كتاب عربي 21

الإرهاب.. مجرد هواية في أوقات فراغ

طارق أوشن
1300x600
1300x600
بنلف في دواير
ندور على الأمان
و نلاقينا رجعنا
تاني لنفس المكان 
ندور ندور ندور

بهدوء غريب، يمشي سيف الدين الرزقي على شاطئ مدينة سوسة الساحلية بلباسه الصيفي، الذي لا يميزه عن أي من مرتادي المكان، متأبطا بندقية كلاشينكوف قبل أن يبدأ في تنفيذ المهمة. الحصيلة، ما يقارب الأربعين ضحية من السياح الأجانب الباحثين عن حرارة شمس شكلت دوما وسيلة الجذب الأهم التي تعتمدها الحكومات العربية لتنشيط المجال السياحي.

قبله، وفي نفس اليوم، يصل فهد سليمان القباع إلى مطار الكويت فجرا بعد مرحلة "ترانزيت" قصيرة قضاها بالبحرين. ومع أذان الظهر، الذي صادف يوم جمعة، ينفذ المهمة. الحصيلة، ما يقارب الثلاثين ضحية من الكويتيين الذين رسخت بلادهم نموذجا، كان ينظر إليه كمثال يحتذى، في التعايش بين الشيعة والسنة داخل الوطن الواحد.

قبلها، وفي نفس اليوم، يصل ياسين الصالحي إلى مقر معمل إير بروداكت، وينتهي به المطاف على صورة سيلفي مع مديره هيرفي كورنارا بعد أن فصل رأسه عن جسده، أرسلها لـ"مجهول".

لم تتأخر ردود فعل حكومات البلدان المعنية بالعمليات تلك حيث سارع ممثلوها إلى الحضور إلى مسارح الجريمة مع الوعد بـ"إحقاق العدالة ومحاربة البؤر الإرهابية الدخيلة". هي المشاهد والتصريحات ذاتها تتكرر غداة كل عملية إرهابية مع اختلاف الزمان والمكان. لكن الأكيد اليوم أن عمليات التفجير والذبح والقتل صارت هواية يمارسها كثير من أصحابها في أوقات فراغهم بينما تلعب الحكومات وأجهزتها الأمنية في الوقت الضائع. 

في فيلم (أوقات فراغ) لمخرجه محمد مصطفى، محاولة سينمائية حاولت النفاذ إلى واقع الشباب المصري ومن خلاله العربي في علاقته مع الأهل والدين والانحراف. فقد عكس الفيلم كثيرا من تفاصيل يوميات الشباب المصري بما جعله توثيقا فعليا للفراغ الشديد الذي يعانون، ورصد لحالة التخبط والارتباك والضياع التي يعيشها هؤلاء في مواجهة تسلط الأهل أو استقالتهم من مهمتي التربية والتتبع، وضعف التوجيه والتكوين الديني الذي صار التلفزيون مصدره الأوحد مع شيوخ الفضائيات من شاكلة "الشيخ ميزو" إلى ناشري الأفكار الضالة المتطرفة. وفي الشارع، كل مغريات الحياة الصاخبة من تفسخ أخلاقي ومخدرات على قارعة الطرق ومغريات لا تنتهي.

مي: انت عارفة أن شكلك لذيذ أوي  الحجاب؟

منة: بجد؟

مي: آه والله. بس ايه ايلي خلاكي تتحجبي بسرعة كده؟

منة: أصل أنا الأيام ده سمعت كم شريط لعمرو خالد فندمت على حاجات كثير كنت باعملها.

لم تمر إلا ساعات حتى عادت منة إلى "سفورها" لتحتفل بعيد ميلاها لأن "اللبس ده (الحجاب) بيحرر (من الحر)"، وترتمي بعده مباشرة في أحضان صديقها دون ندم.

وفي مشهد تعرض أحد أبطال الفيلم لحادثة سير مميتة، يلتف الجميع على الصديق المحتضر وهو يتكلم بضميرهم الغائب أجمعين.

طارق: أنا خايف أقابله (الله) أنا خايف.. أنا خايف..

هنا تبدأ رحلة البحث عن الخلاص، ليكون الدين الملجأ والملاذ دون استعداد فقهي أو تدرج في الممارسة، مما يفتح الباب مشرعا على إمكانية السقوط في المحظور والانتقال إلى الضفة الأخرى من تطرف إلى تطرف نقيض.

غداة الهجوم الذي تعرض له متحف باردو قبل أشهر، لم تجد الطبقة التونسية من سبيل للتغطية على فشلها في تأمين المكان غير استعارة "المسيرة الجمهورية" من "فرنسا الحريات" للدلالة على وحدة النسيج المجتمعي التونسي في مواجهة التهديدات الإرهابية. انتهت المسيرة بفضيحة تبين أن حكام تونس يعيشون في زمان غير زمانهم ولا يفرقون بين فرانسوا هولاند وسلفه الراحل فرانسوا ميتران. بعد ما حدث في سوسة، لم تعد الوحدة الوطنية شعارا بل كان الباجي قائد السبسي مباشرا حين قال أن التونسيون ليسوا على قلب رجل واحد. ولأنهم كذلك، فقد تم الاكتفاء بزيارة وزراء داخلية تونس وفرنسا وألمانيا وبريطانيا إلى موقع الحادث، وتنظيم ندوة صحفية بالمناسبة، في انتظار أن تجمعهم فرصة لقاء متجدد لا يعرفون له مكانا ولا زمانا، فرئيس وزراء فرنسا لم يخف أن "التهديدات الإرهابية كبيرة، وستكون طويلة من حيث مدتها" قبل أن يختم بالقول إن الموضوع صار "حرب حضارات".

ليس هذه أول مرة يستعمل فيها مصطلح "حرب حضارات" بل سبقه إليه نيكولا ساركوزي، الطامح للعودة إلى قصر الإيليزيه"، يوم استهدفت صحيفة شارلي ايبدو شهر يناير الماضي. استنكر اليسار الفرنسي يومها على الرجل استعمال العبارة قبل أن تصدر عن رئيس حكومة اليسار ستة أشهر بعدها.

أما مارين لوبن، زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية اليمينية، فطالبت بإغلاق مساجد السلفيين في البلاد. التونسيون كانوا سباقين لإقرار خطة الإغلاق حيث أصدروا الأمر بإغلاق ثمانين مسجدا. في فرنسا تشير الإحصائيات أن المساجد المعنية بكلام الساسة لا تتعدى التسعين. 

في العمليات الثلاثة ليوم الجمعة الأخير، كان عنصر الشباب حاضرا كآليات تنفيذ طيّعة انقادت لمصيرها عن سبق إصرار واقتناع مثيرين. وكانت المناسبة سانحة مرة أخرى لشيوخ السياسة الكاتمين على أنفاس البلاد والعباد لعقود كي يقدموا تحليلاتهم المكرورة لواقع الشباب العربي المسلم الذي يجعله منساقا لتبني الفكر الإرهابي. 

بنلف في دواير

و الدنيا تلف بينا

دايما بننتهي

لمطرح ما ابتدينا

طيور الفجر

تايهة في عتمة المدينة

بتدور

حرب الحضارات أمر واقع لا يحتاج تأكيدا من فالس أو ساركوزي أو غيرهما. لكن الإشكالية الكبرى أن الشباب المسلم يعيش تبعاتها في كل يوم ولحظة ولا تظهر عند الساسة الغربيين إلا ذات تفجير أو عمل مسلح يستهدف أراضيها أو مواطنيها. غير ذلك، فالحرب لا تأخذ إلا اتجاها واحدا وبأشكال مختلفة غالبا ما تكون "ناعمة". وليس أكثر من الاستفزاز وقودا لإشعال نار الغضب ومنح التنظيمات المسلحة شرعية الوجود بل تزوديها بالمدد البشري التحاقا بالصفوف هناك حيث الحرب مستعرة أو هنا بالداخل حيث الخلايا المنظمة منشرة والذئاب المنفردة تتحين الفرصة لطبع مسارها بالدم.

حينما تخرج مظاهرة للمثليين ببريطانيا تحمل علما تخط فيه كلمات التوحيد على شكل أدوات جنسية، فذاك استفزاز لن يعدم من يعتبره إعلان حرب على الإسلام والمسلمين.

وحين يخرج من بيننا من يصرون على المجاهرة بالإفطار نهار رمضان ولا تستطيع قوى الأمن بالجزائر تطبيق القانون ضدهم، وحين يفعل الأمن التونسي  يقال أربعة مسؤولين أمنيين بتهمة الاعتداء، فذاك استفزاز لن يعدم من يعتبره إعلان حرب على الإسلام والمسلمين.

وحين يبث التلفزيون المغربي خبر اعتقال شخصين وهما يقبلان بعضها بباحة مسجد حسان، ويرفق ذلك باسميهما وصورتيهما، وحين تقوم النيابة العامة بنفس البلد بمتابعة فتاتين بتهمة أن تنورتيهما فيهما إخلال بالحياء العام، فتلك دعوة لن تعدم من يعتبرها ضوء أخضرا لإحقاق الحق والانتقام للأخلاق.
وحين لا يجد بعض الساسة بالمغرب غير استدعاء محمود سيد القمني ليلقي محاضرات بالبلد، شهر رمضان، للتشكيك في ما يعتقده العامة يقينا لا يرقى الشك إليه، فذاك استفزاز لن يعدم من يعتبره إعلان حرب على الإسلام والمسلمين.

حين تصير هذه "المعارك" المختلقة، وغيرها بالدول العربية كثير،  متصدرة للأخبار يتلقفها الصحفيون والساسة والفقهاء ويتاجرون بها كل حسب هواه، فلن يجد شباب الأمة أنفسهم إلا عالقين في عجلة دوارة، كتلك التي ركبه أبطال فيلم أوقات فراغ في مشهد نهاية معبر بمدينة الملاهي، قبل أن تتوقف عن الدوران فيعلقون بين السماء والأرض وهم يصرخون: يا عم يا بتاع الساقية، يا ريس، حد يعبرنا يا جدعان... هو فيه حد سمعنا أصلا..

بلى، هناك من عرف الاستماع إلى نبضهم والنفاذ إلى دواخلهم ليقدم لهم "فرصة إثبات الوجود " يمارسونها في أوقات فراغهم بينما الأهل والمجتمع والحكومات في الوقت الضائع، كما العادة، يلعبون...
وتستمر الأغنية:

ولا حاضر

ولا ماضي 

تروس بتلف على الفاضي

ولا فينا

شباب زعلان

ولا فينا شباب راضي 

ما فيش غير إننا 

بندور

ندور

ندور

ملاحظة: المقاطع الغنائية من فيلم (أوقت فراغ) للشاعر عبد الرحمن الأبنودي.
0
التعليقات (0)

خبر عاجل