كتاب عربي 21

بين شقة سان دوني ومقصورة الربان

طارق أوشن
1300x600
1300x600
إنها الرابعة والنصف فجرا. تتقدم قوات خاصة عربية داخل واحد من الأحياء المهمشة بالبلد، والهدف شقة صغيرة يفترض أن العقل المدبر للهجمات التي ضربت العاصمة قبلها بأيام، مخلفة عددا كبيرا من القتلى والجرحى، مختبئ داخلها. تبدأ عملية المداهمة فينهمر الرصاص مدرارا. النتيجة خمسة آلاف رصاصة على الأقل أطلقتها قوات الأمن مخلفة مقتل العقل المدبر وقريبة له وشخص ثالث ظلت هويته مجهولة. بدأت الأنباء تتسرب عن أن القتلى فرنسيو الجنسية تمكنوا من التسلل إلى البلد العربي في غفلة من أعين الأجهزة الأمنية، ولولا معلومة من المخابرات الفرنسية لما تمكنت الدولة العربية من تفادي عمليات جديدة كان الإرهابيون يخططون لها.

هذا مجرد مشهد متخيل قد يصير واقعا في أجل قريبا كان أو بعيدا. لكن الذي يهمنا في الأمر هو رد الفعل المنتظر من الدول الغربية "الديمقراطية" التي ستتهم القوى الأمنية العربية بالإفراط في استعمال القوة، إذ كيف يعقل أن تحتاج لخمسة آلاف طلقة رصاص لقتل ثلاثة أفراد مهما كان تسليحهم كبيرا. كما أن صحافة فرنسا وطبقتها السياسية سيعلو صراخها دفاعا عن مواطنيها الذين "اغتيلوا" دون محاكمة وبناء على معلومات استخبارية فرنسية.

لنعد إلى الواقع ونتأمل الخبرين التاليين:

شهر أكتوبر الماضي، تمكن طياران فرنسيان، كانا تحت الإقامة الجبرية بجمهورية الدومينيكان، من الهرب والعودة إلى الديار بمساعدة نائب برلماني فرنسي. وكان الطياران محكومين بالسجن عشرين عاما عقب العثور على سبعمائة كيلوغرام من الكوكايين على متن طائرة خاصة كانا يقودانها في العام 2013، وصورت عملية التوقيف درءا لأية ادعاءات. أعلنت الحكومة الفرنسية على لسان وزيرها في الزراعة أن باريس لن ترحل المتهمين ف"نحن لا نرحل مواطنين فرنسيين عندما يكونون على أراضينا".

قبلها وفي شهر يونيو، لم تدخر الديبلوماسية الفرنسية جهدا لمنع تنفيذ حكم الإعدام ضد مواطن فرنسي متهم بالإتجار في المخدرات حسب القضاء الإندونيسي. يومها صرح وزير الدولة الفرنسي للشؤون الأوربية أن "الديبلوماسية الفرنسية تجند كل طاقاتها لإنقاذ سيرج أتلاوي". وكان أن حشدت فرنسا عددا من الدول الغربية في مواجهة إندونيسيا متوعدة إياها بإجراءات عقابية سياسية واقتصادية في حال تنفيذ الحكم القضائي.

واليوم، تصول القوات الأمنية الفرنسية وتجول كما يحلو لها فقانون الطوارئ يحميها من كل مساءلة كما الخوف الذي زرعته في عقلية المواطن الفرنسي من خطر داهم على الأبواب. ولأن فرنسا "بلد قانون" فقد كلفت نفسها إبلاغ مجلس أوروبا أن "بعض الإجراءات التي اتخذت في إطار حالة الطوارئ يمكن أن تتطلب مخالفة بعض الحقوق التي تتضمنها الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان"، حيث إن المادة 15 من الاتفاقية تقضي بأنه "في حال حرب أو خطر عام آخر يهدد حياة الأمة يمكن لأي دولة من الدول الموقعة على الاتفاقية اتخاذ إجراءات تخالف الالتزامات شريطة إبلاغ مجلس أوروبا". وأول الغيث منع أكثر من ألف شخص من دخول التراب الفرنسي والتضييق على الفرنسيين المسلمين ومداهمة بيوتهم واعتقال المئات منهم دونما حاجة لأمر قضائي.

لقد جُرِحت الأجهزة الأمنية الفرنسية في كبريائها حينما اكتشفت أن عبد الحميد أباعوض كان متواجدا على التراب الفرنسي وهي التي كانت تظنه مخططا للعمليات التي ضربت باريس من سوريا، بل ازداد ذهولها حين كشفت كاميرات المراقبة كيف أن الأخير عاد إلى مواقع العمليات ليلة تنفيذها وكان قريبا من الرئيس فرانسوا هولاند وهو يتفقد قاعة البتاكلان. ولعل في ذلك تفسير للاستعمال المفرط للرصاص في عملية المداهمة التي استهدفت الشقة حيث كان متحصنا فيما بدا "انتقاما" لكبرياء مجروح.

في فيلم "المداهمة" المنتج في العام 2010 لمخرجه جوليان لوكليرك استعادة لعملية المداهمة التي قامت بها قوة التدخل التابعة للدرك الفرنسي GIGN لإنقاذ المسافرين على متن الطائرة المتوجهة من الجزائر العاصمة في اتجاه باريس يوم السادس والعشرين من شهر ديسمبر 1994. شكلت العملية الأمنية نجاحا غير مسبوق للقوات الفرنسية تابعها الملايين مباشرة على شاشة التلفزيون. كان بطل العملية يومها هو تييري أوروسكو، ابن مدينة الرباط المغربية، الذي استلم بعدها قيادة الفرقة في العام 2011 قبل أن يغادرها في العام 2014 وهو ما لم يمكنه من الإشراف على عملية سان دوني.

يروي الفيلم حكاية ثلاثة شخصيات هي تييري، وكارول الموظفة بوزارة الخارجية الفرنسية ويحي عبد الله زعيم الخلية المنفذة لعملية اختطاف الطائرة التي خلصت التحقيقات بعدها أن هدفها كان ضرب برج إيفيل كرمز فرنسي، وهو ما شكل إنذارا لعمليات الحادي عشر من سبتمبر الأمريكية. منعت الحكومة الفرنسية بالقوة إقلاع الطائرة من مارسيليا في اتجاه باريس بعد أن فرضت على الحكومة الجزائرية السماح لها بمغادرة مطار هواري بومدين، بمن فيها، بمجرد مقتل شاب فرنسي يعمل بسفارة باريس بالجزائر على يد المختطفين بما غير المعادلة كما جاء على لسان مسؤول كبير بالفيلم. كان الشاب الفرنسي ثالث القتلى بعد شرطي جزائري ومواطن فيتنامي.

كارول (على هاتف قريب من خلية الأزمة): أنا كارول جانتون أشتغل لفائدة وزارة الخارجية الفرنسية وأتحدث هنا باسمها. هل لي أن أعرف مخاطبي؟ هل أنت علي توشنت؟

المتحدث: سأحول له فحوى مكالمتنا.

كارول: رؤسائي يودون التفاوض معه. أحتاج خط اتصال مباشر.

المتحدث: سأعاود الاتصال بعد ساعة. حضري نفسك لمقابلته.

كارول (وعلامات الصدمة بادية على وجهها): علي توشنت موجود على التراب الفرنسي؟

بعد أكثر من عشرين سنة، تكررت الحكاية ذاتها مع عبد الحميد أباعوض.

علي توشنت كان العقل المدبر للهجمات التي شهدتها فرنسا انطلاقا من اختطاف الطائرة نهاية 1994 والهجمات الدامية التي استهدف خطوط المترو ستة أشهر بعدها. وهو ما حوله إلى العدو رقم واحد لفرنسا التي جندت أجهزتها في سبيل تعقبه قبل أن تقضي عليه الشرطة الجزائرية بشارع طنجة بالجزائر العاصمة. يومها كانت فرنسا تعتقد أنه موجود بالتراب الفرنسي أو الأوروبي.

يحكي فيلم "المداهمة" كيف أن كارول أقنعت رؤساءها بالتفاوض مع علي توشنت باعتباره معاديا للجزائر لا لباريس بما يعني استبعاد استهدافه للتراب الفرنسي.

كارول (موجهة الكلام لمديرها في العمل): الإرهابيون مجرد أدوات. العقل المدبر لاختطاف الطائرة هو علي توشنت. لقد استطاع الإفلات من أجهزتنا عدة مرات وهناك حديث عن كونه عميلا مزدوجا أو عميلا لأطراف عدة.

المدير: مثل من؟

كارول: الجزائر، روسيا ونحن.

المدير: ما هي خطتك؟

كارول: شراء السلام. الجماعة الإسلامية المسلحة منهكة بعد ثلاث سنوات من الحرب الأهلية. خزائنها فارغة وتحتاج أموالا.

المدير: أتعلمين أن فشل الصفقة يعني تمويلا للإرهاب؟

لم ترد كارول لكن خطتها نالت موافقة خلية الأزمة الممثلة للحكومة الفرنسية. لم تكن تلك سابقة ففي كثير من عمليات اختطاف المواطنين الفرنسيين بمنطقة الساحل ونيجيريا دُفع الثمن للإفراج عنهم وسط نفي فرنسي مستمر لدفع فدية تعد في واقع الأمر "تمويلا للإرهاب".

في الفيلم كما في الواقع حاصرت قوة التدخل التابعة للدرك الفرنسي المختطفين الأربعة داخل مقصورة الربان ولم تتوقف عن إطلاق النيران حتى أردتهم صرعى في تشابه غريب لمحاصرة ثلاثة أفراد بشقة أقرب إلى مقصورة الربان بسان دوني.

علي توشنت (موجها كلامه لكارول التي قدمت له "رشوة" مقدارها 700 ألف فرنك فرنسي): كنت أعتقد أن حكومتك ستعرض الضغط على الحكومة الجزائرية للإفراج عن إخواننا المسجونين فإذا بك تأتينني بفكة أموال.  أنتم لا تفهمون مع من تتعاملون. أنتم تتعاملون مع أشخاص مصممين لن يتراجعوا إلى الخلف. ولو استمرت هذه الحرب ألف سنة سنقاتل وسيأتي بعدنا أبناؤنا وأحفادنا. سنضربكم حيثما نشاء ومتى نشاء. 

احتفظ علي توشنت بالمال وربما به مول هجمات المترو الباريسي.

0
التعليقات (0)