ليست المرة الأولى التي يوجّه فيها المسيحيون رسالة إلى عائلة الحريري بأنهم يرفضونها، لكن الرسالة الأخيرة جاءت فاقعة للغاية، حيث مدّ زعيم تيار المستقبل النائب سعد الحريري يده إلى الأحزاب المسيحية ورعى مع قياداتها تشكيل لائحة "البيارتة" التي خاضت الانتخابات البلدية في العاصمة
اللبنانية بيروت ذات الأغلبية الناخبة السُنية، مصرّا على اعتماد المناصفة في تركيبة أعضائها مع الطوائف المسيحية بغض النظر عن الأحجام الديمغرافية للطوائف، مقدِّما الحصة الشيعية إلى الرئيس نبيه بري، والحصة الدرزية إلى النائب وليد جنبلاط، فيما ترك أمر تسمية الأعضاء المسيحيين الاثني عشر إلى الجنرال ميشال عون وسمير جعجع والنائب سامي الجميل، والأحزاب الأرمنية ومطارنة كنائس بيروت، فكيف جاءت النتيجة؟
فازت لائحة "البيارتة" المدعومة من أحزاب السلطة بفارق بسيط نسبيا (14000 صوت) عن لائحة "بيروت مدينتي" المحسوبة على المجتمع المدني ولا سيما العلماني منه، فيما كان فوز لائحة الحريري البلدية في بيروت قبل ست سنوات بفارق يناهز (50000 صوت) عن اللائحة المنافسة في حينه، علما أن تيار الحريري لم يسترضِ في حينه تيار عون الممثل الأوسع للمسيحيين. لكن الذي ساهم في تدني الفارق هذا العام وفق ما أفرزته أرقام الصناديق الأحد الماضي، هو أن الكتلة المسيحية الناخبة صبّت معظم أصواتها للّائحة المنافسة ما يعكس حقيقتين لا ثالث لهما، إما أن الأحزاب المسيحية لم تلتزم بتحالفاتها، وإما أن الناخبين المسيحيين أرادوا الاعتراض على أي تحالف مع الحريري، حتى لو قدّم لهم ما كانوا يطالبون به من عدم تدخله في تسمية المرشحين المسيحيين.
في المقابل وفي اليوم نفسه، خاضت الأحزاب المسيحية الرئيسية (العونيون والقوات والكتائب) انتخابات بلدية زحلة عاصمة محافظة البقاع ذات الأغلبية المسيحية بلائحة موحّدة لم تعتمد المناصفة بين المسلمين والمسيحيين على غرار بيروت، ولم تسترضِ التيارات المسلمة ولو من باب المعاملة بالمثل، فسجلّت انتصارا كاملا على اللائحة المسيحية المنافسة في المدينة.
مشكلة عائلة الحريري مع المسيحيين لم تبدأ مع "الشيخ سعد" بل كانت قائمة أيضا مع الرئيس رفيق الحريري الذي كان مسيحيون يتهمونه بـ "أسلمة الأرض" من خلال شراء الأراضي والعقارات، حتى إن بعضهم اعترض على زراعة النخيل في بيروت، معتبرين أنها شجرة تحمل بعدا طائفيا، وكانوا ينفرون من حضوره القوي على الساحتين المحلية والدولية، ما زاد من وهجه في السلطة في أثناء ترؤسه حكومات اتفاق الطائف قبل حكومته الأخيرة في عهد رئيس الجمهورية إميل لحود، الذي حجّم نفوذه بدعم من سوريا وإيران وسط ارتياح حزبي وشعبي وكنسي مسيحي على هذا التحجيم، وإن كان الجو المسيحي في حينه لا يتوافق مع ما عُرف بالنظام الأمني اللبناني السوري الذي كسر ظهر الحريري.
لقد أفنى رفيق الحريري عمره السياسي في لبنان وهو يبحث دون جدوى عن شتى السبل الممكنة لاسترضاء المسيحيين، ويُذكر أنه في إحدى المقابلات التلفزيونية عرض باسمه وباسم الرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط، تبادل سلة الحصص والصلاحيات في مناصب الدولة بين المسلمين والمسيحيين، إذا كان المسيحيون يعتبرون أنفسهم مغبونين بعد اتفاق الطائف، فصدر في اليوم التالي للمقابلة بيان عن البطريركية المارونية يتهم كلام الحريري بالطائفي.
لقد خصص رفيق الحريري وقتا يوميا على شاشة تلفزيون المستقبل الذي يملكه لبث نشرة أخبار باللغة الأرمنية، وأهمل لغة الأكراد الذين قد لا يقلون عددا عن الأرمن في لبنان، فكانت النتيجة شبه صِفر دائم في صناديق انتخابات الأرمن لصالح لوائح الحريري التي ظل الأكراد أوفياء لها. كذلك وَهب رفيق الحريري حصة اشتراها من جريدة النهار (المسيحية وفق اللغة اللبنانية) إلى مطرانية بيروت للروم الأرثوذكس، بعدما اتُّهم بأنه يسعى لأسلمة جريدة النهار.
السياسة ذاتها اتّبعها نجله سعد ولم يحصد غير حصاد أبيه. سعد متهم عند المسيحيين بمصادرة قرارهم عبر اختياره مرشحيه من النواب المسيحيين في الدوائر ذات الأغلبية السُنية، وتم تحميله تبعات الخلل الديمغرافي بين المسلمين والمسيحيين المنعكس على نتائج الانتخابات البرلمانية وفق كل القوانين المعتمدة، حتى إن بعضهم طرح ما عُرف بقانون الانتخاب الأرثوذكسي الذي ينص على أن تنتخب كل طائفة نوابها، مع العلم بأن الخلل الديمغرافي ينسحب أيضا على المناطق ذات الأغلبية الشيعية، حيث يسمّي حزب الله بعض النواب المسيحيين ويؤثر في تحديد هوية بعضهم الآخر.
اتُّهم سعد الحريري من معظم المسيحيين بالسعي للاستئثار بالسلطة، مع أن سلطته الفعلية على الأرض قد لا تمتد إلى خارج قصره في بيروت، حتى هذا الأخير تعرض لقذيفة صاروخية من قوات حزب الله في 7 أيار 2008 كرسالة تحذيرية غادر بعدها الحريري لبنان؛ لأنه لم يضمن أمنه الشخصي ومع ذلك هو متهم بحُكم البلد. لكن هذا لا يعني أبدا أن ليس للمسيحيين أسبابهم الوجيهة للنفور من الحريري الذي قد يكون بشخصه جزءا منها أو ضحية تراكمات تاريخية لا شأن له فيها.
الأمثلة كثيرة على سعي الحريري السياسية الحثيث لاسترضاءٍ لم ينله من المسيحيين في مقابل ارتياح مسيحي أكثر للعلاقة مع حزب الله، عبرت عنه ً البطريركية المارونية بعدة أشكال، فضلا عن وثيقة التفاهم القائمة بين الحزب والتيار العوني وعلاقات التحالف الوثيق مع تيار النائب سليمان فرنجية (مرشح الحريري بالمناسبة لرئاسة الجمهورية)، ويتندّر البعض بأن "سكسوكة" الرئيس سعد الحريري يتوجس منها المسيحيون أكثر من لحية السيد حسن نصر الله، ومزلاج التزلج الذي كسر الحريري رجله عليه ذات مرة في جبال فرنسا أكثر خطرا على الوجود المسيحي من ترسانة حزب الله العسكرية.
لقد قلّد الرئيس سعد الحريري والده في زيارة الفاتيكان مع زوجته وأطفاله وأخذ صورة تذكارية مع البابا بندكتوس السادس عشر، في لقاءٍ لا يجد أصغر عنصر من حزب الله نفسه مضطرا لطلبه من أجل رفع رصيده عند المسيحيين، ومع ذلك يرتفع رصيد الحزب يوما بعد يوم ويتضاءل رصيد الحريري.
لقد اختار سعد الحريري شعار بشير الجميل "لبنان أولا" اسما لكتلته النيابية فيما بقيت أدبيات حزب الله تتمحور حول "القدس أولا" (بغض النظر عن انحراف البوصلة)، ومع ذلك فإن المسيحيين يلتفون حول حلفاء حزب الله أكثر من التفافهم حول خصومه.
لقد ركز القانون الداخلي لتيار المستقبل على العلمنة خيارا لقيام الدولة اللبنانية، وأيّد سعد الحريري إقرار قانون الزواج المدني الذي يعارضه حزب الله القائم أصلا على عقيدة دينية والتزام دقيق من قيادته وعناصره بمحددات الشريعة الإسلامية، وفق قراءة المذهب الشيعي ورؤية ولاية الفقيه، ومع ذلك فإن التوجس المسيحي العام هو من تيار المستقبل في الطليعة.
يضيق المقال هنا لجمع كل الوقائع والدلائل التي تثبت حقيقة يُصر الرئيس سعد الحريري على تجاهلها، وهي أن المسيحيين يرفضونه ويرفضون من لا يرفضه، هكذا تقول التجارب وهكذا قالت الصناديق، فهلّا يخبره بذلك مستشاروه، ومعظمهم موظّفون مسيحيون.