قضايا وآراء

سيناريوهات الانتخابات الرئاسية في تونس

عادل بن عبد الله
"الحديث عن سيناريوهات (بصيغة الجمع) للانتخابات الرئاسية هو أمر أقرب إلى منطق الرغبة منه إلى منطق الواقع"- الأناضول
"الحديث عن سيناريوهات (بصيغة الجمع) للانتخابات الرئاسية هو أمر أقرب إلى منطق الرغبة منه إلى منطق الواقع"- الأناضول
تصدير: "الرأي الخاطئ لا يأتي من الأحاسيس التي يُنسب بعضها إلى بعض، ولا من الأفكار، ولكن من ربط إحساس بفكرة" (أفلاطون)

بعد فشل عشرية الانتقال الديمقراطي في تكريس النظام البرلماني المعدل وفي تفكيك منظومة الفساد والاستبداد وتحصين الديمقراطية ضد "قابلية الانقلاب"، وبعد نجاح النواة الصلبة للمنظومة القديمة في الهيمنة على الشأن العام عبر واجهة "تصحيح المسار" منذ 25 تموز/ يوليو 2021 (في إطار علاقة التعامد الوظيفي بين "الشرعية" و"الشوكة")، يبدو أن الحديث عن سيناريوهات (بصيغة الجمع) للانتخابات الرئاسية هو أمر أقرب إلى منطق الرغبة منه إلى منطق الواقع. فالنظام الذي هندس المشهد السياسي باعتبار "الجمهورية الجديدة" مسارا كاملا لا يقبل الشراكة (حتى مع الموالاة النقدية)، لا يمكن أن نتوقع منه القبول بالمعارضة الجذرية التي تداعت للانتخابات الرئاسية بعد أن أعرضت عمّا سبقها، كالاستفتاء على الدستور وانتخابات غرفتي البرلمان.

لكنّ هيمنة النظام على مجمل العملية الانتخابية لم تمنع العديد من الشخصيات الحزبية والمستقلة من الترشح للانتخابات الرئاسية، طلبا لإنهاء "تصحيح المسار" (أو ما يسمونه بـ"الانقلاب") عبر صناديق الاقتراع. وهو خيار أوجد نوعا من الحراك السياسي والقضائي والمدني الذي يجعل من الحديث عن "سيناريوهات" (سواء في المسار الانتخابي أو بعده) أمرا مشروعا، بصرف النظر عن المسار الوضع الحالي، هذا المسار الذي يتجه إلى إعادة إنتاج المنظومة الحالية لنفسها بمنطق الغلبة وفرض الأمر الواقع.

يمكننا أن نعتبر أن نجاح تصحيح المسار في البقاء إلى لحظتنا هذه هو نتيجة حتمية لتناقضات الديمقراطية التمثيلية وأزماتها الدورية منذ المرحلة التأسيسية، بل نحن نستطيع اعتبار تصحيح المسار مجرد تعميم لمنطق "العائلة الديمقراطية" ودفعا به إلى الأقصى

ولن يكون هذا المقال استشرافا تفصيليا لمستقبل المشهد السياسي خلال المسار الانتخابي وبعده، بقدر ما سيكون محاولة لفهم ما يؤسس العقل السياسي التونسي -في السلطة والمعارضة- ويحدد سقفه واقعيا بصرف النظر عن الادعاءات الذاتية لمختلف الفاعلين الجماعيين.

لو أردنا رد الصراع السياسي في تونس إلى جذوره الأيديولوجية العميقة لقلنا إنه يتم بين سرديتين سياسيتين متنابذتين أو متناقضتين تربط بينهما علاقة لا متكافئة: سردية الديمقراطية التمثيلية القائمة على وساطة الأحزاب وتقاسم السلطة وتعددية التمثيل الشعبي (الاعتراف بالانقسام الاجتماعي)، وسردية الديمقراطية المباشرة أو المجالسية القائمة على القول بانتهاء زمن الأحزاب وعلى مركزة السلطة ورفض منطق الشراكة واقتسام السلطة (احتكار التمثيل الشعبي وعدم الاعتراف بالانقسام الاجتماعي وبشرعية الأجسام الوسيطة التقليدية).

وبمعنى ما، يمكننا أن نعتبر أن نجاح تصحيح المسار في البقاء إلى لحظتنا هذه هو نتيجة حتمية لتناقضات الديمقراطية التمثيلية وأزماتها الدورية منذ المرحلة التأسيسية، بل نحن نستطيع اعتبار تصحيح المسار مجرد تعميم لمنطق "العائلة الديمقراطية" ودفعا به إلى الأقصى.

إذا كانت "الأحزاب الديمقراطية" قد حددت هويتها السياسية بالتقابل مع "الإسلام السياسي" (خاصة حركة النهضة)، وليس بالتقابل مع منظومة الاستبداد والفساد (بحكم قيام تلك الأحزاب برسكلة ورثة المنظومة القديمة واعتبرتهم جزءا من "القوى الديمقراطية")، فإن تصحيح المسار قد اعتبر الديمقراطية التمثيلية كلها -بما في ذلك الأجسام الوسيطة "الحداثية"- المقابل الموضوعي والفكري للديمقراطية المباشرة.

ولا يبدو أن هذا الواقع الجديد قد عدّل في منطق أغلب مكونات "العائلة الديمقراطية" التي ما زالت تتحرك "نضاليا" بإقصاء النهضة وحلفائها. وآية ذلك تأسيس "الشبكة التونسية للحقوق والحريات" بما هي تجمع خالص للجمعيات النسوية والحقوقية والأحزاب الديمقراطية والتقدمية، دون أي انفتاح على باقي مكونات المشهد المعارض لتصحيح المسار. ومهما كانت أهداف هذه الشبكة وغيرها من التكتلات "الديمقراطية"، فإنها باستصحاب منطق الانقسام الأيديولوجي تحول دون بناء أي تكتل فعّال للمعارضة، وتمد بالتالي في أنفاس النظام وتخفف من أزمته في
لا يبدو أن هذا الواقع الجديد قد عدّل في منطق أغلب مكونات "العائلة الديمقراطية" التي ما زالت تتحرك "نضاليا" بإقصاء النهضة وحلفائها
مستوى الشرعية والمشروعية. فالقاعدة السياسية تقول إن البقاء في الحكم لا يستوجب أن يكون النظام قويا بقدر ما يستدعي معارضة ضعيفة ومشتتة.

إذا ما عدنا إلى قولة أفلاطون التي صدّرنا بها المقال، فإننا نقف على جذر الأزمة في الحقل السياسي التونسي سواء من جهة السلطة أو من جهة المعارضة. فالصراع لا يدور بين "أفكار" بل بين أطروحات يغلب عليها الربط الاعتباطي بين الأحاسيس(المشاعر) والأفكار. فـ"تصحيح المسار" هو فلسفة سياسية "هجينة" يصعب علينا أن نفصل فيها بين الديني والسياسي، وبين الشخصي والمؤسساتي، بل يصعب الفصل فيها بين المشاعر (مشاعر الحقد الطبقي أو الأيديولوجي أو مشاعر الاستعلاء الفكري والخُلقي) وبين أفكار الإصلاح و"التأسيس الثوري الجديد".

أما المعارضة، فإننا لا نستطيع أن نفصل في خطابها -خاصة فيما يتعلق بالنهضة- بين مشاعر "الابتلاء" و"الغربة" و"الاستعلاء الإيماني" وبين أفكار الإصلاح والتوافق والتمثيل الشعبي. وكذلك الشأن فيما يخص المعارضة "الحداثية" التي لا يمكن الفصل في خطابها السياسي بين مشاعر الخوف والريبة والاستعلاء المعرفي واحتقار "العوام" وتسفيه خياراتهم الانتخابية، وبين أفكار التنوير والتحديث واحترام الإرادة الشعبية وبناء المشترك الوطني بعيدا عن منطق الوصاية والاستقواء بأجهزة الدولة الأيديولوجية والقمعية.

قد لا نجانب الصواب إذا ما قلنا إن غلبة "المشاعر" على العقل السياسي التونسي بمختلف تشكيلاته هو أمر يجعل أي محاولة لفهم المشهد السياسي بمنطق عقلاني مجرد أمر منذور للفشل، فافتراض "عقلانية الفاعلين الجماعيين" أو عقلانية استراتيجياتهم داخل السلطة وخارجها هو افتراض لا شواهد له في الخيارات الكبرى لمختلف مكونات المشهد التونسي. فأي عقلانية هي تلك التي دفعت النهضة إلى دخول التوافق بشروط المنظومة القديمة وتهرئة "مظلوميتها" وخسارة جزء كبير من قاعدتها الشعبية؟ وأي عقلانية تدفع بالقوى "الديمقراطية" إلى الانقلاب على الانتقال الديمقراطي رغم هيمنتها عليه وتحويل النهضة إلى مجرد "شاهد زور"؟ وأي عقلانية تمنع الرئيس الحالي من توظيف حزامه الحزبي والنقابي والمدني لتقوية سلطته، والدخول بدلا من ذلك في صراع مفتوح حتى ضد مكوّنات "الموالاة النقدية"؟

إننا أمام خيارات لا يمكن تفسيرها بالأفكار ولا بالمصلحة، بل هي من باب ربط المشاعر بالأفكار مع هيمنة الأولى وجعل الثانية مجرد حارس أو خادم لها (غطاء أيديولوجي). وهو ما يجعلنا نذهب إلى أن فهم المشهد التونسي لا يمكن أن يحصل دون التسليم -انطلاقا من استقراء التاريخ والواقع- بهيمنة المشاعر على الأفكار والمصالح، كما نذهب إلى أن الخروج من الأزمات الدورية للدولة-الأمة لن يتم دون قلب العلاقة بين تلك "الثلاثية"، بحيث تكون الأفكار هي المحدد للصراع السياسي (ومن بعدها المصالح المادية والرمزية) وليس المشاعر.

لا يبدو أن سردية المعارضة تمتلك من ورقات الضغط ما يسمح لها بأن تفرض على المنظومة مراجعة علاقتها بالرئيس أو بالأطراف الداعمة له إقليميا ودوليا. وهو ما يرجح بقاء "تصحيح المسار" واجهة سياسية للمنظومة إلى حين توفّر الشروط الفكرية والموضوعية لتغييره من داخل منظومة الاستعمار الداخلي أو حتى ضد إرادتها

انطلاقا مما تقدم، فإننا نعتبر كل السيناريوهات الممكنة (سيناريو فوز الرئيس وبقائه بمنطق الغلبة، سيناريو فوز أحد منافسيه بمنطق "التصويت العقابي" ضد الرئيس، سيناريو إسقاط الجلسة العامة لنتائج الانتخابات، سيناريو رفض الرئيس للفرضية السابقة، سيناريو اضطرار الرئيس إلى قبول إعادة الانتخابات بهيئة مختلفة وبمناخ انتخابي حر وشفاف.. الخ) مجرد سيناريوهات لا سقف لها إلا تغيير واجهة السلطة دون أي تغيير جذري في "جوهرها" المرتبط بنيويا بمنظومة الاستعمار الداخلي.

ونحن نعتبر أن هذه المنظومة هي العقل الأوحد في هذه البلاد، أو العقلانية التي لم تخضع "للمشاعر" لتحقيق ما يطابق مصلحتها. فقد ساعدت هذه المنظومة في التخلص من رمزها وعائلته يوم 14 كانون الثاني/ يناير 2011، ثم قبلت بالنهضة شريكا مؤقتا في الحكم في المرحلة التأسيسية وخلال مرحلة التوافق، وانقلبت بعد ذلك على الانتقال الديمقراطي والديمقراطية التمثيلية حين وجدت في "تصحيح المسار" مصدرا جديدا للشرعية.

ختاما، لا شك عندنا في أن "المنظومة" تدير علاقة التعامد الوظيفي بينها وبين الرئيس بمنطق عقلاني صرف (مع فهم العقلانية باعتبارها خيارا يضمن مصالحها المادية والرمزية وليس بالضرورة مصلحة عموم الشعب). وهو ما يعني أن الدولة العميقة (أي منظومة الاستعمار الداخلي) ستدعم الرئيس ومشروعه ما دام في دعمه مصلحة لها، ولكنها ستعيد هندسة المشهد السياسي بصورة مختلفة إذا اقتضت مصلحتها ذلك.

ولا يبدو أن سردية المعارضة تمتلك من ورقات الضغط ما يسمح لها بأن تفرض على المنظومة مراجعة علاقتها بالرئيس أو بالأطراف الداعمة له إقليميا ودوليا. وهو ما يرجح بقاء "تصحيح المسار" واجهة سياسية للمنظومة إلى حين توفّر الشروط الفكرية والموضوعية لتغييره من داخل منظومة الاستعمار الداخلي أو حتى ضد إرادتها.

x.com/adel_arabi21
التعليقات (0)