كتب داود عبد الله: كلما ذكر مصطلح "تسييس
القضاء" يخطر في بال المرء العراق تحت حكم نوري المالكي، أو
مصر تحت حكم عبد الفتاح
السيسي، ولكن هذا المرض الخطير والقاتل أحيانا، ليس حصرا على الشرق الأوسط، بل إنه ينتشر ويهدد صحة وسلامة الديمقراطيات الغربية.
فقصة وزير الدفاع الإسرائيلي السابق شاؤول موفاز في الممكلة المتحدة، وقصة
أحمد منصور في ألمانيا، تعدان مثالين قويين على كيفية عمل "متلازمة القضاء الشرق أوسطي".
ويحاول محامون بريطانيون، يعملون نيابة عن عائلات فلسطينية لعدة أعوام، محاكمة موفاز، وغيره من المشتبه بارتكابهم جرائم حرب من الإسرائيليين، بحسب معاهدة جنيف (1957). وتحتوي قائمة الادعاء على جرائم مثل القتل المتعمد، والاغتيالات والتعذيب، وهدم البيوت، وغيرها من الأفعال التي تعد عقوبات جماعية.
وبالرغم من هذا، فإن موفاز موجود في لندن لعدة أيام، ولا يتمتع بحصانة دبلوماسية، ولكنه لم يعتقل، بالرغم من أن خرق اتفاقيات جنيف يعد جرائم تقع في تخصص القضاء في أنحاء العالم. ولذلك يمكن محاكمة المتهمين في أي مكان في العالم، بغض النظر عن جنسية المتهم، أو أين تم ارتكاب تلك الجرائم. وفي محاولة لحماية الإسرائيليين المشتبه بهم، قام الائتلاف الحاكم، الذي قاده المحافظون، بتمرير قانون عام 2011، أعطى المدعي العام حق الرفض لطلبات الاعتقال الخاصة المقدمة إلى القضاة في قضايا الجرائم الدولية.
وأدرك المراقبون وعامة الناس سريعا أن الدافع خلف تغيير الإجراءات سياسي أكثر منه قانوني. وقد برر وزير الخارجية السابق ويليام هيغ التحرك بقوله: "لا يمكن أن نكون في وضع لا يستطيع معه السياسيون الإسرائيليون زيارة البلاد. الوضع الحالي غير مرض، ولا يمكن الدفاع عنه، ونيتي هي أن أتصرف وبسرعة".
وفي ألمانيا تكشفت مهزلة سياسية مشابهة في عطلة نهاية الأسبوع، حيث منعت السلطات مقدم البرامج في قناة "الجزيرة" أحمد منصور من الصعود على الطائرة واعتقلته بعد ذلك. وكان التخمين الأولي أن الأمر متعلق بأمر اعتقال من الإنتربول بطلب من الحكومة المصرية، ولكن هذا لم يكن صحيحا. وقد تم إخلاء ساحة منصور من الإنتربول في تشرين الأول/ أكتوبر 2014، وقد أبرز الدليل على ذلك للسلطات الألمانية لإثبات الأمر.
وبالرغم من الإثبات، إلا أن الأمر استغرق يومين لمعرفة مصدر أمر الاعتقال، فقد اكتشف محامو منصور أن موكلهم كان ضحية اتفاقية أمنية سرية بين الحكومة الألمانية والحكومة المصرية، حيث كانت الأخيرة تريد تسليمه إلى مصر، وليس مجرد اعتقاله في ألمانيا.
ويحسب لمنصور أنه كان من البداية مقتنعا بجذور المؤامرة. ففي مكالمته الأولى لقناة "الجزيرة"، التي تم بثها مباشرة من مطار تيغال في برلين، قال إنه لمن العار أن تسمح دولة ديمقراطية مثل ألمانيا لنفسها أن تستخدم من ديكتاتورية عميلة، ولها سجل دموي مثل ديكتاتورية السيسي.
ومن الواضح أن إطلاق سراح منصور لن يكون نهاية الأمر. فقد تم تعرية المؤسسة السياسية الألمانية، واهتزت حتى الجذور. وتقع المستشارة أنجيلا ميركل في قلب الفضيحة، فهي التي استضافت السيسي في برلين قبل اعتقال منصور بأسبوعين، وقد عارض الإعلام الألماني تلك الزيارة بشدة. والإعلام ذاته سيطلب أجوبة ومساءلة لأولئك الذين جلبوا الخزي لبلادهم عندما حاولوا إفساد القضاء.
وعودة إلى
بريطانيا، فإننا لم نسمع آخر أخبار السيسي وتواجده السام، فبعد يوم واحد من حكم النظام على الرئيس محمد مرسي بالإعدام، قامت الحكومة البريطانية بدعوة السيسي إلى زيارة لندن. وإن أخذنا بعين الاعتبار التوجهات المتطرفة والتخوف من الإسلام الذي يسود حزب المحافظين الحاكم، فلا أحد سيستغرب أن تنتج زيارته فضيحة مماثلة يتورط فيها قضاء يدفع نحو التسييس.
وفي الواقع فإن احتمال حصول ذلك في بريطانيا أكبر من ألمانيا. فوزير العدل الجديد مايكل غوف ليس مؤهلا، ولا يملك خبرة في المجال القضائي، ويشارك السيسي في صفتين خطيرتين، وكلاهما صهيوني دون خجل، وكلاهما تحركه مشاعر كره قوية لما يسمى بالإسلام السياسي. فهل ستقوم الحكومة الآن بنشر نتائج تحقيقها في جماعة الإخوان المسلمين؟ وهل ستحاول بريطانيا مثل ألمانيا تسليم المعارضين المصريين إلى النظام في القاهرة؟ سوف نرى.
وما هو أكيد هو أن أوروبا تعرض القضاء، والحكم بالقانون فيها لخطر حقيقي، باعتمادها على أصدقاء مثل السيسي، فقد وصلت متلازمة القضاء الشرق أوسطي، ويجب ألا يرحب بها.
* مدير مركز مراقبة الشرق الأوسط (ميمو) في لندن.