في مقال لافت تحت عنوان: "استراتيجية إسرائيل الانتحارية"،
اعتبر رينو جيرار، الكاتب في صحيفة "لوفيغارو" اليمينية الفرنسية
المناصرة للكيان الصهيوني، "إطالة إسرائيل حربها على
غزة يعد بمثابة انتحار
بالنسبة للغرب، لأنه يقدم على طبق من فضة هدية لفلاديمير بوتين ودليلا يوميا على
ازدواجية المعايير في الدروس الأخلاقية للغرب".
وكتب: "لتكن لنا الجرأة على القول إن الصهيونية الغازية هذه
تعدّ انتحارية لإسرائيل وللغرب الذي يدعمها.. مثل هذه الإستراتيجية المتمثلة في
الطرد القسري لأحفاد السكان الذين عاشوا لعدة قرون في
فلسطين لديها فرصة ضئيلة
للغاية لقبولها من قبل جيران إسرائيل، سواء القريبين أو البعيدين. فهذه هي الوصفة
المثالية للحرب الأبدية.. وحتى الولايات المتحدة قد تتعب يوماً ما من غطرسة اليمين
الإسرائيلي الذي يحرم الفلسطينيين من حقيقة تشكيل أمة".
صدى هذا الاستنتاج يتردد كثيرا، وبصوت عال وغير مسبوق حتى في الغرب،
حتى لدى كثير من الصهاينة وأنصارهم، خاصة مع استمرار
العدوان الوحشي للكيان
الصهيوني على غزة وبعد زلزال “طوفان الأقصى" لحماس في 7 أكتوبر 2023. لكن
الأمر يأخذ بعدا أعمق وأكبر في ما يقوله المؤرخ والباحث الأنثروبولوجي
والديموغرافي والاجتماعي الفرنسي، إيمانويل طود، الذي صدر له هذا الشهر (يناير)
كتاب يثير ضجة وجدلا في فرنسا والغرب بعنوان "هزيمة الغرب".
وكان تود توقع انهيار السوفييتي في كتابه الشهير "السقوط
الأخير"، الذي أصدره عام 1976، وهو في الخامسة والعشرين من العمر. وأصدر تود
المتهم بمعاداة الولايات المتحدة، عام 2001 كتابا بعنوان "ما بعد
الإمبراطورية" قدم فيه حججه على أفول الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عالمية
مهيمنة، رغم مزاعم انتصارها الكبير بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
كما نشر تود في 2015 كتابا بعنوان "من هو شارلي؟" أثار ضجة
كبيرة في فرنسا، وحملة انتقادات كبيرة ضده لأنه اعتبر، هو اليهودي، أنه يتم في
فرنسا استبدال كراهية اليهود في فرنسا بكراهية المسلمين، وأن هناك حتى رابط
"عمق ديني مسيحي كاثوليكي مكبوت" في ذلك، وتحت غطاء حملة "أنا
شارلي" والمظاهرات التي شهدتها فرنسا بعد الهجوم على مجلة "شارلي
إيبدو" الفرنسية الساخرة على خلفية رسم كاريكاتوري مسيء للنبي محمد، والتي
خلفت 12 قتيلا، ثم الهجوم على متجر يهودي ومقتل أربعة أشخاص فيه.
وصرح تود، حينها، "ما يقلقني اليوم ليس حفنة من المتطرفين
والمختلين عقليا الذين يرتكبون هجمات إرهابية باسم الإسلام، بل الهستيريا التي
أصابت المجتمع الفرنسي". وإن كان تحالف هذه القوى الرجعية اليمينية الفرنسية
المعادية للسامية، وحتى تيارات يسارية وأوساط يهودية صهيونية موالية لإسرائيل
ونافذة في فرنسا واضح في هذه الإسلاموفوبيا، فإن الكاتب، الذي صرح مرارا بأنه لا
أحد يمكن المزايدة عليه باليهودية، أكد بأنه "لا يمكن أنه لا يمكنه تقبل
الفكرة التي بدأت تنتشر داخل المجتمع الفرنسي والتي تقول بأن الإسلام يشكل خطرا
كبيرا على حياة اليهود، لسبب واحد وهو أنه لا توجد قارة تعرض فيها اليهود إلى
القتل والمجازر مثل القارة الأوروبية".
تود الذي يعود مرة أخرى لإثارة الجدل بكتابه الجديد "هزيمة
الغرب" وبشكل خاص في سياق الحرب في أوكرانيا، تم انتقاده مرة أخرى بأنه معاد
للولايات المتحدة، وبأنه "عميل لبوتين واعتذاري ومبرر له ومحاولة تقديم روسيا
كضحية وليس هي التي غزت وشنت الحرب على أوكرانيا". وزعمه بأن الغرب بقيادة
الولايات المتحدة ينهزم في هذه الحرب، وبأن بوتين ينتصر، لكنه رد بالقول إنه في
الحقيقة يرى أن "الغرب يهزم نفسه" في ما وصفها العام الماضي بأنها
"حرب عالمية ثالثة"، وليس بالضرورة أن روسيا تنتصر.
ويحاجج تود في كتابه بأن أسباب هذا الأفول الغربي، حسب
رأيه، متعددة:
نهاية الدولة ـ الأمة؛ تراجع الاقتصاد والصناعة، الذي لم يعد يسمح للغرب عموما
والولايات المتحدة بشكل خاص، بتصنيع الأسلحة لصالح أوكرانيا. ومن أبرز الأسباب
برأيه هي "الحالة الدينية الصفرية" لما أسماه النسيج
أو"المصفوفة" الدينية وفي المقام الأول "البروتستانتية".
واعتبر الكاتب "أن تبخر البروتستانتية في الولايات المتحدة وإنجلترا وفي جميع
أنحاء العالم البروتستانتي قد تسبب في اختفاء ما يشكل قوة الغرب وخصوصيته. وأن
المتغير المركزي هو الديناميكيات الدينية".
وبرأي تود "فعندما ننظر إلى حاشية جو بايدن، نرى مجموعة من
المسؤولين الذين لم يعودوا مرتبطين بأي نظام عقائدي مشترك جماعي من أصل بروتستانتي.
ونلاحظ في هذا الصدد، وجود تمثيل زائد للسود واليهود داخل حكومة
بايدن، الذي يعتبر هو نفسه كاثوليكيا من أصل إيرلندي".
ويخلص تود في تحليله "أن الوعي بهذا الارتداد الديني يؤدي إلى
"العدمية الأمريكية" التي تجد تعبيرها في الحروب والعنف".
وفسر الكاتب العدمية بـ"الرغبة في التدمير، ولكن أيضًا الرغبة
في إنكار الواقع. لم يعد هناك أي أثر للدين، لكن الإنسان لا يزال موجودا”.
تود الذي أنهى كتابه قبل 7 أكتوبر والحرب الإسرائيلية، وكان جاهزا
للنشر قال إنه اضطر لإضافة فصل أخير له بسببها وللإشارة إلى هذه العدمية
الأمريكية. وقد عنون الفصل الأخير بـ"العدمية الأمريكية: دليل غزة".
ويرى هذه العدمية في "دعم الولايات المتحدة غير المشروط لإسرائيل"،
واعتبر أن ذلك "الأعراض الانتحارية للولايات المتحدة المندفعة نحو العنف".
ويزعم أن الهزيمة في أوكرانيا هي التي دفعت الولايات المتحدة
لـ"الهروب" لدعم إسرائيل في غزة. رغم أنه موضوعيا واشنطن لم تتكن تتوقع
أن تصمد كييف أمام الغزو الروسي لثلاثة أيام!
ويذهب تود ليقول: "إن الموقف المتعطش للحرب لإدارة بايدن، والذي
يمتد من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، أعطى روسيا، التي لا تزال في حالة حرب،
إمكانية الظهور كقوة للسلام. وبالنسبة للعالم العربي، فقد أصبحت الآن الدرع الوحيد
الممكن ضد تجدد العنف من جانب الولايات المتحدة. وإن تفضيل واشنطن للحرب يقودنا
إلى تصور أن الإسرائيليين، الذين سئموا حربهم التي لا نهاية لها، سوف يلجأون في
نهاية المطاف إلى روسيا، التي هم قريبون منها إنسانيا، لمساعدتهم على الهروب من
مستنقع الأعمال الانتقامية".
إذا كانت إسرائيل تقوم بتطهير عرقي في حق الفلسطينيين في غزة، فإن روسيا رعت وساهمت في "تطهير طائفي" في سوريا أدى إلى تهجير قسري للغالبية السنية بما يتجاوز الـ10 ملايين بين تهجير خارجي وداخلي.
يبدو لي أن طرح تود وبقدر ما فيه من حجج، بقدر ما في خلاصاته من
تناقض وتهافت، قد يؤكد الاتهامات الموجهة له بأنه اعتذاري لروسيا وبوتين، ويبدو لي
غريبا تقديمه له "كمنقذ للعرب والإسرائيليين"! رغم أن الوقائع التاريخية
في الحقيقة تؤكد أن أول عاصمة اعترفت بالكيان الصهيوني كانت موسكو، في عهد الاتحاد
السوفياتي، و"أن هؤلاء اليهود القريبين من روسيا إنسانيا" كما يصفهم
تود، تعرضوا إلى ما تعرضوا له من تمييز و"مذابح" خلال حكم الإمبراطورية
الروسية، ومصطلح "Pogrom" المستعمل في هذا السياق هي كلمة روسية.
وقد دفعت هذه المذابح كثيرا من اليهود للالتحاق بالعصابات الصهيونية
في فلسطين المحتلة. وقد تواصلت هجرة اليهود لفلسطين المحتلة في عهد الاتحاد السوفييتي،
الذي أدى انهياره وتواطؤ روسي مع الصهاينة الأمريكيين إلى تسريعها، حيث يتجاوز
إجمالي عددهم، حاليا، أكثر من المليون.
ثم وبالمقارنة الموضوعية فإن بوتين لا يختلف إجرامه ودماره في
الشيشان والمحارق والمجازر التي ارتكبتها ولاتزال قواته وطائراته في سوريا، عما
تقوم به إسرائيل في غزة. وإن دعمه لإجرام ميلشيات نظام الأسد (الذي كان
لـ"حماس" بالمناسبة موقف ضده أدى إلى خروج قيادتها من دمشق)، وكذلك
ميليشيات إيران الطائفية في سوريا، لا يختلف كثيرا عن دعم واشنطن لإسرائيل!
وموضوعيا كذلك فإذا كانت إسرائيل تقوم بتطهير عرقي في حق الفلسطينيين
في غزة، فإن روسيا رعت وساهمت في "تطهير طائفي" في سوريا أدى إلى تهجير
قسري للغالبية السنية بما يتجاوز الـ10 ملايين بين تهجير خارجي وداخلي.
ثم في ما يخص "العدمية" والبعد الديني يبدو طرح تود مرة
أخرى متناقضا فهل كان تعطش الإدارات الأمريكية (البروتستانتية) السابقة للعنف
والحروب مختلفا عن التعطش الحالي بقيادة بايدن، الكاثوليكي، الذي بمناسبة هو
متصهين أكثر من كثير من اليهود ومن الإنجيليين، والذي صرح مفتخرا بأنه
"صهيوني وأنه لو لم تكن إسرائيل موجودة لأوجدناها"!
ثم في ما يخص الدين والتعطش للحروب كذلك: بوتين عميل "الكاجي
بي" السابق، الذي للمفارقة يقدسه كثير من اليساريين الشيوعيين بحنين سوفييتي،
رغم أنه من أنصار الحكم القيصري ويرى أنه امتداد لروسيا القيصرية، ويدعم الكنيسة
الأرثوذوكسية وتعمده، هل يختلف تعطشه وتعطش رئيس هذه الكنيسة للحروب عن أمريكا؟
ألم يبارك رئيس هذه الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية الحرب الإجرامية التي قام بها
بوتين في سوريا، ووصفها بـ"الحرب المقدسة"؟!
*كاتب جزائري مقيم في لندن