من أبرز ملامح الأزمة الليبية أنها دخلت في مرحلة تتسم بالانشطار المتكرر داخل الأطراف المتنازعة ليصبح الحليف في الجبهة الواحدة (جبهة
طرابلس وجبهة
طبرق) أشد عداء لحليفه، وألهته خصومته عن خصمه في الجبهة الأخرى. فأبوسهمين مثلا يتلقى الضربات القوية هذه الأيام ليس من خصومه في جبهة طبرق، بل من حلفائه حتى عهد قريب في جبهة طرابلس ، ومقابلة النائب السابق لابوسهمين، صالح مخزوم، في برنامج بلا حدود على قناة الجزيرة اليومين الماضيين تنبئك بالذي نقوله.
الحالة في جبهة طبرق مماثلة، وبتقصي اجتماعات القبائل والبيانات والتصريحات التي أدلى بها ضباط وجنود ومتطوعون في الجيش الذي يقوده خليفة حفتر يتبين أن الكرامة ما عادت بتلك اللحمة المتماسكة وأنها في طريقها للخروج من المشهد، ويظهر جليا أن بداية الخلاف حول عرابها هو ما يقلق أشد أنصارها حماسا، وربما يكون لهذا الخلاف ما بعده.
أسباب التصدع في الجبهتين بالقطع ترتبط بإشكاليات في المنطلقات والرؤية والمشروع كما تتعلق بممارسات ساهمت بشكل كبير في انفضاض الجمهور عنها، أو مكونات فاعلة من الرأي العام كانت تناصرها.
عملية الكرامة التي تغذت في انتشارها وكسبها للتأييد الشعبي على أزمة أقضت مضج "البنغازيين" بل الليبيين جميعا، وهي السلسة التي لم تتوقف من الاغتيالات في المدينة على مدار عامين أو أكثر، تشهد اليوم تراجعا في أعداد المناصرين ونرجع سبب ذلك إلى أنها لم تكون حركة برؤية متماسكة أو برنامج فاعل، بل وقعت فيما وقع فيه سلفها من قادة ثورة 17 فبراير فيما يتعلق بتأسيس الجيش والشرطة من خلال التعبئة والرص ثم الزج بمن يلتحق بالعملية إلى ساحات معارك ملتبسة، معارك يعوزها التخطيط ويغيب عنها التوجيه والدليل على ذلك الحجم الكبير في الخسائر في الأرواح والمعمار، هذا فضلا عن نزوح لم تعرفه بنغازي في تاريخها المعاصر، وتردي كبير في المعيشة والخدمات، ودون أن يقابل ذلك نتائج تقنع الرأي العام ليواصل دعمه للكرامة. وما التصدع والشقاق والنزاع الذي تشهده جبهة طرابلس والبيضاء وبنغازي إلا انعكاسا للفشل وتعبيرا عن الإخفاق.
الأزمة في الغرب الليبي أقل حدة والسبب أن طرابلس لم تشهد نزاعا مسلحا محموما كالذي يزداد لهيبه يوما بعد يوم في بنغازي، كما أن جبهات القتال في جنوب غرب العاصمة توقفت إلا من مناوشات صغيرة ومتقطعة سرعان ما يتم احتواؤها. لكن الحالة الأقل سوأ لا تعني أن عملية فجر
ليبيا كانت ناجحة، فهذا ما لا يمكن الجزم به، وذلك في ظل الخلافات التي شقت صفها ووضعت مكوناتها في مواجهة أضعفت قدرتها القتالية بعد أن كانت قوة جبارة.
المنطلقات الخاطئة وغياب المشروع والتنظيم الدقيق ثم القرارات المتهورة هي المسؤولة عن حالة التشرذم وما صاحبها من كوارث، وهي في نظري المسؤولة عن التشرذم الذي لحق كلا العمليتين (الكرامة وفجر ليبيا)، وكفى بهذه النتيجة دلالة على أزمة العمليتين منذ انطلاقهما، مع تأكيدي على الفروق بينهما والذي اتضح في النتائج هنا وهناك.
بكل يسر أقول أن الأزمة التي خرجت من رحمها حكومة الوفاق والعوائق التي يواجهها مشروع التوافق مرتبط بإشكاليات وثيقة الصلة بالاستقطاب بين الغرب والشرق، ثم استقطاب "الغرب غرب"، و"الشرق شرق"، وسيظل مشروع التوافق في ترنح وتقهقر ما دام الواقع هو واقع الاستقطاب العائد إلى خلفيات لم يتعرض لها الحوار، وسيظل الاستقطاب عائقا قائما، يمكن القفز عليه ولكن لا يمكن التحكم في تداعياته ما لم يفتح ملف الحوار من جديد بمنطلقات جديدة ونَفَس جديد يبتعد عن سياسة الردم، ويتأسس على مبادئ وطنية صرفة، ولا يشارك فيه إلا أهل الحكمة والروية المشهود لهم بالخير على أن يكون من خصائصهم أنهم لا يخضون لنفوذ الخارج.