أصدرت المحكمة الابتدائية بمدينة الزاوية، 40 كم
غرب العاصمة الليبية، حكما بإجراء الاستفتاء على مشروع
الدستور المقر من قبل هيئة
وضع الدستور العام 2017م. وأعاد هذا الحكم الجدل حول الدستور والمسودة المعتمدة من
قبل الهيئة المنتخبة، فالمسودة أُقرت بعدد 43 عضوا من أصل 44 حضروا جلسة التصويت،
وتمت إحالتها لمجلس النواب بكتاب رسمي من قبل الهيئة، وكان من المفترض أن
يصدر قانونا للاستفتاء على المسودة بالشراكة مع المجلس الأعلى للدولة، إلا إنه لم
يفعل، فتاهت المسودة في دهاليز الخلاف بين الجسمين.
وتثير
هذه القضية مسألتين جوهريتين تتعلقان باستحقاقات الانتقال أو التحول الديمقراطي في
ليبيا واشتراطاته، الأولى هي التعطيل المتعمد والتعسفي للمسار الديمقراطي الذي رسم
ملامحه الإعلان الدستوري الصادر في آب/ أغسطس 2011م، والتعديلات عليه، والتجاهل
المقصود لإرادة الشعب الذي انتخب هيئة لوضع الدستور فتم منع الاستفتاء عليه، وقاد
المسار السياسي المتحكم فيه من قبل قلة قليلة إلى الانحراف كليا عن التحول
الديمقراطي من خلال رهن إرادة الشعب لخيارات ومصالح الطبقة السياسية المستبدة.
التعطيل المتعمد والتعسفي للمسار الديمقراطي الذي رسم ملامحه الإعلان الدستوري الصادر في آب/ أغسطس 2011م، والتعديلات عليه، والتجاهل المقصود لإرادة الشعب الذي انتخب هيئة لوضع الدستور فتم منع الاستفتاء عليه، وقاد المسار السياسي المتحكم فيه من قبل قلة قليلة إلى الانحراف كليا عن التحول الديمقراطي
الثانية
هي ضرب عرض الحائط بأحكام القضاء، فحكم محكمة الزاوية الابتدائية لم يكن الأول بهذا
الخصوص، وصدرت أحكام عديدة عن مستويات مختلفة من السلم القضائي (محاكم ابتدائية،
واستئناف، والمحكمة العليا)، فكان خيار الطبقة السياسية المتنفذة في المجلس
التشريعي والسلطة التنفيذية وغيرهما من المؤسسات السيادية إدارة الظهر للقضاء
وأحكامه.
وللتمثيل
فقط، فإن ما يزيد عن عشر دوائر قضائية عاينت قرار مجلس النواب بخصوص فرض ضريبة على
بيع العملات الأجنبية بنسبة 27 في المائة، بعضها صدرت أحكامها ببطلان قرار مجلس
النواب، والأخرى تسير في نفس الاتجاه، فلا مجلس النواب ألقى بالا لها، ولا المصرف
المركزي راجع نفسه بالخصوص، وما اطلعت عليه بعض المصادر أن المركزي ماض في تنفيذ
قرار مجلس النواب إلى أجله المقرر وهو مطلع العام 2025م.
وإذا
نظرت إلى معوقات التحول الديمقراطي الذي رغب قطاع واسع من الليبيين الدخول فيه
العام 2011م، ستجد أن في مقدمة هذه المعوقات النخبة، وأكررها للمرة المائة: ارجعوا
إلى الأزمات التي واجهت المسار الانتقالي منذ إطلاقه العام 2011م، ستجدون أنها
أزمات مفتعلة؛ قادها مبرزون على مستويات عدة، أكاديميون وتكنوقراط وأعيان.. الخ.
تصحيح المسار يحتاج إلى هزة وإلى ضغوط مرجعها وعي لدى مكونات فاعلة ونشطة في المجتمع، فقد ثبت أن الطبقة السياسية تتراجع أمام الصوت المرتفع والحراك الواسع، وهذا يستلزم إعادة تنظيم مكونات المجتمع
قد يكون
تعثر المسار السياسي لبرهة مقبولا ويمكن تفهَّمه إذا وقع بين من يشهد لهم الجميع بالصدق
والإخلاص والحكمة والنزاهة، فقد وقع الخلاف بين أصحاب رسول الله صلى الله عليهم
وسلم، وقد شهد لهم الوحي ورضي عنه الخالق عز وجل، غير أن نزاع "خاصتنا"
نادر الصدق والإخلاص، ومن الصعب أن تجد النزاهة له طريقا، وإذا توفر قدر منها فإن
غياب الحكمة كفيل بتضييع ثمرة العمل الوطني الخالص.
تقييم
من تناوبوا على إدارة الوساطة بين الفرقاء الليبيين انتهى إلى أن معضلة ليبيا تكمن
في الطبقة السياسية المتنفذة التي تغلِّب مصلحتها على مصلحة الوطن، لهذا فإن بداية
تصحيح المسار الانتقالي والعودة إلى جادة التحول الديمقراطي تكون من خلال تصدر من
يغلبون مصلحة ليبيا على مصالحهم، ويقودهم الوعي باشتراطات الانتقال الصحيح،
وينزلون عند استحقاقاته ولو كانت على حسابهم الشخصي أو حساب الفئة التي ينتسبون
لها.
تصحيح
المسار يحتاج إلى هزة وإلى ضغوط مرجعها وعي لدى مكونات فاعلة ونشطة في المجتمع، فقد ثبت أن الطبقة السياسية تتراجع أمام الصوت المرتفع
والحراك الواسع، وهذا يستلزم إعادة تنظيم مكونات المجتمع، ليس بالضروري تنظيما
مستقرا، فالحاجة اليوم ملحة إلى واجهات ومظلات مؤقتة للتعبئة يكون هدفها تحريك
المسار الراكد واستكمال الضروري من اشتراطات التحول الديمقراطي، وفي المقدمة منها
الدستور.