوة الأولى في المعارضة البرلمانية وأحد الأطراف الأساسية المدعوة للحوار حول حكومة الوحدة الوطنية- في الانتماء إلى ما سُمّي بـ"الجبهة الرئاسية" المتشكلة أساسا من قوى يسارية وتجمعية، ساندت السيد الباجي قائد السبسي إبّان الانتخابات الرئاسية الفارطة، –خاصة في الدور الثاني من تلك الانتخابات، الذي شهد مواجهة تاريخية بينه وبين السيد منصف المرزوقي الرئيس المتخلي.
في ظل غياب إرادة سياسية حقيقة للقطع مع منطق الدولة الدستورية-التجمعية، ومع خياراتها التنموية في المستويين البشري والاقتصادي، وفي ظل الإصرار على التضحية بالمصالح الاستراتيجية للمجموعة الوطنية تكريسا للتبعية والمديونية وخدمة لمصالح اللوبيات المحلية ولمَن وراءها في مراكز القوى الإقليمية والدولية، وفي ظل سلطة برلمانية حكمت "الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين" بلا دستورية الكثير من مشاريع القوانين التي أقرتها، ولكنها تصر على تمير قانون "المصالحة" حتى قبل تشكيل حكومة الوحدة الوطنية المرتقبة، وفي ظل رغبة الرئيس قائد السبسي في تقوية جناح ابنه في نداء تونس -عبر الوفاء بوعوده ولو متأخرا لرموز" الانتخاب المفيد"، الذين سيأخذون جزءا من نصيب النداء، ولكنهم سيشكّلون ضربا من حزام الأمان لجناح حافظ السبسي كما سيمنعون النهضة من الاستفادة من ضعف النداء وأزماته المتلاحقة، في ظل هذا الوضع فإنّ أي حكومة وحدة وطنية لن تكون في الواقع إلا حكومة محاصصة، بل حكومة رشوة سياسية سيكون عليها حماية المصالح الفئوية والجهوية ذاتها ومنع تفكك المنظومة الحاكمة.
وتوفّر هذه القوى السياسية والنقابية والمالية في صورة جمعها في حكومة وحدة وطنية-وهو أمر مستبعد- نوعا من الضمانة التي سيحتاجها الحكّام الفعليون للدولة -أي مراكز النفوذ الجهوي-المالي-الأمني- عند الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتوقعة؛ نتيجة الإصرار على المنوال التنموي ذاته وعلى آليات توزيع السلطة والثروة الموروثة من عهد بن علي. ذلك أنّ القوى التي ستشكل هذه الحكومة ستؤدي دور"كوابح الصدمات" وذلك بصرف النظر عن صدق نواياها وعن ادعاءاتها الذاتية، إذ سيكون عليها المحافظة على الخيارات اللاوطنية الكبرى للنظام، لا نقضها أو إصلاحها ولو جزئيا، كما سيكون من واجبها تمرير ما استحال تمريره في إطار حكومة الرباعي وضرب أي إمكانية لبقاء أي قاطرة ممكنة للتحرك الشعبي، وذلك بتعميم منطق المصلحة الوطنية والإجماع الوطني و"السياق الوطني" وغير ذلك من مفردات "الإرهاب اللغوي"، الذي سيمارس بصورة نسقية ضد كل احتجاج شرعي على إملاءات المانحين الدوليين والممولين المحليين لأغلب الأحزاب الحاكمة.
ختاما، يمكننا أن نقول إنّ مقترح "حكومة الوحدة الوطنية" يضعنا أمام مأزق هو أشبه ما يكون بمتناقضات زينون؛ إذ لا يمكن الخروج من الأزمة الحادة التي تعيشها تونس إلا بوجود حكومة وطنية-مهما كان شكلها- ولا يمكن وجود حكومة وطنية في ظل واقع سياسي يهيمن عليه المال السياسي الفاسد لا يقبل في مراكز القرار إلا من يعيدون إنتاج النظام، وإن بتعديلات جزئية لا تمس جوهره اللاوطني. ولو شئنا صياغة هذه الفكرة بصورة مختلفة، لقلنا إنّ المأزق الحقيقي الذي تعيشه تونس هو أنّ الأغلب الأعم ممّن يُفترض فيهم محاربة الفساد هم بالأساس منتج من منتجاته، بل هم جزء بنيوي ووظيفي فيه. وهو ما يعني أنّ جميع الحلول المقترحة-بما في ذلك حكومة الوحدة الوطنية أو حتى حكومة الإنقاذ- هي مجرد "سدود" هشّة وغير محكمة البناء، هدفها منع سقوط بيت العنكبوت الذي يُسمّى مجازا "النمط المجتمعي التونسي" على ما/ومن فيه... لكن إلى حين.