فشلت الجماعة الإسلامية في
لبنان، الوكيل التنظيمي للإخوان المسلمين، في إيصال عضو واحد إلى مجلس طرابلس البلدي المؤلف من أربعة وعشرين عضوا، رغم وجود مرشح الجماعة على لائحة التوافق التي ضمت تشكيلة من الأضداد السياسيين والفكريين، بينهم الرئيسان سعد الحريري ونجيب ميقاتي ووزراء ونواب وجمعية المشاريع الإسلامية "الأحباش"، المناوئة للتيارات الإسلامية السُنية والمحسوبة على النظام السوري، حيث استطاعت هذه اللائحة تأمين فوز ثمانية من أعضائها فقط، فيما كان فوز المقاعد الباقية حليف اللائحة المنافسة المشكّلة في غالبها من ناشطين اجتماعيين وحقوقيين، يدعمهم وزير العدل المستقيل أشرف ريفي الثائر على سياسة زعيم تيار المستقبل سعد الحريري المنحرفة عن نهج رفيق الحريري بحسب ريفي.
طرابلس هي منشأ الجماعة الإسلامية وخزانها الانتخابي الذي قدّم لها عام 1992 فوزا نيابيا كاسحا للمرشح المنفرد في حينه الداعية فتحي يكن، في مواجهة لائحة السلطة المدعومة من النظام الأمني اللبناني السوري ومن حيتان المال. كذلك في العام 1998 رشّحت الجماعة بالتعاون مع الهيئات الإسلامية لائحة من عشرة أعضاء للمجلس البلدي فاز منهم تسعة. فما الذي تبدّل حتى يتراجع الوزن الشعبي للجماعة في معقلها، هل تغير الناخب أم تبدّل المشروع الذي كان يصوّت له المقترعون؟
لا شك أن بعض رموز الجماعة سعَوا على مدى عشرين عاما إلى الالتحاق دائما بلوائح السلطة الانتخابية كخيار أول، بحجة أن هذا الخيار يؤسس لعلاقات جيدة تحتاجها الجماعة مع مختلف القوى التي تحكم البلد بالتوافق، كما أن النجاح معها أسهل بكثير منه في مواجهتها. وقد لقي هذا الخيار معارضة دائمة من صقور الجماعة الذين يرفضون تقديم التنازلات لأقطاب اللوائح، أكانت هذه التنازلات في حصة الجماعة من المرشحين أو مرتبطة بصورتها أمام جمهورها عندما تتحالف مع أطراف، يتعارض بعضها تماما مع المشروع الإسلامي بكل أشكاله.
في انتخابات بلدية طرابلس الأخيرة، كان واضحا أن قاعدة الجماعة الإسلامية وحتى قيادتها المحلية تفضل أن تكون خياراتها مفتوحة، بما فيها إمكان التحالف مع الوزير ريفي الذي اشتغل على استقطاب الشارع السني، كما يفعل زعماء الشيعة والموارنة، لكن القيادة المركزية للجماعة أبلغت أن ذلك خطا أحمر انطلاقا من الرغبة بعدم معاكسة التوافق بين القوى السياسية الأساسية، الذي يهدف إلى ترتيب البيت السُني بتشجيع مباشر من السعوديين، وقد نجحت الجماعة في إيصال عضو إلى مجلس بلدية بيروت على اللائحة المدعومة من تيار المستقبل، وأكثر من عضو على لائحة المستقبل أيضا في صيدا. لكن ظروف المعركة في طرابلس مختلفة تماما، وقد ابتعدت كليا عن الطروحات الإنمائية لتحل محلها شعارات أطلقها الوزير ريفي ومناصروه، بأن لائحة التوافق (رغم التشجيع السعودي عليها) تستبطن بين مرشحيها أشخاصا تابعين لحزب الله والنظام السوري وتيار ميشال عون، ما أثر عليها سلبا بشكل كبير، وبدت الجماعة عند كثيرين كأنها تتنازل عن مواقفها من "المحرقة السورية" وصنّاعها لصالح مقعد بلدي لم تنعم به في النهاية.
الجماعة الإسلامية التي قاومت "إسرائيل" سابقا في الجنوب من خلال ذراعها المقاوم "قوات الفجر"، وقاتلت الجيش السوري في طرابلس في ثمانينيات القرن الماضي، تعيش اليوم أسوأ أيامها في مسقط رأسها، وهي تحتاج لخطة إنقاذ تعيد لمّ شمل قواعدها حول لائحة واضحة من الخطوات المستقبلية، لا تتعارض مع القناعات المبدئية وتبتعد عن وصفات الفشل، التي غالبا ما يتم تقديمها من الطامحين للمقاعد البرلمانية.
لم تشهد الجماعة الإسلامية في لبنان أي حركة انشقاق في تاريخها، وكان دائما مَن ينفصل عنها يغادرها وحيدا، أو شبه وحيد حتى وإن أسّس لاحقا مؤسسة أو جمعية. لكن المرحلة الحالية تنذر بعدم استقرار الوضع التقليدي مع خروج الانتقادات التنظيمية إلى العلن. حتى إن استقالة المسؤول السياسي في طرابلس إيهاب نافع على خلفية الفشل في الانتخابات -كما علّل في بيانه- قُرئت بأنها اعتراض منه، مع مفعول رجعي على قرار قيادة الجماعة الانضمام إلى التحالف السياسي الذي رفضه نافع في الأصل.
لكن المفارقة التي لم تضيء عليها وسائل الإعلام اللبنانية، هي أن ما لا يقل عن ثمانية أعضاء في مجلس بلدية طرابلس الجديد هم من أبناء مدرسة الإخوان، عبَروا منها إلى المجتمع المدني وترشحوا بقرار فردي بعد مسيرة سنوات من خدمة الناس في شتى المجالات، بعيدا عن الطروحات الفكرية والشعارات السياسية، ولعل الجامع المشترك بين هؤلاء الناجحين تأثرهم بتجربة حزب العدالة والتنمية الذي أسسه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بعدما فقد الأمل في إمكان تشكيل حزب السعادة الإخواني التركي قوة تغيير في البلاد، تطال الحكم والحكومة وإصلاح الدولة والبناء للمستقبل، حيث انتقل أردوغان ومعه نخبة من "الإخوان الجدد" من خدمة الناس من خلال الدعوة للإسلام إلى دعوة الناس للإسلام من خلال خدمتهم.
في طرابلس فشلت الجماعة الإسلامية ونجح "الإخوان الجدُد" بمبادرات فردية، فهل مِن ساع إلى جمع المبادرات وتجميع الطاقات للتفكير على مستوى كبير، بدل انتظار القليل مما يجود به الكبار؟