كتب بيتر أوبورن: بطلائه جميع
الإسلاميين بالفرشاة نفسها،
كاميرون يقصي حلفاء في غاية الأهمية في الحرب على
الدولة الإسلامية.
هناك حقيقة معلومة جيدا، وهي أن معظم رؤساء الوزراء البريطانيين يفقدون عقولهم في النهاية.. مارغريت ثاتشر وطوني بلير وغوردن براون، كان ثلاثتهم على الأقل على وشك أن يحصل لهم ذلك عند اللحظة التي فقدوا فيها مواقعهم.
أتذكر جيدا اللحظة التي أدركت فيها أن طوني بلير كان يفقد صلته بالواقع، كان ذلك أثناء الخطاب الذي ألقاه أمام مؤتمر حزب العمال في عام 2001، بعد أسابيع قليلة من تدمير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك. بات واضحا أن السيد بلير، الذي وقف يتحدث عن نظام دولي جديد ينطلق من ركام الحادي عشر من سبتمبر، قد بات في حالة من التيه.
حتى وقت قريب، كان دافيد كاميرون بشكل عام رئيس وزراء متزنا، وهو أمر غير معتاد (يستمد حصانة كبيرة ومنعة من حقيقة أن له زوجة عاقلة، هي سامانثا). كان يرى الأمور في سياقها الصحيح، ولم ينل منه شغله لأعلى منصب في الدولة.
ولكن، بدأت مؤخرا تظهر علامات تبعث على القلق، فكما أن طوني بلير فقد القدرة على استيعاب أبعاد موضوع القاعدة، يبدو أن صعود تنظيم الدولة الإسلامية قد دفع بالسيد كاميرون إلى الانحراف عن الجادة.
قد يكون الأمر مفهوما من ناحية ما. فمن الطبيعي أن يكون لرئيس الوزراء الحق في أن يشعر بمسؤولية شخصية تجاه البريطانيين الذين قضوا نحبهم الأسبوع الماضي في مذبحة الشاطئ. يلازم مثل هذا الشعور بالمسؤولية الرغبة في عمل شيء ما.
ومع ذلك، يمكن للمرء أن يستنتج من رد فعل رئيس الوزراء على الفظائع التي ارتكبت في تونس أنه ربما يكون قد وصل إلى نوع من نقطة التحول الشخصي. وهذا أمر في غاية الخطورة على المدى البعيد، ليس فقط بالنسبة له، بل وبالنسبة لجميع الآخرين.
بادئ ذي بدء، دعونا نختبر زعم كاميرون أن الدولة الإسلامية تمثل تهديدا "وجوديا" لبريطانيا. هذا بالطبع كلام فارغ يقال على سبيل الإثارة، فلا يتصور عاقل أن ثمة إمكانية على الإطلاق أن ترفرف راية الدولة الإسلامية السوداء فوق مقر رئيس الوزراء أو أن تستبدل الملكة بالخليفة.
بالمقابل، كان هناك احتمال حقيقي في عام 1940 أن ترفرف راية الصليب المعكوف فوق مباني مؤسسات الدولة البريطانية، بينما كان النازيون يغزون
بريطانيا. وفي سنوات الحرب الباردة مع روسيا السوفياتية عشنا تحت تهديد الإبادة بالنووي. تلك كانت نماذج من التهديدات "الوجودية" الحقيقية في القرن العشرين.
ما من شك في أن الدولة الإسلامية تشكل خطرا إقليميا في الشرق الأوسط وفي شمال أفريقيا وربما ما وراءهما. ولكن، ينبغي أن تواجه المشكلة بشكل جدي ومدروس جيدا، وهذا ينبغي أن يبدأ بإدراك كيف لعبت بريطانيا والغرب دورا مهما في إيجاد الظروف التي مكنت للدولة الإسلامية من الظهور.
قبل اثني عشر عاما صوت كاميرون لصالح غزو العراق، وهو الأمر الذي فتح باب الفوضى التي ولدت من رحمها الدولة الإسلامية. وكان أول إجراءاته كرئيس للوزراء هو تجاهل النصيحة التي أسداها له كبار قادته العسكريين بألا يهاجم ليبيا، ذلك المشروع الكارثي الذي تسبب في زعزعة الاستقرار في شمال أفريقيا. ثمة دليل الآن على أن سيف الرزقي، المسلح الذي قتل 38 سائحا في سوسة يوم الجمعة، قد يكون تلقى التدريب في ليبيا.
وكذلك تتطلب سياسة كاميرون تجاه سوريا الفحص والتقييم. في السنوات الأولى من الحرب الأهلية عمدت بريطانيا إلى مساندة جماعات لعلها فيما بعد هي التي تشكلت منها نواة الدولة الإسلامية. لا نشك في حسن نية كاميرون حينما كان يصر مرارا وتكرارا على أنه ينبغي على الرئيس الأسد أن يرحل، ولكن ذلك ساعد في خلق حالة عدم الاستقرار المستفحلة والتي مكنت بدورها تنظيم الدولة الإسلامية من الترعرع.
تتطلب محاربة الدولة الإسلامية في الشرق الأوسط سياسة خارجية أكثر نضجا، وأكثر وعيا وأكثر حكمة مما أنتجه حتى الآن رئيس الوزراء البريطاني، وذلك يعني بناء تحالف مع إيران وكذلك مع المملكة العربية السعودية والتعاون مع حركات مثل الإخوان المسلمين وحماس وحزب الله، وكلهم في خندق واحد ضد تنظيم الدولة.
لا يبدو مثل هذا النوع من الإدارة الذكية لشؤون الدولة في متناول رئيس الوزراء أو ضمن إمكانياته. فهو كما يبدو يعتبر جميع الحركات السياسية الإسلامية شيئا واحدا. وإذ يفعل ذلك فإنه يقع في نفس خطيئة سلفه بلير حين كان يصر على تقسيم العالم إلى أسود وأبيض، إلى صالح وشرير، إلى غربي وإسلامي. فقد صرح رئيس الوزراء يوم الثلاثاء، بأنه "لعل أهم شيء على الإطلاق هو مواجهة الأيديولوجيا السامة التي تدفع الناس نحو القيام بأعمال فظيعة مثل تلك التي شهدناها يوم الجمعة".
وقد ذهب إلى التأكيد على أن هذه الأيديولوجيا السامة تمتد إلى ما هو أبعد من تنظيم الدولة الإسلامية، وتشتمل على ما أطلق عليه وصف "التطرف". وطبقا لكاميرون، فإن كل من يختلف مع آخر صرعات القيم الغربية في القرن الحادي والعشرين حول حقوق النساء والمثليين، فإنه مرشح لأن يكون متطرفا. كل من يعارض الغرب فهو متطرف، وكل من يؤمن بنظام الخلافة (وهو نظام حكم أثبت جدارته على مدى ما يزيد على ألف عام) فهو متطرف.
نظرية كاميرون هذه تعتريها كل أنواع المشاكل الفكرية. فعلى سبيل المثال، عليه أن يشرح لماذا لا ينبغي أن يعامل البابا فرانسيس وكل كيان كنيسة الروم الكاثوليك على أنهم متطرفون يتوجب قمعهم أو حتى حبسهم.
ومع ذلك، فإن المصاعب العملية هي الأكثر أهمية ومصدر الإشكال الأكبر. لا يمكن تحدي التهديد الصادر عن تنظيم الدولة الإسلامية إلا إذا استعدت القوى الإقليمية في الشرق الأوسط للاستنفار وإعلان الحرب عليه. ولكنهم جميعا، وطبقا لتعريف كاميرون ذاته، متطرفون من نوع أو آخر.
يشكل خطاب كاميرون مشكلة موازية على الساحة المحلية، فقد توصل إلى تحديد هوية العدو في الداخل، تماما كما فعلت السيدة ثاتشر أثناء إضراب عمال المناجم قبل ما يقرب من ثلاثين عاما. فطبقا له، تعتبر تنظيمات مثل جماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير وحركة حماس والمجلس الإسلامي البريطاني، جماعات متطرفة. ما من شك في أن نظرية كاميرون تنذر بالويل والثبور. فالدولة البريطانية بحاجة ماسة إلى مساعدة بعض هذه الحركات إذا ما أرادت إقناع الفتيان والفتيات، ممن اختلطت الأمور عليهم، ألا يذهبوا للانضمام إلى تنظيم الدولة ليقاتلوا ضمن صفوفه.
تشير خطابات كاميرون الأخيرة إلى أن أياما كالحة تنتظر بريطانيا في المستقبل القريب. فالجالية المسلمة تواجه احتمال التعرض للاضطهاد بسبب معتقداتها. وبذلك تتحول مكافحة الإرهاب إلى مكافحة الفتنة. وإذ يعاد تصنيف الحلفاء ليصبحوا أعداء، فإن من المحزن جدا أن نرى رئيس وزراء المحافظين يكرر نفس أخطاء سلفه رئيس وزراء العمال.
*
بيتر أوبورن: فاز بجائزة الصحافة الممنوحة لكتاب الأعمدة في عام 2013، وكان قد استقال مؤخرا من موقعه كمحرر سياسي رئيس في الديلي تلغراف. له عدة مؤلفات منها كتاب بعنوان "انتصار الطبقة السياسية: صعود الكذب السياسي" وآخر بعنوان "لماذا الغرب مخطئ بشأن إيران النووية".
(عن "ميديل إيست آي"، مترجم خصيصا لـ"عربي21")