وجه دافيد
كاميرون رسالة فظيعة إلى الشرق الأوسط من خلال دعوته الرئيس
المصري عبد الفتاح
السيسي لزيارة
بريطانيا.
دشن ديفيد كاميرون مرحلة كالحة في الحياة السياسية البريطانية عندما أقدم يوم الأربعاء على مد يد الصداقة إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الملطخة يداه بالدماء.
ما من يوم يمر تقريبا إلا وتردنا تقارير جديدة عن الفظائع الذي ترتكب في مصر السيسي: فهذه حالة أخرى من الاختفاء، وتلك حالة أخرى من سجن صحفي، وهناك حالة أخرى من انتهاك الدستور، وهنا مزيد من أحكام الإعدام بحق أشخاص أبرياء، ومقابل كل ذلك، مزيد من التذلل والخضوع من قبل القادة الغربيين.
وجهت الدعوة بعد يوم واحد فقط من صدور حكم نهائي بإعدام محمد مرسي ضمن قائمة طويلة من أحكام الإعدام، وكان مرسي قد أطيح به قبل عامين بعد اثني عشر شهرا فقط من فوزه في أول انتخابات رئاسية حرة ونزيهة في تاريخ مصر.
مازالت حكومة كاميرون لا تصف هذا البغي بأنه انقلاب. بإمكاننا جميعا أن نشعر بمزيج من الإشفاق والازدراء تجاه جون كاسون، السفير البريطاني البائس في القاهرة، والذي صدرت إليه الأوامر بممارسة التزلف والمداهنة يوميا تجاه دكتاتورية السيسي الإجرامية.
لقد استمرأت وزارة الخارجية الكذب بشأن العلاقة مع مصر. كنت قبل أسبوعين قد اتصلت هاتفيا بوزارة الخارجية وسألتهم عن مدى صحة التقارير التي تفيد بأن بريطانيا توشك أن توجه دعوة إلى الرئيس السيسي. فردت علي مسؤولة عاثرة الحظ لتنكر بشكل قطعي أن يكون من الوارد أن يقوم السيسي بزيارة كهذه في المدى المنظور. وأضافت أن الزيارة ليست حتى قيد النقاش، وبأنه لا توجد أي خطط لقيام السيسي بالزيارة، وأنه لا يوجد أدنى فرصة لتوجيه دعوة له في المستقبل القريب. حدث ولا حرج عن أمانة ونزاهة وزارة الخارجية.
بعد 48 ساعة من توجيهه دعوة للرئيس السيسي، غاص دافيد كاميرون أكثر في مستنقعه الشخصي، حيث سافر إلى براتيسلافا ليتهم مسلمي بريطانيا بأنهم "يؤيدون بصمت" تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
ثمة عرف ذو قيمة سامية في السياسة البريطانية، وهو أن القادة حينما يكونون مسافرين في الخارج لا يتطرقون إلى قضايا السياسة المحلية. لو أراد السيد كاميرون شن هجوم على مسلمي بريطانيا، كان ينبغي عليه أن يفعل ذلك فوق التراب البريطاني وبالتأكيد ليس في حضرة جمهور أجنبي من تجار السلاح والأشكال الأمنية في مؤتمر مريب يعقد في سلوفاكيا.
من المهم، على كل حال، استيعاب أنه توجد رابطة قوية ومباشرة بين دعوة دافيد كاميرون للرئيس السيسي ليزور بريطانيا وبين تعنيفه وتبكيته لمسلمي بريطانيا. فكلا الخطوتين كانتا بالأساس تطاولا على الإسلام السياسي.
يفهم من الدعوة التي وجهت إلى السيسي أن بريطانيا حسمت أخيرا موقفها تجاه الربيع العربي، ذلك الموقف الذي طالما كان مترددا ومرتبكا. فنحن الآن أصبحنا بشكل واضح لا لبس فيه في خندق الثورة المضادة، وحلفاؤنا هي الدكتاتوريات الحاكمة في كل من مصر والإمارات العربية المتحدة والبحرين والمملكة العربية السعودية، والتي ترى في صعود الإسلام الديمقراطي خطرا فتاكا يقض مضاجعها ويهدد وجود أنظمتها الاستبدادية.
وهذا يعني أن بريطانيا تقبل الآن بالتحليل القائل بأن الإخوان المسلمين – أفضل الجماعات المعارضة تنظيما وأضخمها حجما في معظم الدول العربية – هي حركة غير مشروعة في الشرق الأوسط. وهذا هو السبب في أن دافيد كاميرون ووزير خارجيته فيليب هاموند على استعداد تام لتجاهل عمليات الخطف والتعذيب والقتل وتجاهل حتى الحكم الصادر بالإعدام على مرسي.
هناك مشكلة في هذه السياسة الجديدة. وذلك أنها تصب في صالح التحليل الأعوج لكل من زعيم القاعدة أيمن الظواهري وزعيم داعش أبو بكر البغدادي. إن التواطؤ الغربي مع مشروع قمع واضطهاد الإسلام الديمقراطي يعني أن القاعدة أو داعش لها كل الحق في الاستهزاء بالمزاعم البريطانية والأمريكية بأننا نقف إلى جانب الديمقراطية وسيادة القانون.
ومع ذلك يبدو أن ذكاء خبراء ومحللي السياسة الخارجية البريطانية أدنى من أن يتمكن هؤلاء من إدراك أن دعم الرئيس السيسي وغيره من الطغاة العرب إنما يعتبر بمثابة هدية دعائية ضخمة تقدم للحركات الجهادية.
والنقد ذاته يوجه إلى الكلمة التي ألقاها السيد كاميرون في براتيسلافا، والتي اتهم فيها مسلمي بريطانيا بأنهم "يدعمون بصمت" التشدد.
مصطلح التشدد هذا إنما هو جزء من الخطاب الرسمي الأخرق الذي يخفق في التمييز بين الإخوان المسلمين والقاعدة وحماس وحزب التحرير وعدد من المنظمات الإسلامية الأخرى، حيث إن هذه جميعا تصنف كما لو كانت شيئا واحدا داخل العقل الذي يهيمن على الحكومة البريطانية.
تتجاهل مثل هذه اللغة حقيقة أن الإخوان المسلمين هم من أشد المعارضين لكل من داعش والقاعدة، ويعتبرون هاتين المنظمتين الإرهابيتين خروجا بشعا وإجراميا على كل ما يمثله الإسلام. إن تجاهل الإمكانيات الديمقراطية داخل الإسلام إنما يقدم دعوة مفتوحة على طبق من فضة للجماعات التي تنتهج العنف سبيلا للإصلاح والتغيير.
والحقيقة هي أن تيار الإسلام السياسي يشتمل على عدد كبير من المكونات التي تدعم القيم ذاتها التي نحب نحن في بريطانيا أن نسميها قيما بريطانية، وهؤلاء أنفسهم يقفون على النقيض من الحركات الأصولية مثل القاعدة وداعش.
ومن هذه المنظمات المجلس الإسلامي البريطاني، ومع ذلك لم تتواصل الحكومة بشكل رسمي مع المجلس الإسلامي البريطاني طوال السنوات الخمس التي ترأس فيها دافيد كاميرون مجلس الوزراء، وذلك لأن حكومته تصنف كل شكل من أشكال الإسلام السياسي على أنه تطرف.
تتوفر لدى المجلس الإسلامي البريطاني المعرفة والخبرة والنفوذ داخل الجالية المسلمة، ما يؤهله للمشاركة في المعركة ضد داعش. إلا أن الحكومة البريطانية تستمر في تجاهل وتهميش هذه المنظمة. ثمة استدارة مميتة في منطق رئيس الوزراء.
من باب الإنصاف، لابد من توضيح أن دافيد كاميرون لم يكن لديه الكثير من الخبرة في شؤون العالم قبل أن يتقلد منصبه رئيسا للوزراء في عام 2010، ولم تتجاوز خبرته في التعامل مع الدول الأخرى قضاء الإجازات على شواطئ البحر المتوسط.
وحاله كحال سلفه طوني بلير، قادته قلة خبرته إلى الوقوع في تحليل تبسيطي وتسطيحي لمجريات الأمور في الشرق الأوسط وكذلك للحركات الإسلامية التي توجد داخل بريطانيا.
على كل حال، مثل هذا التحليل في غاية الخطورة. إن ما يفعله دافيد كاميرون هو أنه يوجه رسالة فظيعة إلى الشرق الأوسط من خلال دعوة الرئيس السيسي لزيارة بريطانيا. في نفس الوقت، ينبثق اتهامه لمسلمي بريطانيا بتأييد التطرف من مزيج من السذاجة والجهل. إن الحكومة البريطانية بحاجة ماسة إلى إعادة التفكير في مقاربتها تجاه الإسلام السياسي، محليا وعلى الساحة الدولية.
(ميدل إيست آي)