رغم مرور خمس سنوات على الثورة التونسية، ورغم أيضا إنجاز تونس مرحلة الانتقال الديمقراطي بنجاح يشهد كل العالم بها، لكن الحقيقة المرّة التي تصدم كل التونسيين الآن، هي استشراس ظاهرة الفساد المالي والإداري التي أصبحت مستوطنة في كل دواليب الدولة والإدارة. فهذا الفساد الإداري والمالي هو انتهاك القوانين والانحراف عن تأدية الواجبــــــــات الرسمية في القطاع العام لتحقيق مكسب مالي شخصي، فضلا عن أنه يمثل الإخلال بشرف الوظيفة ومهنيتها وبالقيم والمعتقدات التي يؤمن بها المواطن في تونس، لاسيَّما حين يخضع المصلحة العامة للمصالح الشخصية، وغالبــا ما يكون عن طريق وسطاء ولا يكون مباشرا.
وباتت تنظيمات المجتمع المدني في تونس مقتنعة أن ظاهرة الفساد المالي والإداري تعرقل عملية البناء للدولة الوطنية الجديدة، وللديمقراطية الناشئة حديثا، في جميع المستويات الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية والثقافية لعموم أبناء المجتمع التونسي، فهي تهدر الأمـوال والثروات والوقت والطاقات وتعرقل أداء المسؤوليات وإنجاز الوظائف والخدمات.
فقد أظهر المؤشر عن مقياس الفساد الذي أعلنته منظمة «الشفافية الدولية» لسنة 2016 والخاص بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أن 64 بالمائة من التونسيين يرون أن مستوى الفساد قد ارتفع مقارنة بالسنة الماضية. ويرصد هذا المؤشر الفساد الإداري والمالي في أكثر من 170دولة، إذ يقف على مدى جدية أصحاب القرار في البلدان المعنية في مكافحة الفساد. ويستند القائمون عليه إلى مسوحات وبيانات ومقابلات ميدانية مع رجال أعمال، ومحللين وخبراء لديهم اطلاع واسع على مدى انتشار ظاهرة الفساد في الأقطار على مدار النظر.
ففي ندوة صحفية نظمتها منظمة «أنا يقظ» يوم 3 مايو الجاري في تونس العاصمة، وهي إحدى منظمات المجتمع المدني في تونس، أعلنت عن نتائج هذا المقياس الذي أجرته منظمة الشفافية الدولية بشراكة مع البارومتر الإفريقي. هذا المقياس شمل حوالي 11 ألف شخص في دول الجزائر ومصر والأردن ولبنان والمغرب وفلسطين والسودان وتونس واليمن، حيث يرى 61 بالمائة في جميع هذه البلدان أن مستوى الفساد قد ارتفع على مدى السنة الأخيرة، وذلك بسبب فشل الحكومات في سماع أصوات مواطنيها المناهضة للفساد. وأكد المدير التنفيذي لمنظمة «أنا يقظ » مهاب القروي أن وجود تضارب في توجهات الدولة فيما يتعلق بوضع استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد أسهم في ارتفاع مؤشر الفساد في تونس على مدى السنة الأخيرة.
واعتبر مهاب القروي في تصريح لوكالة تونس -إفريقيا للأنباء يوم الأربعاء الماضي، أن التدافع بين مختلف أجهزة الدولة في وضع استراتيجية لمكافحة الإرهاب، يعتبر أمرا إيجابيا، لكنه لم يفض إلى نتائج ملموسة رغم أهمية الموارد البشرية والمالية التي تم تسخيرها للغرض. وأشار إلى أن منظمة «أنا يقظ» تعمل على إعداد مشروع قانون سيكون بمنزلة توليفة بين مشروعي الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي يرأسها الأستاذ شوقي الطبيب، ووزارة الوظيفة العمومية والحوكمة ومكافحة الفساد التي يترأسها الوزير كمال العيادي.
وبالعودة إلى ما يهمّ تونس، تبينت منظمة «أنا يقظ» في شخص رئيسها أشرف العوادي أن الدراسة الميدانية شملت 1200 شخص من الفئة العمرية من 18 سنة فأكثر من كامل أنحاء البلاد.
وقد جاءت الدراسة في اثني عشر سؤالا أظهرت الإجابات عنها موقفا يكاد يكون موحدا، وهو أن الفساد قد ارتفع وأن القادة لم يظهروا استعدادا لمكافحته. وحسب ما أظهرته الدراسة فإن 9 بالمائة من المستفيدين من الخدمات دفعوا رشاوى لجهة عمومية واحدة على الأقل من بين ستّ جهات عمومية خلال السنة الماضية.
ويرى المستجوبون أن أكبر فئة من المتورطين في الفساد هم مديرو المؤسسات التجارية بنسبة 47 بالمائة، ثم أعضاء المجالس الحكومية المحلية بنسبة 32 بالمائة، ثم المسؤولون الحكوميون بنسبة 30 بالمائة، ويليهم في الترتيب الشرطة، ومسؤولو الضرائب، فمكتب الرئيس ورئيس الحكومة، ثم القضاة والحكام، ثم أعضاء البرلمان، ليشمل الفساد كذلك الزعماء الدينيين. وهو ما يظهر أن الفساد يكاد يكون ظاهرة عامة.
وتعرضت دراسة «أنا يقظ» لمسألة الوساطات، فشملت خاصة المستشفيات أو المصحات العمومية بنسبة 71 بالمائة ثم الحصول على أوراق الهوية أو بطاقة ناخب أو رخصة من الحكومة بنسبة 63 بالمائة. كما أن دفع الرشوة من أجل الاستفادة من خدمة كان أغلبه في قطاع الصحة العمومية ثم الشرطة تلت ذلك المحاكم. وقد أقرّ 9 بالمائة من المستجوبين أنهم دفعوا رشوة لمؤسسة عمومية واحدة على الأقل من بين ستّ مؤسسات عمومية. ومن بين الذين استعانوا بالرشوة لقضاء شؤونهم، أكدّ 96 بالمائة أنهم لم يبلغوا عن ذلك لمسؤول حكومي أو شخص يتمتع بسلطة ما، في حين ثلاثة بالمائة فقط منهم قاموا بالإبلاغ عن هذه الحالات.
وحول رأيهم في الطرف الأقدر في الدولة لمعالجة مشكل الفساد بين 58 بالمائة من المستجوبين أن هذه المهمة تعود إلى الحزب الحاكم و37 بالمائة فقط يرجعونها إلى أحزاب المعارضة، في حين ترى أقلية أن مشكل الفساد لا يعالجه هذا الطرف ولا ذاك وهو ما يعكس الثقة المتدنية في الأحزاب السياسية.
ويرى 62 بالمائة من العينة المستجوبة أن أداء الحكومة في محاربة الفساد ضعيف. في حين أن 71 بالمائة من المواطنين العاديين يوافقون أنهم بإمكانهم إحداث الفارق في المعركة ضد الفساد.