بدأت
إسرائيل
نهاية تشرين الأول/ أكتوبر الماضي عدوانها وعمليتها أو مناورتها البرية في قطاع
غزة حسب تعبير قائد المنطقة الجنوبية لجيش الاحتلال الجنرال
يارون فينكلمان، علما أن الدولة العبرية تحاشت لنحو من عشر سنوات الدخول أو التورّط
البري في القطاع بعد الثمن الباهظ الذي دفعته بعد آخر تجربة بحرب العام 2014، وانسجاما
مع عقيدة رئيس الوزراء الحالي بنيامين
نتنياهو الأمنية لإبقاء الوضع الراهن -الحصار
وعزل غزة عن فلسطين والعالم- كما لتأبيد الانقسام مع الضفة باعتباره مصلحة
استراتيجية للدولة العبرية.
في استطلاع للرأي
أواخر الشهر نفسه قال ثلثا الإسرائيليين إنهم يؤيدون العملية البرية في غزة، فيما
بدا تعبيرا عن معطيات عدة؛ أهمها بالطبع صدمة طوفان عملية الأقصى في 7 تشرين
الأول/ أكتوبر والرغبة العارمة في الانتقام، خاصة مع إعلان الحرب بشكل رسمي واستدعاء
مئات الآلاف من جنود الاحتياط، وتجند الدولة كلها للحرب.
رغم إلقاء آلاف أطنان
من القنابل والصواريخ على غزة وقتل وإصابة عشرات الآلاف في المرحلة الأولى من
الحرب -الجوية- إلا أن الرغبة بالانتقام لم تخمد عند الإسرائيليين أمام صدمة مشاهد
طوفان الأقصى، والقول بأنهم جربوا الغارات الجوية الساحقة من قبل وهي وحدها غير كفيلة
بالقضاء على
حماس وإسقاطها وإزاحتها من السلطة وفق الهدف المعلن للحكومة الإسرائيلية
وكابينيت "مجلس الحرب" بإطاريه المصغر والموسع.
مبدئيا، بدت
العملية البرية حتمية منذ اليوم الأول مع إعلان الحرب بشكل رسمي وتجنيد مئات آلاف
جنود الاحتياط ووضع نصف مليون جندي بين نظامي واحتياط على أهبة الاستعداد، والشلل الاقتصادي
شبه التام في الدولة، والأمر لم يكن للاستعراض فقط كما أن إعلان الحرب نفسه بدا
لافتا وذا دلالة، وهو يحدث للمرة الأولى منذ حرب تشرين الأول/
أكتوبر 1973، علما أن حرب 2006 في لبنان تم اعتبارها كذلك بأثر رجعي وبناء على
تحقيقات لجنة فينوغراد.
عملية طوفان الأقصى والحرب هدمت كذلك عقيدة المؤسس دافيد بن غوريون الأمنية الثلاثية المتمثلة بردع الأعداء عن مهاجمة إسرائيل والحسم السريع بحرب قصيرة، مع إبعاد الحرب عن العمق الأمني الإسرائيلي وخوضها في أراضي الأعداء
قبل الغوص عميقا
في العملية البرية -بمراحلها المختلفة- وحيثياتها وأهدافها ومعوقاتها، لا بد من
لفت الانتباه إلى معطيين جوهريين؛ أولهما أن إعلان الحرب وتحديد إسقاط حماس
وسلطتها كهدف لها يتناقضان مع عقيدة نتنياهو القتالية القائلة بعدم الحسم العسكري
تجاه غزة لإبقاء الوضع الراهن على حاله ووأد العملية السياسية والمفاوضات بما في
ذلك حلّ الدولتين، ضمن نظرية إدارة الصراع بأقل تكلفة ممكنة حتى مع جولات ومعارك قتالية
كل عدة سنوات ضد غزة بحيث لا ترتقي إلى الحرب بالمعنى الحقيقي للكلمة.
أما المعطى الآخر
فهو كون عملية طوفان الأقصى والحرب هدمت كذلك عقيدة المؤسس دافيد بن غوريون الأمنية
الثلاثية المتمثلة بردع الأعداء عن مهاجمة إسرائيل والحسم السريع بحرب قصيرة، مع إبعاد
الحرب عن العمق الأمني الإسرائيلي وخوضها في أراضي الأعداء.
وبالعودة إلى
موضوع المقال، فقد اعتقدت منذ صباح 7 تشرين الأول/ أكتوبر أن سؤال العملية البرية
هو متى وكيف لا هل، بمعنى أنها باتت محسومة أمام التجييش لاستعادة الردع والحسم
والنصر الحاسم، ونقل المعركة إلى أرض العدو التي هي بكل الأحوال في فلسطين المحتلة
نفسها، ومع استحالة إبعادها عن العمق الأمني للمدن والتجمعات الاستيطانية في الأراضي
المحتلة عام 1948، علما أن هذا حدث ولو نسبيا وجزئيا منذ الانتفاضة الأولى 1978 والثانية
2000 ثم المقاومة الشعبية والمسلحة في الضفة، وحتى الجولات القتالية التي استهدفت
فيها صواريخ غزة الأراضي والتجمعات الاستيطانية بالأراضي المحتلة عام 1948.
في السياق نفسه، كان
لقاء مجلس الحرب المصغر جدا مع الرئيس الأمريكي جو بايدن في بداية الحرب لافتا جدا،
حيث سمع هذا الأخير مرافعات استراتيجية وتكتيكية عن العملية البرية وضرورتها الملحة
لاسترداد الردع ولوجود الدولة العبرية نفسها ودورها في المنطقة كقاعدة متقدمة لأمريكا
والغرب، كما لسيرورة التطبيع والعلاقات المتنامية مع الدول العربية.
مع الوقت وخلال الفترة
الماضية شهدنا تلاعبا بالألفاظ تجاه أهداف العملية أو المناورة البرية من القادة الإسرائيليين
فيما يخص القضاء على حماس وإسقاطها، حيث يجري الحديث عن تفكيك وتدمير البنى والقدرات
العسكرية والسلطوية للحركة؛ حيث لا إمكانية للقضاء عليها نهائيا كتنظيم أيديولوجي يسكن
القلوب والعقول حسب تعبير الجنرال أهود باراك (نابليون إسرائيل) الذي لا يثق
بجدارة نتنياهو لإدارة الحرب. ولذلك بدا متحمسا جدا لانضمام تلامذته رؤساء الأركان
السابقين بيني غانتس وإيتان إيزنكوت إلى الحكومة، وتحديدا كابينيت الحرب المصغر
الذي يضمهما، إضافة إلى نتنياهو ووزير دفاعه يواف غالانت ووزير الشؤون
الاستراتيجية -وزير الخارجية الفعلي- رون دريمر مع إقحام لافت وذي مغزى أحيانا لزعيم
شاش أرييه درعي كممثل للمتدينين؛ بحجة أنه عقلاني أو براغماتي بالمعنى الإسرائيلي
طبعا.
شهدنا تلاعبا بالألفاظ تجاه أهداف العملية أو المناورة البرية من القادة الإسرائيليين فيما يخص القضاء على حماس وإسقاطها، حيث يجري الحديث عن تفكيك وتدمير البنى والقدرات العسكرية والسلطوية للحركة؛ حيث لا إمكانية للقضاء عليها نهائيا كتنظيم أيديولوجي يسكن القلوب والعقول حسب تعبير الجنرال أهود باراك
في السياق، لا بد
من التوقف قليلا عند إيزنكوت، آخر رئيس أركان انتقل إلى السياسة ويُعتبر الآن أحد أهم
المفكرين الاستراتيجيين في الدولة العبرية، وهو صاحب عقيدة غزة المتضمنة استخدام القوة
الجوية والصاروخية الساحقة ضد المواطنين العزّل والبلدات المكتظة بالسكان، مع اعتبارها
تحديثا ولو جزئيا لعقيدة بن غوريون التقليدية، علما أن إيزنكوت مؤمن بوجوب إسقاط
حماس؛ لا التغاضي عن سلطتها حسب عقيدة نتنياهو بحجة الحفاظ على الأمر الواقع والانقسام
بين مع الضفة الغربية، كما دعا دوما إلى استئناف عملية التسوية والمفاوضات وفق حل
الدولتين المقبول فلسطينيا وعربيا وإقليميا ودوليا، ولكنه مثل رئيسه الحالي وقائده السابق غانتس يتحدث عن كيان فلسطيني "ما"
أقل من دولة وأكبر من حكم ذاتي من زاوية مصلحة إسرائيل الحيوية؛ كون هذا الحل لا
يفقدها يهوديتها أو ديمقراطيتها حسب تعبير معلمه الآخر أهود باراك، علما أن هذا الحلّ
أو التعبير -أكثر من حكم ذاتي وأقل من دولة- يملك نتنياهو حقه الحصري قبل أن يتخلى
عنه لصالح إدارة الصراع وفق الواقع الراهن.
من الأسباب التي
دعمت العملية البرية كذلك، الدعم الدولي الواسع لإسرائيل، والنافذة السياسية الزمنية
المفتوحة والتي سعت الدولة العبرية لاستغلالها، ومحاولة تحقيق إنجاز أو صورة نصر
ما مع اليقين بأن تلك النافذة ستضيق مع الوقت وصور الفظائع الآتية من غزة.
من الأمور المهمة
أيضا، طبيعة العملية أو المناورة البرية ومراحلها كما أسماها قائد المنطقة
الجنوبية لجيش الاحتلال، وقدّم غالانت صورة عنها أمام لجنة الخارجية والأمن البرلمانية
في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، حيث تحدث عن ثلاث مراحل للحرب البرية؛ أولا توغل
مصاحب للغارات الجوية في المناطق الحدودية المفتوحة (27 تشرين الأول/ أكتوبر) وتدمير
الأنفاق في المنطقة، والمرحلة الثانية (6 تشرين الثاني/ نوفمبر) تنفيذ توغل أعمق
والقتال داخل المناطق الحضرية الكثيفة شمال غزة وجنوبها؛ تحديدا مدينة خان يونس.
أما المرحلة
الثالثة الأخيرة فتشمل نصب حاجز عسكري في منطقة وادي غزة والانكفاء لعمق 2-3 كلم، لإقامة
منطقة عازلة أو حزام أمني داخل غزة نفسها، أي منطقة أمنية مفتوحة لتأسيس نظام أمني
جديد حسب تعبير غالانت، بينما قال الجنرال بينى غانتس إنه سيكون مشابها لما يجرى في
الضفة الغربية؛ أي سيطرة أمنية تامة وتوغلات واجتياحات محددة زمنيا ومكانيا.
قال الوزير من
حزب غانتس وإيزنكوت، الليكودي السابق جدعون ساعر، إن الهدف النهائي سيكون تقليص
مساحة غزة وجباية ثمن جغرافي كعقاب للتجرؤ على مهاجمة إسرائيل، وجعل التفاوض أسهل
بعد وقف إطلاق النار.
هدفت العملية البرية ولا تزال إلى تهدئة الغضب الداخلي، وإشباع غريزة الدم والانتقام في الشارع الإسرائيلي، والتفاوض من مركز قوة عند توقف إطلاق النار بعد أسابيع أو شهور أو حتى سنوات
أما استعادة الأسرى
فتبدو صعبة وحتى مستحيلة مع تنفيذ جيش الاحتلال "برتوكول" هانيبال منذ
اليوم الأول للحرب، وكما قال أبو الناطق باسم كتائب عز الدين القسام، أبو عبيدة، فقد
أدت الغارات الإسرائيلية إلى مقتل عدد من الأسرى مع حراسهم من المقاومين.
وبالعموم، هدفت
العملية البرية ولا تزال إلى تهدئة الغضب الداخلي، وإشباع غريزة الدم والانتقام في
الشارع الإسرائيلي، والتفاوض من مركز قوة عند توقف إطلاق النار بعد أسابيع أو شهور
أو حتى سنوات كما قال بينى غانتس.
أما التأخير في
تنفيذها -ثلاثة أسابيع- فيعود لأسباب عسكرية وسياسية، حيث لم يكن الجيش جاهزا فعلا
من الناحية اللوجستية واحتاج أسبوعين على الأقل لإعلان أو ادعاء جهوزيته، بينما
تدخلت الولايات المتحدة للتأجيل بعد ذلك لإعطاء فرصة أفضل أمام إطلاق سراح المحتجزين
المدنيين -النساء والأطفال والشيوخ- كما لنشر مزيد من المنظومات التسليحية
والعسكرية في المنطقة تحسبا لانضمام جهات أو دول أخرى إلى الحرب.
وبالتأكيد، واجهت
العملية ولا تزال مقاومة شرسة وتكتيكات ومفاجآت من قبل المقاومة خاصة في مرحلتها الثانية،
ما أدى إلى إطالتها. وعمليا، شهدت تورط جيش الاحتلال في وحول غزة مع خسائره
العالية التي لا يمكن إخفاؤها؛ ما مثّل سبب أو أحد أسباب استعداد الجيش ومجلس
الحرب للانتقال إلى المرحلة الثالثة في كانون الثاني/ يناير القادم، ناهيك عن
الضغوط الأمريكية في ظل استمرار المجازر والفظائع الإسرائيلية التي لم يعد بالإمكان
تغطيتها أو الدفاع عنها أمام الرأي العام الأمريكي والعالمي.
وبالعموم، تبقى أو
تتمثل معضلة العملية البرية الأساسية بسؤال صباح اليوم التالي، حيث لم تتم بلورة أهداف
محددة أو تقديم إجابات جدية للإدارة الامريكية والمجتمع الدولي، حيث قال نتنياهو إنه
لا أحد يفكر بإعادة احتلال غزة وحكم أكثر من مليوني مواطن فلسطيني مرة أخرى، كما أعلن
الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه عن رفضه إعادة الاحتلال، مع التفكير في رعاية (وصاية)
الأمم المتحدة بحضور عربي إقليمي -مصري وأردني وقطري وتركي- تمهيدا لعودة السلطة الفلسطينية
بعد فترة انتقالية لأسابيع أو شهور، بحيث يجري التنسيق مع الدول العربية لا
الاحتلال الإسرائيلي، وهذا لا يمكن أن يتم دون أفق سياسي جديّ للقضية الفلسطينية بعيدا
عن التذاكي والتلاعب بالألفاظ، حيث لا إمكانية لاستمرار السياسة السابقة، ودفن
الرؤوس بالرمال تجاه غزة، وتجاهل القضية الفلسطينية وكنسها عن جدول الاعمال الإقليمي
والدولي.
غزة لن تغرق في البحر وستبقى ثقبا في رأس الاحتلال إلى حين التوصل إلى حل عادل للقضية يرتضيه أصحابها، سواء كان حل الدولتين أو الدولة الواحدة، مع ارتفاع معدلات الهجرة العكسية وعودة السؤال الوجودي إلى إسرائيل
في النهاية، لا بد
من العودة إلى حديث غالانت أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، والتذكير بأن
نتنياهو لم يُرد أبدا التورط بالعملية البرية كونها ليست نزهة مع مئات القتلى وآلاف
المصابين من جنوده وآلاف الشهداء الفلسطينيين، واستمرارها أسابيع طويلة بأثمان
اقتصادية باهظة على الدولة العبرية حتى مع الدعم الأمريكي الواسع، ناهيك عن الهدف
الصعب وحتى المستحيل بالقضاء على حماس عسكريا وسلطويا واستحالة هزيمة فلسطيني
ينتقل حافيا من نفق إلى آخر –حسب تعبير يديعوت أحرونوت في 29 كانون الأول/ ديسمبر-
واليقين بأن غزة لن تغرق في البحر وستبقى ثقبا في رأس الاحتلال إلى حين التوصل إلى
حل عادل للقضية يرتضيه أصحابها، سواء كان حل الدولتين أو الدولة الواحدة، مع ارتفاع
معدلات الهجرة العكسية وعودة السؤال الوجودي إلى إسرائيل؛ حيث قال وزير الدفاع وآخرون
إن العملية البرية ضرورية لوجود الدولة العبرية وأمنها، و"إما نحن أو حماس"
حسب تعبير غالانت الحرفي، بينما قدم باراك من جهته إجابة ولو غير مباشرة على كلام
وزير الدفاع الذي عجز عن أن يكون رئيس أركان قبل سنوات إثر رفض النخبة العسكرية لذلك؛
تشكيكا بقدراته وملاءمته للمنصب.