لم تنتظر الدول الغربية فيما يبدو تصديق البرلمان الليبي الشرعي على حكومة فايز السراج التي كان يفترض بها أن تكون هي من يطلب من القوى الدولية التدخل لمساعدتها على القضاء على تنظيم «داعش» الإرهابي وعلى استعادة السيطرة على الوضع الأمني المنفلت في ليبيا، حتى شنت الطائرات الأمريكية قبل أسبوع غارة جوية على منزل كان يجتمع فيه عناصر لـ«داعش» في مدينة صبراتة (على بعد 70 كلم غرب العاصمة الليبية طرابلس) تجمع فيه عشرات الأشخاص الذين يرجح انتماؤهم إلى تنظيم «داعش»، ومن بينهم رؤوس دبرت لهجومي باردو وسوسة في تونس العام الماضي، مما أسفر عن مقتل 50عنصرا من التنظيم، غالبيتهم من التونسيين.
وكانت قد تواترت منذ أسابيع المعلومات حول بحث الدول الكبرى احتمالات التدخل عسكريا في ليبيا لوقف تصاعد خطر تنظيم «داعش» الذي يسيطر على مدينة سرت على بعد 450 كلم شرق طرابلس.
وتسعى الأمم المتحدة إلى توحيد السلطات المتنازعة في ليبيا في حكومة وفاق وطني تتولى مواجهة تنظيم «داعش» والجماعات المتشددة الأخرى وبينها جماعة «أنصار الشريعة» القريبة من تنظيم «القاعدة».
يذكر أن منفذي الاعتداءات الإرهابية التي ضربت تونس (متحف باردو وسوسة وشارع محمد الخامس بالعاصمة) خلال الفترة الأخيرة، كانوا قد تدربوا في معسكرات في صبراتة التي شهدت خلال الأشهر الماضية أحداثا أمنية عديدة شملت عمليات خطف وتفجير.
وليست هذه المرّة الأولى التي تتعرض فيها مناطق ليبية إلى قصف جوي، لاسيَّما من قبل طائرات من دون طيار مجهولة بما كان يفتح التكهنات في كل مرّة على أكثر من قراءة حول الطرف أو الأطراف المسؤولة عن ذلك.
لكن الغارة الأمريكية الأخيرة على معسكر تابع لتنظيم «داعش» في صبراتة تشكل تحولا نوعيا في مسار الحرب، خصوصا أن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي أعلنت عن مسؤوليتها، متجاهلة كل الدعوات التي أطلقها رئيس الجهورية التونسية السيد الباجي قائد السبسي والعديد من المسؤولين التونسيين والجزائريين، الرافضة للتدخل العسكري الدولي في ليبيا، خوفا من الحرب في هذا البلد العربي، التي قد يصعب التكهن بما ستحمله في طياتها من تداعيات أو حسابات ومخاطر تتجاوز حتما حدود الأعباء المادية الكبيرة التي يتعين على تونس تحملها في حالة تدفق اللاجئين إليها، وهي أعباء ثقيلة لا يستهان بها ولكن مقدور عليها إزاء ما هو أخطر وما يستوجب الاستعداد له لصد الشبكات الإرهابية والخلايا النائمة التابعة للتنظيم الإرهابي وشل حركتها قبل أن تلجأ إلى حرق الأخضر واليابس في حال استشعرت الخطر بعد تضييق الخناق من حولها.
وجاءت هذه الغارة الأمريكية إثر عمل استخباراتي دقيق وبعد رصد عبر الأقمار الاصطناعية لتحركات هذه المجموعة المنتمية لتنظيم «داعش»، من خلال هواتفهم الجوالة، وبعد تزايد الترجيحات في الآونة الأخيرة بقرب استهداف «الناتو» لمواقع «داعش» داخل ليبيا.
وأعادت هذه العملية على معسكر في صبراتة إلى الواجهة حقيقة خطورة الإرهابيين التونسيين المتواجدين في التراب الليبي على الأمن القومي التونسي، لاسيَّما وأن بعض الصور التي بثتها وسائل إعلام ليبية تظهر عبارة «ولاية تونس» على غرار «ولاية سيناء» في مصر، و«ولاية الحسكة» في سوريا، وغيرها من المناطق التي يسيطر عليها تنظيم «داعش» الإرهابي.
يعتبر العديد من المحللين في الشأن الليبي أن هذه العملية تمثل رسالة واضحة من الولايات المتحدة الأمريكية للدول التي مازالت مترددة بشأن التدخل العسكري في ليبيا، رسالة مفادها أن الاستهداف سيكون دقيقا ولن يطال المدنيين والأبرياء، مؤكدا أن عمليات القصف الجوي ستتواصل ضدّ «داعش » في ليبيا. ويجد الموقف التونسي الرسمي الرافض لأي تدخل عسكري في ليبيا نفسه في إحراجات لحسابات الربح والخسارة بالنظر إلى موقع تونس الجغرافي الذي يجعلها الأكثر عرضة للخطر.
ولكن أيضا بالنظر إلى عدد العناصر الجهادية المنحدرة من أصول تونسية والتي باتت مند فترة مصدر انشغال حقيقي لأمن البلاد، بعد تواتر التقارير الأممية عن ظاهرة انضمام شبان تونسيين إلى تنظيم «داعش» الإرهابي سواء في العراق أو سوريا أو ليبيا، وهو رقم جعل تونس تتصدر ترتيب بقية دول المنطقة وتتحول بالتالي إلى مصنع لتفريخ «الدواعش»، رغم أنها ظلت حتى الآن النموذج الأقل ارتباكا والأكثر نجاحا على مسار الانتقال الديمقراطي.
ومن منظور الرسالة التي يمكن قراءتها في غارة صبراتة الأخيرة، فجر الجمعة الماضي، والدقة التي تمت بها العملية الجوية في تحديد أهدافها وعدم التسبب في أي خسائر خارج ذلك الهدف، فهي رسالة موجهة بالدرجة الأولى إلى دول جوار ليبيا، المعنية عن إعلان موقفها الرافض للضربات العسكرية في ليبيا، وهو الموقف الذي تشترك فيه حتى الآن تونس والجزائر ومصر والمغرب، وهي التي تضررت من استهداف التنظيم لمصالحها وأمنها ومحاولاته المتكررة لتهريب السلاح إلى أراضيها.
ثم إن دقة العملية في استهداف الموقع قد يدفع دول الجوار إلى التسليم بهذا الخيار في توجيه الضربات العسكرية والذي يعتقد أنه «الخطة ب» التي اعتمدها البنتاجون بعد رفض الكونجرس التورط في عملية واسعة في ليبيا.
ونقلت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية قبل بضعة أيام عن المسؤولين الأمريكيين، الذين لم تسمهم، قولهم إن إيطاليا سمحت في هدوء للطائرات الأمريكية دون طيار بالانطلاق من قاعدة جوية في صقلية للقيام بعمليات ضد «داعش» في ليبيا وشمال إفريقيا.
وقال المسؤولون الأمريكيون إن هذه الموافقة تعتبر إنجازا لواشنطن بعد أكثر من عام من المفاوضات.
وجاءت الغارة على خلفية تعهدات الرئيس الأمريكي باراك أوباما مؤخرا بعدم تمدد «داعش» في ليبيا، بعد أن تزايدت الاتهامات الأمريكية للرئيس أوباما بالضعف والتردد في مواجهة مخاطر التنظيم الإرهابي.
ورغم أن أوباما في نهاية ولايته الثانية والأخيرة، فإن الاتهامات ستلاحق الديمقراطيين، وقد أصدر نائب الرئيس الأمريكي السابق ديك تشيني كتابا انتقد فيه تراجع الدور الأمريكي في قيادة العالم والسياسة الخارجية للرئيس أوباما، إذ يعتبر تشيني أن تاريخ السياسة الخارجية الأمريكية والنجاحات العسكرية منذ إدارة فرانكلين روزفلت، ودور الولايات المتحدة منذ تلك الفترة بأنه دور «استثنائي» في الدفاع عن الحرية على مستوى العالم، ويرى أن القوة الأمريكية المعهودة في العالم قد تراجعت في عهد إدارة أوباما بما أدى إلى زيادة التهديدات الموجهة للأمن القومي الأمريكي، بل إن فشله في إدارة العديد من ملفات السياسة الخارجية بسبب اتباعه «مبدأ استرضاء الخصوم، والتخلي عن الحلفاء»، قوض الدور والتأثير الأمريكيين في التطورات التي تحدث في العالم.
عن صحيفة الشرق القطرية