ظلت
أفريقيا لعقود مثالا سيئا عن ظاهرة
الانقلابات العسكرية، فما بين 1960،
وهو تاريخ بداية استقلال الأقطار الأفريقية عن الاستعمار، وعام 2000، قُدر متوسط
الانقلابات في القارة السمراء بأربع محاولات كل عام. وفي سنة 2021 وحدها وقعت ستة
انقلابات، نجح منها أربعة في كل من مالي والسودان وغينيا كونكري وبوركينا فاسو،
وخلال صيف 2023، حصل انقلابان في كل من النيجر والغابون، ولا يُعرف على وجه اليقين
أين ومتى تتوقف موجة الانقلابات العسكرية في القارة الأفريقية.
كُتب الكثير عن الظاهرة الانقلابية في أفريقيا، ومصادر استبداد العسكر بالسلطة
في هذه البلاد، فأظهرت التجارب، بما لا يترك مجالا للشك، بأن عوامل التفسير عديدة
ومتنوعة، يتقاطع فيها الخارج والداخل، وتتضافر من أجل وقوعها ضغوطات التاريخ،
وحتمية الجغرافيا، ومسؤولية الجهل والفقر والتخلف، علاوة طبعا على الاستعمار،
ومظاهر استمراره في الاقتصاد والسياسة والثقافة والمجتمع. ثم إن التوزيع الجغرافي للانقلابات
غير موحد بين مناطق أفريقيا وجهاتها الكبرى، حيث تحظى منطقة الساحل بالنصيب الأكبر
من عدد المحاولات الانقلابية الناجحة منها والفاشلة، إذ أفادت بعض الدراسات أن من
أصل 25 انقلابا ناجحا منذ 1990 في غرب أفريقيا، كان نصيب الساحل وحده 12، و8
انقلابات في خليج غينيا. وتؤكد الأحداث المتواترة في القارة، أن ظاهرة الانقلابات مرشحة
للزيادة في هذه المنطقة، لاعتبارات أمنية، وجيوسياسية، واقتصادية.
أظهرت التجارب، بما لا يترك مجالا للشك، بأن عوامل التفسير عديدة ومتنوعة، يتقاطع فيها الخارج والداخل، وتتضافر من أجل وقوعها ضغوطات التاريخ، وحتمية الجغرافيا، ومسؤولية الجهل والفقر والتخلف، علاوة طبعا على الاستعمار، ومظاهر استمراره في الاقتصاد والسياسة والثقافة والمجتمع. ثم إن التوزيع الجغرافي للانقلابات غير موحد بين مناطق أفريقيا وجهاتها الكبرى؛ حيث تحظى منطقة الساحل بالنصيب الأكبر.
فلو تأملنا في عدد الانقلابات التي حصلت في أفريقيا على مدار ستة عقود أعقبت
الإعلان عن الاستقلال، وهو ما قدرته الكثير من الدراسات بقرابة 200 انقلاب أو أكثر
بقليل، بين ناجح وفاشل، لوجدنا أن المعطى الأمني حاضر بقوة في الكثير منها، لا سيما
تلك التي وقعت في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل. فمن جهة، ثمة هشاشة أمنية، حيث تشترك
دول هذه المنطقة في ضعف إمكانياتها لمواجهة التحديات الأمنية الناجمة عن الصراعات
الداخلية، وأنشطة الجماعات الإرهابية بكل أنواعها، وما يترتب عن العمليات المحظورة
دوليا، التي غالبا ما تجد في هذه المنطقة بيئة ملائمة ومشجعة لها، من قبيل تهريب المخدرات،
والاتجار في البشر.
وقد قدمت دولة مالي في هذا الصدد نموذجا لافتا لتغلغل أعمال العنف والإرهاب
في أراضيها، واستعصاء التغلب عليها من قبل الدولة، مما جعل الأراضي المالية مجالا
مفتوحا للجيوش الأجنبية، لا سيما الغربية والفرنسية على وجه التحديد، بل الحالة
نفسها حصلت في دولة بوركينا فاسو منذ العام 2015، حين داهمتها تنظيمات متطرفة، مثل
"داعش" و"القاعدة"، مخلفة أضرارا بشرية ومادية جسيمة، وشردت
قرابة 15 مليون من المواطنين، عجز الحكم المدني عن التصدي لها، فكان مآله الإطاحة والانقلاب
عليه.
بيد أن فهم انتشار الظاهرة الانقلابية في القارة الأفريقية، مع وجود تباينات
في توزيها الجغرافي، لا يستقيم بالتركيز على الهشاشة الأمنية، على أهميتها، بل تتضافر
معها محددات أخرى لا تقل أهمية في تعرية مصادر الروح الانقلابية في السياق الأفريقي.
الديمقراطية لا تستقيم مع الفقر وضيق العيش والهشاشة الاجتماعية، بل خلافا لما ظنت الدعوات الغربية، يشكل الفقر عائقا أساسيا وقاتلا للديمقراطية؛ لأن استبداد الجوع بالناس يمنعهم من امتلاك الحس المدني والثقافة المواطنة، والاحتكام لسلطان القانون وحكم المؤسسات، ويحولهم في الغالب إلى قوى مضادة للديمقراطية.
ويبرز في هذا المضمار فشل النموذج الأوروبي والغربي لبناء
الديمقراطية
والدعوة إلى إرساء مؤسساتها، أي ما يسمى "المشروطية الأوروبية" (Conditionnalité européenne)، التي
تصدرت فرنسا الدعوة إليها، والتبشير بفوائدها على عموم بلدان القارة. والحال أن المحصلة
الإجمالية لم تكن كما توقعتها الأوساط الغربية، حتى حين تراجعت الحرب الباردة نهاية
الثمانينيات (1989)، وانطلاق موجة الدمقرطة عبر الندوات الدستورية الكبرى في أفريقيا
مع العقد الأخير من القرن الماضي.
فاشتراط الديمقراطية وفرضها بالقوة المباشرة وغير المباشرة على بلدان
القارة الأفريقية، لا سيما الناطقة بالفرنسية، من أجل المحافظة على الدعم والتعاون
والمساعدة الغربية، لم يتأسس على فهم سليم للواقع الأفريقي في تعقيده وتنوع مكوناته
السسيوثقافية والإثنية. ثم إن الديمقراطية في أصل نشأتها وتطورها التاريخي لم تستقم
في الممارسة، وتتوطن في الثقافة لو لم تتوفر لها ظروف حاضنة، وعلى رأسها مستوى
التعليم، ودرجة الثقافة السياسية المشاركة، وحيّز واضح ومقبول من الرفاه والعيش
الكريم، وهو ما ظل محدودا وشبه منعدم في الكثير من الدول الأفريقية.
فالديمقراطية لا تستقيم مع الفقر وضيق العيش والهشاشة الاجتماعية، بل خلافا لما ظنت الدعوات الغربية، يشكل الفقر عائقا أساسيا وقاتلا للديمقراطية؛ لأن استبداد الجوع بالناس يمنعهم من امتلاك الحس المدني والثقافة المواطنة، والاحتكام لسلطان القانون وحكم المؤسسات، ويحولهم في الغالب إلى قوى مضادة للديمقراطية، ويجعل من
سلوكياتهم معاول لنقض وتقويض البناء الديمقراطي.
تجد عودة عودة الانقلابات إلى أفريقيا مصادرها في العوامل ذاتها: الفقر والهيمنة الاستعمارية بكل أشكالها وأدواتها. ثم إن بعضا من الدول الأفريقية التي تمكنت من رفع تحدي الفقر، والخروج من عباءة الاستعمار، تتصدر اليوم قائمة الدول ذات معدل النمو المرتفع، والاستثمار الفعلي في الإنسان.
لذلك، خلص أحد تقارير منظمة "فريدوم هاوس" (Freedom House)، صدرت في
شباط/ فبراير 2017، إلى أنه على الرغم من التحسن المضطرد لمناخ الحريات، وهي مفاتيح
للديمقراطية ومن نتائجها المباشرة. إذ من أصل 54 دولة أفريقية، تعرف عشر دول منها
حرية تامة، بينما تتمتع 21 بحرية جزئية، في حين ما زالت 23 دول دون حرية.
لكل ما سبق، تجد عودة عودة الانقلابات إلى أفريقيا مصادرها في العوامل
ذاتها: الفقر والهيمنة الاستعمارية بكل أشكالها وأدواتها. ثم إن بعضا من الدول الأفريقية
التي تمكنت من رفع تحدي الفقر، والخروج من عباءة الاستعمار، تتصدر اليوم قائمة
الدول ذات معدل النمو المرتفع، والاستثمار الفعلي في الإنسان، وما يمكنه من المساهمة
في إنتاج الثروة الوطنية، من قبيل التعليم والتربية، والصحة، والتنمية المستدامة.
وإذا كانت الانقلابات حركة غير مقبولة، لصلتها البعيدة والمتناقضة مع
القانون وحكم المؤسسات، فهي تعبر، بشكل ما، عن خيبات أمل المجتمعات التي لم تجرب
بعد بدائل حقيقية لأنظمة الحكم، وبناء المؤسسات، وما يبدو واضحا أن دائرة العودة
ستتسع، وأن دولا أخرى قد تعرف المآلات نفسها.