لا أشك أن هناك أطرافاً عديدة ستسعد لما حدث في باريس في الأيام الماضية، وستعتبر نفسها محظوظة بهذه الجريمة التي جاءت على هواها، التي يمكن توظيفها لدعم مشروعاتها الاستراتيجية أو مراكزها السياسية، أو ضخ دماء جديدة في حملاتها التعبوية والإعلامية.
على رأسها بالطبع تأتي الولايات المتحدة الأمريكية التي تحشد العالم كله منذ بضعة أشهر لدعمها ومساندتها في حملتها الاستعمارية الثالثة ضد العراق، التي تتذرع فيها بمكافحة داعش، بينما هدفها الفعلي هو حماية وجود وأمن وحدود الدولة الكردية الناشئة، وضمان ترسيم الحدود الجديدة في العراق وسوريا وفقاً لخرائطها هي، وليس لأي خرائط أخرى، بالإضافة بالطبع إلى مصالحها الأصلية المقدسة في النفط العراقي.
وتليها إسرائيل التي سارعت بتوظيف الحدث على عدة محاور؛ أولها الدفاع عن جرائمها ضد الفلسطينيين بذريعة أنها تحارب الإرهاب ذاته الذي ضرب فرنسا، والذي يضرب العراق وسوريا، وأن القضية ليست بين احتلال وأصحاب أرض، وإنما بين دولة ديمقراطية متحضرة وإسلام راديكالي إرهابي متطرف ومتخلف. وثانيها استجلاب أكبر عدد من يهود فرنسا وربما أوروبا إلى فلسطين. وثالثها إضعاف حملة التعاطف الأوروبي الأخيرة مع القضية الفلسطينية. ورابعها تدعيم التحالف الإسرائيلي مع عدد من الدول العربية الكبرى لمواجهة العدو المشترك المتمثل في حماس وداعش. وفقاً لما صرح به نتنياهو صراحة عدة مرات، وصدق على كلامه وزير الخارجية الأمريكية جون كيري.
وفي
مصر، جاءت حادثة شارلي لتدعم الرواية الرسمية للنظام المصري الجديد بقيادة عبد الفتاح السيسي، الذي أطاح بثورة يناير ومكتسباتها وثوارها من التيارات كافة بذريعة مكافحة الإرهاب، وأعاد إنتاج نظام مبارك بكل سياساته الخارجية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية مع تعديل طفيف في بعض الرتوش، ولتعطيه مزيداً من الرضا والاعتراف الدولي، الذي لم يتوقف منذ أن قرر أن يبحث عنه من بوابة إسرائيل.
فبذريعة مواجهة خطر التطرف الإسلامي والإخوان المسلمين وحماس والإرهاب في سيناء، قام بتعميق غير مسبوق للعلاقات مع إسرائيل، واتخذ سلسلة من الإجراءات لحماية أمنها، إجراءات سبق أن رفضها نظام مبارك نفسه؛ مثل هدم الأنفاق تحت الأرض مع إغلاق المعبر فوق الأرض، وإزالة مدينة رفح المصرية من الوجود لإنشاء المنطقة العازلة للفصل بين المصريين والفلسطينيين.
وهناك أيضاً اليمين الأوروبي العنصري المعادي للعرب والمسلمين، والمحرض على كراهيتهم والداعي إلى إغلاق أبواب الهجرة أمامهم، وهو اليمين الذي يمثله حزب الجبهة الوطنية بزعامة ماري لوبان في فرنسا، وحركة بيديجا في ألمانيا ومؤخراً في إسبانيا، وحزب بريطانيا المستقلة، وحزب الحرية في هولندا…إلخ.
ولقد سارع هذا اليمين فور وقوع الحادث وبهدف تحقيق مكاسب سياسية وحزبية على حساب خصومه السياسيين، إلى شن حملات منظمة ضد الإسلام والمسلمين، مطالباً بتطهير أوروبا منهم ومطاردتهم وتقييد حركتهم والحد من حقوقهم وحرياتهم. ووصل الأمر أن طالبت بعض الحكومات الأوروبية بالفعل بإعادة النظر في اتفاقية "شنجن" بهدف إعادة المراقبة للحدود المشتركة، ووضع القيود أمام حركة وانتقال المواطنين كأحد الإجراءات الوقائية في مواجهة الإرهابيين الأوروبيين المحتملين.
هؤلاء كلهم وغيرهم سارعوا بالفعل لتوظيف الحدث لدعم وتفعيل استراتجياتهم ومشروعاتهم، تحت ذريعة مكافحة الإرهاب والتطرف الإسلامي.
ولا شك أن توظيف الحوادث واختراع الذرائع للعدوان علينا وعلى أوطاننا وثوراتنا ومقاومتنا وحرياتنا وحقوقنا، هو فن رفيع تفوق فيه الغرب وأتباعه على امتداد قرون طويلة.
وفي كتب التاريخ المدرسية العربية، سنقرأ عشرات القصص عن الذرائع التي استخدمت لتبرير احتلال الأقطار العربية في القرن التاسع عشر، مثل مذبحة الإسكندرية الشهيرة عام 1882، أو حادثة "مروحة" داي الجزائر مع القنصل الفرنسي عام 1827، وقصص أخرى كثيرة.
أما في السنوات الأخيرة وقبل جريمة
شارلي إيبدو، فسنجد قائمة طويلة من الاعتداءات والجرائم والانتهاكات التي ارتكبت تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، مثل تثبيت انفصال كردستان عن العراق، و مثل التدخل الفرنسي في مالي، وتجميد الإعمار في غزة، وإجهاض حكومة التوافق الوطني الفلسطيني، واستباحة الطائرات دون طيار الأمريكية لسيادة وسماوات أفغانستان وباكستان واليمن، بحجة مواجهة تنظيم القاعدة الإرهابي.
ولكن أخطرها بالطبع كان الغزو الأمريكي لأفغانستان 2001 بذريعة مواجهة تنظيم القاعدة الإرهابي منفذ عمليات تفجير البرجين. أو غزوها للعراق 2003، بذريعة تدمير أسلحة الدمار الشامل التي لم يظهر لها أثر بعد الغزو. وقبلها بسنوات قليلة كان معركة تحرير الكويت 1991، هي ذريعة الأمريكان لاحتلال الخليج العربي وإنشاء عدد من القواعد العسكرية في السعودية ودول الخليج.
أما الذرائع الصهيونية لشن الحروب والاعتداءات على فلسطين والشعوب العربية منذ 1948 ، فحدث ولا حرج.
لما سبق كله، يذهب كثير من المحللين إلى أن الإرهاب وعملياته وجماعاته وتنظيماته من القاعدة إلى داعش ما هي إلا صناعة مخابراتية غربية بامتياز، من كثرة ما استخدمت كذريعة للتدخل في شؤون دول المنطقة. والشيء نقسه يقال عن علاقة إسرائيل بالجماعات الإرهابية في سيناء. وفقاً لنظرية "ابحث عن المستفيد".
بل يذهب البعض إلى أن أنظمة الحكم المستبدة تدبر بنفسها بعض العمليات الإرهابية على أراضيها، لتتخذها ذريعة لتثبيت حكمها وفرض قبضتها، والانقضاض على المعارضة ومصادرة الحريات، واتخاذ الإجراءات الاستثنائية وكسب تأييد الجماهير الخائفة.
ولكن على الرغم من كل ذلك، فإننا لم ننجح، إلا فيما ندر، في كشف العلاقة المباشرة بين جماعة أو عملية إرهابية بعينها وبين أجهزة الاستخبارات الغربية أو الإسرائيلية أو المحلية، وهو ما ينطبق في حالتنا على عملية شارلي إيبدو.
وقد يرفض الكثيرون تماماً فكرة أن الإخوة كواشي وأمثالهم في الداخل العربي أو في الخارج الغربي، هم عملاء لأجهزة مخابرات أجنبية، فالعميل من وجهة نظرهم لا يضحي بحياته.
بينما يذهب آخرون إلى أن توظيف مثل هذه التنظيمات لا يتم بالتوجيه المباشر أو باللقاء وجهاً لوجه، وإنما يتم على الأغلب من خلال اختراق مخابراتي للمستويات العليا في التنظيم أو الجماعة، أو بالاستدراج والتوريط والتوظيف في صراعات ومعارك طائفية.
على أية حال وأيا كانت الحقيقة، فإن الآثار والنتائج المباشرة لعملية شارلي وأخواتها دائماً ما تسفر عن، وتؤدي إلى، مزيد من الغزو والتدخل على المستوى الخارجي، ومزيد من القهر والاستبداد على المستوى الداخلي.