عندما
أعلن الرئيس
التونسي قيس سعيد أمام مجلس الأمن القومي عن "إجراءات" 25 تموز/ يوليو 2021 باعتبارها تفعيلا للفصل 80 من الدستور التونسي، حرص الخطاب الرسمي
وهوامشُه في الموالاة الحزبية والنقابية والمدنية على شرعنة "تصحيح
المسار"؛ باعتباره ضرورة "إنقاذية" مؤقتة هدفها "عودة السير
العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال". وبحكم التأويل "ما فوق الدستوري"
للفصل الثمانين من الدستور (حل الحكومة، تجميد عمل مجلس النواب ورفع الحصانة عن
أعضائه، الجمع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، العمل بالمراسيم دون وجود أي
سلطات رقابية على سلطة الرئيس.. الخ)، وبحكم غياب المحكمة الدستورية وكذلك بحكم قابلية
جل الأجسام الوسيطة للتدجين والاحتواء، استطاع الرئيس التونسي أن يجعل من حالة
الاستثناء مرحلة انتقاليةً بين
الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية المباشرة، كما
استطاع إعادة هندسة أغلب الحقول المجتمعية من خلال ضرب كل الأجسام الوسيطة
والسيطرة على جميع السلطات، وكذلك بحلّ أغلب الهيئات الدستورية وتحويل أهم
المنظمات والهيئات غير الدستورية إلى أجسام وظيفية في خدمة النظام.
لا
شك عندنا في أن "تصحيح المسار" لم يكن لينجح دون دعم نشط من الدولة
العميقة ومن القوى الإقليمية المشكّلة لمحور التطبيع والثورات المضادة، أي لم يكن
لينجح لولا التقاء مصالح عدة أطراف محلية وخارجية في مطلب إنهاء الربيع العربي
وإجهاض التجربة الديمقراطية الهشة. فرغم هشاشة الديمقراطية التونسية وعدم وجود أي
نية لتصدير "النموذج التونسي"، فإن الثورة التونسية قد مثلت تجربة ملهمة،
أي تجربة خطرة على اللوبي العسكري في "الجارة الكبرى"،
نجاح الرئيس -إلى حدود هذه اللحظة- في مدّ سلطة المنظومة القديمة (الشوكة) بشرعية جديدة (تصحيح المسار) لا يعكس فقط قوته الذاتية أو قوة داعميه في أجهزة الدولة الصلبة وخارجها، بقدر ما يعكس قابلية مسار الانتقال الديمقراطي برمته للانقلاب، أي قابلية مكوناته للتدجين والتوظيف
كما مثّل التصالح
بين الإسلاميين (خاصة أصحاب المرجعية الإخوانية) وبين "العلمانيين"
تهديدا وجوديا للإسلام الوهابي الرافض لأي مصالحة بين الإسلام والديمقراطية، كما
مثّل تهديدا جديا لكل أشكال الحكم "الجبري" بأشكاله؛ العسكرية والقبلية
والطائفية.
ولكننا
نؤمن أيضا بأنّ نجاح الرئيس -إلى حدود هذه اللحظة- في مدّ سلطة المنظومة القديمة
(الشوكة) بشرعية جديدة (تصحيح المسار) لا يعكس فقط قوته الذاتية أو قوة داعميه في
أجهزة الدولة الصلبة وخارجها، بقدر ما يعكس قابلية مسار الانتقال الديمقراطي برمته
للانقلاب، أي قابلية مكوناته للتدجين والتوظيف في مشاريع سياسية تحقق بالقوة
العارية ما عجزت أغلب مكونات "العائلة الديمقراطية" عن تحقيقه بالتحريض
على
الانقلاب منذ المرحلة التأسيسية.
لقد
جاء "تصحيح المسار" لينقل الصراع من دائرة الديمقراطية التمثيلية والنظام
البرلماني المعدّل إلى دائرة الديمقراطية المباشرة والنظام الرئاسوي. وقد عكس هذا
الانتقال تحوّل كل الأجسام الوسيطة -باعتبارها مركز الديمقراطية التمثيلية- إلى
موضوع للاستهداف السلطوي ولاستراتيجيات الهيمنة، واحتكار "الإرادة
الشعبية" باعتبارها إرادة واحدة لا انقسام فيها، ولا تضارب في المصالح
المادية والرمزية لمكوّناتها الطبقية والفئوية والجهوية. فالديمقراطية المباشرة
تكتسب علة وجودها من المصادرة على انتهاء زمن الأحزاب وانتفاء الحاجة إليها وإلى
غيرها من الأجسام الوسيطة، كما تكتسب الديمقراطية المباشرة/المجالسية شرعيتها من
قدرة "الزعيم-المنقذ" على الحكم دون إشراك تلك الأجسام الوسيطة،
وبالاستعاضة عنها بهياكل جديدة لا تعكس اللامركزية وتعدد السلطات (كما هو الشأن في
النظام البرلماني المعدّل)؛ بقدر ما تعكس تبعية أصلية لمركز القرار الأوحد في قصر
قرطاج وفي النظام الرئاسوي (الوظيفة التنفيذية) بعد أن تمت دستَرة صلاحياته
وتحصينها بصورة تجعل من الرئاسة مؤسسةً فوق الرقابة والمساءلة برلمانيا وقضائيا،
بل حتى إعلاميا.
إذا
كان هناك نجاح لا يمكن التشكيك فيه لتصحيح المسار فإنه نجاح النظام في الاستفادة
من المخيال السياسي الجمعي المرتبط بشخصنة السلطة والتوجس من لامركزية القرار.
فالسلطة في تونس كانت دائما مشخصنة سواء بعد الاستقلال الصوري عن فرنسا أو في
مرحلة الاستعمار المباشر، والمؤسسات والأجسام الوسيطة لم تكن خلال اللحظتين
الدستورية والتجمعية من تاريخ تونس إلا ديكورا "ديمقراطيا" في خدمة
الزعيم وعائلته وحزبه وجهته، وهو ما جعل المواطنين لا يثقون كثيرا في المؤسسات
ويستعيضون عنها بالشبكات الزبونية والعلاقات الشخصية.
زيّن الوعي المؤدلج لأغلب "القوى الديمقراطية" أن ترى في الرئيس -غير المسنود بحزب ولا بتاريخ نضالي ولا بلوبي جهوي صلب- مجرد مشروع انقلابي مؤقت سيحتاج إليها بالضرورة للتخلص من الخطر المشترك عليهم جميعا: الإسلام السياسي أو الديمقراطية التمثيلية التي تجعل من ذلك الإسلام السياسي مركز السلطة. ولم يكن الرئيس يحتاج إلى أكثر من تغذية هذا الوهم ليحافظ على دعم نشط من تلك القوى
وبحكم
هيمنة النظام البرلماني المعدل على مرحلة الانتقال الديمقراطي، فإن فتنة
"المنقذ" أو العودة إلى السلطة المشخصنة قد وجدت بعض مبرراتها في فشل الأحزاب
وباقي الأجسام الوسيطة من جهة الأداء، أي من جهة تحقيق مكاسب تجعل عموم المواطنين
يماهون بين الديمقراطية التمثيلية وبين مصالحهم فيتحركون عند الضرورة للدفاع عنها.
لقد
نجح "تصحيح المسار" في استثمار المخيال السياسي الشعبي ونجح في توظيف المخيال
السياسي لأصحاب السرديات السياسية الكبرى المعادية للإسلام السياسي (خاصة اليسار
الوظيفي وورثة التجمع المنحل)، وهو ما جعل الرئيس لا يواجه مقاومة كبيرة من
"القوى الديمقراطية" التي ظنت أن الرئيس يشتغل لحسابها، أو على الأقل لن
يتحرك ضدها بل ضد النهضة وحلفائها فقط.
باستثمار
الصراعات البينية التي عصفت بمكونات الديمقراطية التمثيلية، وبتوظيف الانتظارات
الانتهازية لأغلب مكونات العائلة الديمقراطية، نجح تصحيح المسار في الانقلاب على
الانتقال الديمقراطي، ولم يجد صعوبة تذكر في وسم عشرية الديمقراطية بـ"العشرية
السوداء". وقد ظنّ الكثير من "الديمقراطيين" أن الربط بين
"العشرية السوداء" وبين حركة النهضة سيجعلهم شركاء في "تصحيح
المسار" أو على الأقل غير مستهدفين من طرفه، وهو ظنّ أثبتت الأحداث أنه من
أحاديث النفس وما تهوى.
وبمعنى
ما، يمكننا القول إن النجاح الأهم للرئيس -ومن ورائه النواة الصلبة لمنظومة الحكم-
كان في القدرة على توظيف الصراعات الهوياتية بين حركة النهضة وأغلب مكوّنات ما يُسمّى
بـ"العائلة الديمقراطية"، لجعل الديمقراطيين يرون في "تصحيح
المسار" إنقاذا للديمقراطية من مشروع "أخونة الدولة"، لا انقلابا
على الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة كلها. ورغم أننا لا نستبعد أن يكون
"الديمقراطيون" على وعي بما يهددهم من مخاطر محتملة في "تصحيح
المسار"، فإننا نستبعد أن يكونوا قد توقعوا حجم خسائرهم بعد ضرب حركة النهضة
باعتبارها مركز الديمقراطية التمثيلية والنظام البرلماني المعدل.
لقد
زيّن الوعي المؤدلج لأغلب "القوى الديمقراطية" أن ترى في الرئيس -غير
المسنود بحزب ولا بتاريخ نضالي ولا بلوبي جهوي صلب- مجرد مشروع انقلابي مؤقت
سيحتاج إليها بالضرورة للتخلص من الخطر المشترك عليهم جميعا: الإسلام السياسي أو
الديمقراطية التمثيلية التي تجعل من ذلك الإسلام السياسي مركز السلطة. ولم يكن
الرئيس يحتاج إلى أكثر من تغذية هذا الوهم ليحافظ على دعم نشط من تلك القوى، ولكن
الأزمة تبدأ عندما تنتبه تلك القوى "الديمقراطية" إلى أن الرئيس قد
اختار -أو فُرض عليه- أن يُشرعن سلطته بعيدا عن أي جسم وسيط وخارج منطق الشراكة مع
أي طرف سياسي أو نقابي أو مدني.
"تصحيح المسار" قد نجح إلى هذه اللحظة في الدفع بتناقضات الديمقراطية التمثيلية والنظام البرلماني المعدّل إلى نهاياتها المنطقية، كما أن "التصحيح" قد نجح في إظهار هشاشة الانتقال الديمقراطي ومكوناته الأساسية. وبالإضافة إلى ذلك، أظهر "تصحيح المسار" أن الديمقراطية لم تكن يوما مطلبا شعبيا، ولا حتى مطلبا حقيقيا للكثير من أدعيائها ودعاتها
فالرئيس قد اختار أن يكون الجسم الوسيط الأوحد
بينه وبين الشعب هو منظومة الاستعمار الداخلي وأذرعها في أجهزة الدولة وخارجها،
كما أن منظومة الاستعمار الداخلي قد اختارت أن تختزل واجهاتها السياسية في واجهة
واحدة هي تصحيح المسار، وهو ما أوجد علاقة "تكافلية" أو علاقة تعامد
وظيفي بين الرئيس والدولة العميقة بصورة طاردة لكل شريك أو نظير، وجاذبة لكل
الأجسام/الشخصيات القابلة للتدجين والتوظيف.
إن
الحديث عن نجاح تصحيح المسار أو عن فشله سيكون حديثا مرسلا ما لم يكن مرتبطا
بسياقات أو برهانات معينة سواء في استراتيجيات السلطة أو في استراتيجيات خصومها. فـ"تصحيح
المسار" قد نجح إلى هذه اللحظة في الدفع بتناقضات الديمقراطية التمثيلية
والنظام البرلماني المعدّل إلى نهاياتها المنطقية، كما أن "التصحيح" قد
نجح في إظهار هشاشة الانتقال الديمقراطي ومكوناته الأساسية. وبالإضافة إلى ذلك،
أظهر "تصحيح المسار" أن الديمقراطية لم تكن يوما مطلبا شعبيا، ولا حتى
مطلبا حقيقيا للكثير من أدعيائها ودعاتها.
ونحن
نعتبر أن النجاح الأبرز لتصحيح المسار يتمثل في إظهار فشل الانتقال الديمقراطي في
إصلاح كل القطاعات وتحصينها ضد نوازع الفساد والاستبداد. أما فشل تصحيح المسار
فيتمثل أساسا في عجزه عن تحويل "الشرعية" إلى "مشروعية" بعيدا
عن منطق التملص من المسؤولية ورمي الفشل على "الفاسدين"
و"الخونة" و"المتآمرين"، سواء في منظومات الحكم السابقة أو في
منظومة الحكم الحالية. كما فشل تصحيح المسار في تصعيد نخبه البديلة إلى مركز
القرار وظل رهين نخب الدولة العميقة، وفشل "التصحيح" أيضا في تحقيق
منجزات توسع في دائرة مناصريه والمستفيدين من بقائه. وبحكم غياب مقومات السيادة
وهيمنة القوى الخارجية على مراكز القرار، فإننا نعتبر أن بقاء "تصحيح
المسار" أو انتهاء الحاجة إليه هما فرضيتان لا ترتبطان بعوامل داخلية (الدعم
الشعبي، الإنجاز الاقتصادي، وضع المعارضة.. الخ)؛ بقدر ما ترتبطان بعوامل إقليمية
ودولية ستكون هي المحدد الأساسي لإبقاء تونس في "حالة الموت السريري"،
أو نقلها إلى حالة أخرى لا يمكن التكهن بطبيعتها على وجه اليقين.
x.com/adel_arabi21