قبل سنوات كنت
أقوم بفريضة الحج وكانت إقامتي في مكة بفندق فيه فوج كبير لحجاج وزارة الداخلية
المصرية، وبالتالي يقوم بالإشراف على النزلاء ضباط من الداخلية المصرية، ومن الطبيعي
أن تكون مشاكل في أماكن سكن الحجاج الذين كانوا ينقلون شكواهم للضباط المشرفين على
المبنى، لكن نبرة صوت الشاكين أحيانا ما تكون عالية، وهنا وجد الضباط المشرفون
أنفسهم في موقف لم يألفوه من قبل، حيث اعتادوا على التعامل مع الجمهور بتعال وغلظة،
وبحيث لا يجرؤ أحد من الجمهور أن ينتقد عملهم أو يرفع صوته بحضرتهم، بينما هم
يسمعون من الحجاج انتقادات وهم مكتوفو الأيدي، تمنعهم أجواء الحج من أن يقمعوا
الشاكين كما اعتادوا خلال عملهم الشُرطي. وظللت كلما مررت بجوار حجرة المشرفين أن
أتلكأ لأشاهد كيف يجاهد الضباط أنفسهم ويكظمون غيظهم، والحجاج يعاملونهم كمشرفين
للمبنى وليس كضباط أنصاف آلهة في أماكنهم الشرطية كما اعتادوا.
تذكرت تلك القصة
مع قرار أمير
الكويت الجديد بحل
البرلمان مرتين خلال أقل من خمسة أشهر من توليه
السلطة، فالرجل الذي تخرج بكلية الشرطة عام 1960 ووصل لدرجة عقيد عام 1967، قضى
سنوات طويلة بمنصبه كرئيس للمباحث العامة من عام 1967 وحتى 1980، وهي المباحث التي
تحولت بعهده إلى جهاز أمن الدولة وما زال يحمل نفس الاسم حتى الآن، وهو الجهاز
المعروف بدوره القمعي مع المعارضين في أنحاء العالم العربي. وأصبح الرجل في عام
2004 نائبا لرئيس الحرس الوطنى بدرجة وزير، حتى شغل منصب ولي العهد عام 2020. وبعدما
توفي الأمير نواف الأحمد بكانون الأول/ ديسمبر الماضي صعد لمنصب الأمير، في سن
الثالثة والثمانين وبعد طول انتظار للمنصب الذي شغله ثلاثة إخوة له من أبيهم الشيخ
أحمد الجابر الصباح الذي تولى المنصب من عام 1921 وحتى 1950.
إمارة وراثية
لذرية مبارك الصباح
كما ورث الأمير
الجديد المنصب من أسرته حسب المادة 4 من
الدستور التي جعلت الكويت إمارة وراثية في
ذرية مبارك الصباح، وورث كذلك سلطات واسعة كفلها له ولكل أمير دستور البلاد الصادر
عام 1962، والذي تنص المادة 54 منه على أن الأمير رئيس الدولة وذاته مصونة لا تُمس.
كما منحه الدستور
سلطات واسعة تتصل بالسلطات الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية، فالمادة 51
تشير الى أن السلطة التشريعية يتولاها الأمير ومجلس الأمة، والمادة 52 تذكر أن
السلطة التنفيذية يتولاها الأمير ومجلس الوزراء، والمادة 53 تذكر أن السلطة
القضائية تتولاها المحاكم باسم الأمير، وهي أمور جعلت أحد الإعلاميين الكويتيين
يقول إن الأمير هو أبو السلطات.
وأعطت مواد أخرى
من الدستور صلاحيات أخرى للأمير، فهو حسب المادة 67 القائد الأعلى للقوات المسلحة
والذي يتولى تعيين الضباط ويعزلهم، وبالمادة 72 هو الذي يضع اللوائح اللازمة
لتنفيذ القوانين، وبالمادة 74 هو الذي يعين الموظفين المدنيين والعسكريين والممثلين
السياسيين لدى الدول الأجنبية ويعزلهم، ويقبل ممثلي الدول الأجنبية لديه.
وهكذا أعطى
الدستور له من السلطات الكفيلة بجعله الآمر الناهي في البلاد دون أية رقابة أو
مساءلة من أية جهة، خاصة أنه يتم اختياره من قبل الأسرة الحاكمة وليس من قبل الشعب
الكويتي.
هنا يجد الأمير
مشعل كل تلك السلطات بيديه مع خلفيته
الأمنية الطويلة ذات التعامل الفوقي مع
الآخرين، ثم يسمع أن نائبا في مجلس الأمة وقف في البرلمان ينتقد حديثه بخطاب تولي
المنصب أمام البرلمان مهاجما كلا من الحكومة والبرلمان، قائلا إن تلك الانتقادات
تتعلق باختصاصات السلطة التنفيذية وليس السلطة التشريعية، فيما رفض رئيس مجلس
الأمة المخضرم أحمد السعدون كلام النائب عبد الكريم الكندرى بل وحذف كلمته من محضر
الجلسة وحجبها عن العرض التلفزيوني للجلسة.
حل البرلمان رغم
تمسك الشعب به
وبعد ذلك بأيام
قليلة اعترض النائب الكندري على شطب كلمته من قبل رئيس البرلمان، وقال لقد اعتقد
الناس أنني أسأت إلى القيادة السياسية ولذلك قمتَ بشطب كلمتي، مؤكدا "إنني لا
يمكن أن أسيء الى والدي". وهنا صوت 44 نائبا من مجموع 50 عضوا في المجلس على
رفض شطب كلمة كلام الكندرى وتم إلغاء قرار رئيس المجلس وتعديل محضر الجلسة، وكان
ذلك في الثالث عشر من شباط/ فبراير الماضي.
وفي اليوم التالي
أبلغ رئيس الوزراء رئيس البرلمان أنه لن يحضر جلسة البرلمان، والذي تم تفسيره بأنه
اعتراض منه على حديث الكندري، وقام مجلس الوزراء بإعداد مرسوم بحل البرلمان رفعه للأمير
الذي أصدر قرار حل المجلس في اليوم التالي الموافق 15 شباط/ فبراير، ونسي الجميع
المادة 110 من الدستور التي تنص على أن عضو مجلس الأمة حر فيما يبديه من الآراء والأفكار
في المجلس ولجانه، ولا تجوز مؤاخذته عن ذلك بأي حال من الأحوال، وكذلك نص المادة
91 التي تجعل قسم النواب يتضمن أن يكون مخلصا للوطن وللأمير.
وجرت انتخابات
برلمانية جديدة لكنها جاءت بغالبية أعضاء البرلمان الذي حله الأمير، في رسالة ذات
دلالة تشير لتمسك الشعب الكويتي بهؤلاء النواب وعدم قناعته بأسباب حل المجلس، لكن
الأمير القادم من خلفية أمنية والمحصن حاليا بمواد دستورية، قام بتأجيل عقد جلسات
البرلمان الجديد، وقبل الموعد المؤجل بقليل قام بإصدار قرار بحل المجلس الجديد،
ولم يكتف بذلك بل وعطل العمل لبعض مواد الدستور لمدة لا تزيد عن أربع سنوات.
وربما يرى البعض
أننا نبالغ فيما نسميه دور الخلفية الأمنية بقرارات الأمير، وهنا سنشير لفقرات من
خطاب الأمير لحل البرلمان الجديد، بقوله إن "الأمن مسألة في غاية الأهمية
وسوف نولي جل اهتمامنا لتحقيق هذه الغاية فنعيد النظر في قوانين الأمن الاجتماعي
أولا"، وقوله: "الدولة تقوم على دعامتين الأمن والقضاء"، وقوله:
"تحية لرجال الأمن الذين يسهرون على حماية مصالح الشعب ويحملون على أكتافهم
صون الأمن في بلادنا"، وقوله: "إن احترام رجال الأمن هو من احترام نظام
الحكم ولن اسمح على الإطلاق بالمساس بهيبتهم واحترامهم أثناء أداءهم لواجباتهم
الرسمية".
صمت محلي وعربي
رغم مخالفة الدستور
أما عن تضخم
الإحساس بالذات الأميرية فتوضحه فقرات أخرى بنفس الخطاب حين انتقد عدم قبول بعض
النواب ترشحهم بالوزارة الجديدة، واعترضوا على ترشح بعض الوزراء متناسين أن اختيار
رئيس الحكومة وأعضائها حق دستوري خالص لرئيس الدولة، ولا يجوز لأحد اقتحام أسواره أو
الاقتراب من حدوده أو التدخل في ثناياه.
وكرر نفس الأمر
مع اختيار ولي العهد، وانتقاده ما يدور في قاعة البرلمان بقوله إنها تحولت إلى
مسرح لكل ما هو غير مقبول من الألفاظ والعبارات، وانتقاد الإفراط في حق استخدام الاستجوابات،
رغم أنه يتحدث عن نواب يمارسون دورهم الرقابي الذي كفله لهم الدستور، كما أن
الدستور اشترط وجود نائب واحد على الأقل في الحكومة، فهل عجز الأمير بسلطاته على
إيجاد نائب واحد يشارك بالوزارة؟
ورغم أن أي قارئ مبتدئ
للدستور الكويتي سيدرك أن قرار الأمير غير دستوري من عدة نواح، منها نص المادة
107 الذي يشير لضرورة استناد قرار حل المجلس على أسباب الحل، بينما ذكر الأمير في
خطاب الحل أسبابا شديدة العمومية دون ذكر وقائع محددة، الأمر الثاني أن نفس المادة
ذكرت أنه لا يجوز حل مجلس النواب لذات الأسباب مرة أخرى وهو ما فعله الأمير.
لا يملك المواطن الكويتي الذي أهدرت إرادته السياسية مرتين في خمسة أشهر سوى الصمت أو التأييد لقرارات الأمير، بعدما تعرض له من انتقدوا القرار على مواقع التواصل الاجتماعي من ضبط وإحضار واحتجاز، لتخلوا الساحة من أي انتقاد للقرار فيما عدا بعض الكويتيين المقيمين خارج البلاد، وحتى كثير من هؤلاء اكتفوا بالتساؤلات
مأزق دستوري آخر
تشير إليه المادة 174 منه حين اشترطت عند قيام الأمير باقتراح تعديل الدستور
موافقة ثلث أعضاء مجلس الأمة على ذلك، كما اشترطت لإقرار التنقيح في الدستور
موافقة ثلثي أعضاء مجلس الأمة، كذلك ورد في المادة 181 من الدستور أنه لا يجوز
تعطيل أي حكم من أحكام الدستور إلا أثناء قيام الأحكام العرفية!
ورغم كل الوضوح
للعوار الدستوري لقرار حل البرلمان وتعطيل العمل بعدد من مواد الدستور، فلم نجد
برلمانا عربيا واحدا يعلن انتقاده لتعطيل الحياة النيابية بالكويت، التي كانت
صاحبة البرلمان الخليجي الوحيد المنتخب، ولا حتى من الكيان الهلامى المسمى
البرلمان العربي أو الكيان الشكلي المسمى اتحاد الصحفيين العرب، أو غيرها من وسائل
الإعلام العربية في ظل الإغداق عليها من قبل السلطات الكويتية بنشر إعلانات واسعة في
العيد الوطني للبلاد.
ولا يملك المواطن
الكويتي الذي أهدرت إرادته السياسية مرتين في خمسة أشهر سوى الصمت أو التأييد
لقرارات الأمير، بعدما تعرض له من انتقدوا القرار على مواقع التواصل الاجتماعي من
ضبط وإحضار واحتجاز، لتخلو الساحة من أي انتقاد للقرار فيما عدا بعض الكويتيين
المقيمين خارج البلاد، وحتى إن كثيرا من هؤلاء اكتفوا بالتساؤلات.
ألم يكن الأولى
مع وجود فساد من قبل بعض النواب كما قال الأمير أن تتم محاسبة هؤلاء قضائيا وليس
حل البرلمان بالكامل؟ وألم يكن الأمر مع حل البرلمان وتعطيل مواد بالدستور يتطلب استفتاء
الشعب؟ وكيف يستحوذ الأمير على السلطة التنفيذية والتشريعية معا؟ ومن سيحاسب
الحكومة في السنوات الأربع التي سيتعطل البرلمان خلالها؟ بل كيف يقول الأمير إنه
خلال السنوات الأربع "ستتم دراسة جميع جوانب المسيرة
الديمقراطية ورفع نتائج
الدراسة والدراسة لنا"، ليكون هو الحكم والمُقرر لما يراه بلا تدخل برلماني
أو شعبي؟!
twitter.com/mamdouh_alwaly