تشدّ الأزمة
الإسرائيلية الداخلية الكثير من
الأنظار العربية إليها، وهو أمر معقول، طالما كانت "إسرائيل" عدوّاً طال
الصراع معه، ويبحث أعداؤها في كلّ ما يمكن أن يضعفها، بقطع النظر عن المبالغات
المستعجلة في التعويل على انهيارات إسرائيلية كبرى في الأفق المنظور جرّاء الأزمة،
كهذه الجارية الآن، لكن ما لم يكن معقولاً في ما مضى، أن تتّجه بعض الأنظار
العربية إلى تلك الأزمة وكأنّها جزء منها، أي أن تقرأ الأزمة الإسرائيلية من موقع
الحرص على الديمقراطية الإسرائيلية، وهو حرص تحاول تجميله، بالقول إن الديمقراطية
الإسرائيلية مصلحة للفلسطينيين، أو ينبغي أن تكون مصلحة مشتركة بين الفلسطينيين
و"الديمقراطيين الإسرائيليين".
ليس ثمّة ما يدهش في خطاب كهذا، بالرغم من
لا معقوليته، فالرداءة التي يتسم بها الوقت العربي الجاري، تجعل كلّ ما هو غير
معقول متوقّعاً، بما في ذلك من الأوساط الثقافية، التي يبدو أنّ همّ بعض أهلها،
فقط أن يقول ويحكي، وإن كان البعض، ذاته، مع تقادم الزمن، ينتهي به الحال إلى
تصديق أوهامه، من قبيل هذه الأوهام التي نأتي على عرضها هنا.
تقول حجّة هذا البعض، إنّ المسار التاريخي
للديمقراطية من حيث المنشأ والصيرورة، انتهى إلى أنّها انطوت على قيمة ماهوية، وهي
التناقض مع الاستعمار، تستفيد هذه الحجة مقولتها من التجربة الفرنسية، التي باتت
ديمقراطيتها واستقرارها الأهلي مهددين باستمرار استعمار الجزائر، إلا أنّه وبقطع
النظر عن
الرأي في مقولة تجوهر التجربة الديمقراطية الحديثة من حيث التاريخ
والمسار بهذا النحو، فإنّ هذه الحجّة لا تخفي في سياقها، الحرص على الاستقرار
الإسرائيلي، وهو ما تعزّزه حجة أخرى، رديفة، تقول إنّه لم يعد ممكناً الجمع بين
الديمقراطية والاحتلال، لأنّ الفصل الناجم عن هذا الجمع بين مجالين، داخلي
ديمقراطي وخارجي استعماري، أو التناقض الجوهري بالنسبة للممارسة الديمقراطية،
سينتقل بالضرورة إلى تناقض داخلي، أو فصل داخلي.
هذا الموقف المركّب، من رفض الاحتلال
الإسرائيلي (الخارجي) والإعجاب بديمقراطيته (الداخلية) بحيث لم يكفّ مئات آلاف
الإسرائيليين عن التظاهر ضدّ "تقليص صلاحيات المحكمة العليا"، لا يتجاوز
فقط عن طبيعة الوجود الإسرائيلي، بحيث تصعب مقارنته بأيّ تجربة تاريخية استعمارية
أخرى يمكن استفادة منظور منها لرؤية الحالة الإسرائيلية، وبما يجعله من طبيعة لا
يمكن اختزالها في "الفصل العنصري"، ولكنّه أيضاً (أي الموقف المركّب)،
يُغفِل طبيعة الديمقراطية الإسرائيلية نفسها، فإذا فهمنا أنّ هذا البعض بات يرى
الوجود الإسرائيلي في بلادنا طبيعيّاً، أو ينظر للصراع معها، بوصفه خاصًّا
بالفلسطينيين لا يحتاج فيه الفلسطينيون إلى أكثر من بعض النصائح الباردة، فإنّه لا
يليق به، ما دام يتزيّا بالمعرفة، أن يجهل الطبيعة الخاصّة بالديمقراطية
الإسرائيلية أو أن يقفز عنها.
هذه المقولة، إذن، تبدي خشية على
"إسرائيل" من ارتداد فصلها اللاديمقراطي الخارجي إلى داخلها، ومن ثمّ،
ترى (أي المقولة) مصلحة الفلسطينيين في المساهمة في تعزيز "المعسكر
الديمقراطي الإسرائيلي"، لأنّه (بحسب ما تقول) أولاً أكثر انفتاحاً على
التفاهم من المعسكر القومي المغلق الملتفّ حول بنيامين نتنياهو، وثانياً لأنّه ليس
من مصلحة الفلسطينيين أيّ انهيار إسرائيلي. بمعنى هي ترى معسكراً ديمقراطيّاً إسرائيليّاً
من شأنه أن يتطوّر إلى إدراك الحتمية التاريخية بضرورة التخلّي عن الاحتلال لأجل
ضمان الديمقراطية والاستقرار في "إسرائيل".
رفض هذه المقولة، لا يعني نفي التمايزات
الموجودة داخل "إسرائيل"، والوعي بهذه التمايزات لا يعني أن صراع
الفلسطينيين هو فقط مع اليمين القومي الإسرائيلي، بنسختيه الدينية والعلمانية، بل
إنّ الصراع مع هذا الفريق الإسرائيلي، هو بالدرجة الأولى صراع مع خصمه في الداخل
الإسرائيلي، ليس فقط لأن خصوم "إصلاحات نتنياهو القضائية" هم الامتداد
الأكثر اتصالاً بالتاريخ التأسيسي لـ "إسرائيل" والأكثر قيادة
لانتصاراتها التاريخية على العرب والفلسطينيين، والأكثر نفوذاً في دولة الاحتلال
والقتل والفصل، والأكثر استفادة من كونها واقعة استعمارية، ولكن أيضاً من كون هذا
الصراع، هو صراع على المكسب الاستعماري الناجم عن الوجود الإسرائيلي.
بالإضافة إلى الدعاية الإسرائيلية الموجّهة
إلى الخارج الغربي، لتمييزها في المنظور الأوروبي عن المحيط العربي، من حيث كونها
"واحة الديمقراطية" أو "الفيلا في الغابة"، ومن كون
"إسرائيل" تحمي نفسها من المحاكمات الدولية بحجة وجود قضاء
"مستقلّ" ينظر في دعاوى اقتراف جيشها وأجهزتها جرائم في حقّ الفلسطينيين،
مما يعني بداهة أن الاستفادة الفلسطينية، ولو من هذه الحيثية، تكون بانكشاف هذه
الأغطية الدعائية لا بتعزيزها، فإنّ الأهمّ في الأمر كلّه، أنّ الفصل الإسرائيلي
الداخلي يعبّر عن نفسه بالهندسة الاستعمارية، التي تجعل للتيارات الإسرائيلية
مناطقها السكنية المتباينة. ليس بالضرورة أن يكون هذا التباين حادّاً ومطلقاً في
كلّ مكان، كأن ينفصل الحريديم في القدس و"بني براك" ويفضّل العلمانيون
"تل أبيب"، وإن كان هذا واقعاً بنحو ما، لكن ما هو أكثر وضوحاً أنّ
الصهيونية الدينية تفضّل الضفّة الغربية ساحة لوجودها.
يبقى أنه هذا البعض العربي القلق على الديمقراطية الإسرائيلية من تناقضها مع الممارسة الاستعمارية مما من شأنه أن يأتي بالانهيار على الداخل الإسرائيلي، ينصح الفلسطينيين بأنّ مصلحتهم ليست في الانهيار الإسرائيلي، لأنّ الحالة الفلسطينية لا تبشّر إلا بانهيار فلسطيني مقابل، يضاف إلى الانهيارات العربية المجاورة. لا يعني ذلك إلا تفضيل العبودية للاحتلال الأجنبي، والتبرئة المطلقة للحالة الاستعمارية من كونها عاملاً في الانهيارات العربية المتتالية.
بنظرة قاصرة قد يفهم من ذلك، أنّ المصلحة
إذن في تعزيز المعسكر المناهض للصهيونية الدينية (لا ندري بالضبط كيف يمكن
للفلسطينيين أن يفعلوا ذلك)، إلا أنّ أوّل ما يظهر من هذا القصور، غفلته عن كون
الصراع، بين الفريقين الإسرائيليين، ليس على احتلال الضفّة الغربية، فالأوساط
الصهيونية، بما في ذلك المعارضة التي تمثّل الامتداد التاريخي لمن احتلّ الضفّة
الغربية في العام 1967 ووضع خطّته من ذلك الوقت بضرورة الاحتفاط بمساحات منها (خطة
إيغال ألون)، ترى في الضفّة الغربية، لاسيما وهي الأكثر نفوذاً في المؤسسة
العسكرية والأمنية، عمقاً إستراتيجيّاً وضرورة أيديولوجية وفرصة دائمة لإدارة
الصراع بعيداً عن أصل القضية، إلا أنّه، وفيما نحن بصدده مباشرة، ترى في الضفّة
المتنفس الأفضل لتصدير التناقض الإسرائيلي الداخلي إليها، بتصدير الاستيطان القومي
الديني إليها وتعزيزه فيها، وبحيث قد تصير المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية
مطلباً فلسطينيّاً لحماية الفلسطينيين من ميليشيات الصهيونية الدينية المسلّحة،
فالضفة الغربية، مكسب استعماري لكلا المعسكرين.
ذلك بقطع النظر عن طبيعة النقاش الإسرائيلي
الداخلي حول مفهوم الديمقراطية وتطبيقاتها، فالمشكلة الديمقراطية الإسرائيلية
ناجمة أيضاً عن الطبيعة الاستعمارية لـ "إسرائيل"، فلا حدود معلنة، ولا
دستور، والنظام برلماني، من غرفة واحدة، يفضي إلى خلط التشريعي الرقابي بالحكومي
التنفيذي، والمكوّن الاجتماعي مستدعى بالآلة الاستعمارية من شتات العالم الثقافي
والعرقي، ليكون الجيش حاضنة الصهر القومي الكبرى، هنا تظهر أهمية المحكمة العليا
بالنسبة لدولة هذا حالها، وأهمية الحفاظ على الجيش فوق
السياسة، لكنّ الطرف صاحب
"الإصلاحات القضائية"، يتذرّع أيضاً بدعاوى ديمقراطية، حجّتها أنّه يفوز
بالانتخابات لكنّه لا يمكّن من الحكم، كما يتصوّر ما ينبغي أن يكون عليه الحكم،
بينما من يخسر الانتخابات هو الذي يحكم، بسبب التوجّهات الأيديولوجية للمحكمة
العليا، وبسبب النفوذ التاريخي في "الدولة" للطرف الذي يخسر الانتخابات،
فما الذي يجعلنا ننزلق في تصنيف الفريقين إلى معسكر ديمقراطي وغير ديمقراطي!؟
يبقى أنه هذا البعض العربي القلق على
الديمقراطية الإسرائيلية من تناقضها مع الممارسة الاستعمارية مما من شأنه أن يأتي
بالانهيار على الداخل الإسرائيلي، ينصح الفلسطينيين بأنّ مصلحتهم ليست في الانهيار
الإسرائيلي، لأنّ الحالة الفلسطينية لا تبشّر إلا بانهيار فلسطيني مقابل، يضاف إلى
الانهيارات العربية المجاورة. لا يعني ذلك إلا تفضيل العبودية للاحتلال الأجنبي،
والتبرئة المطلقة للحالة الاستعمارية من كونها عاملاً في الانهيارات العربية
المتتالية.
البعض من هذا البعض أيّد ثورات شعبية في
المحيط العربي على أنظمة حكم غاشمة، وهذا جيد، لكنّك لا تدري لماذا تكون الأثمان
المدفوعة بالانهيار لأجل المطالبة بالحرية من طغيان محلّيّ مقبولة، ولكنها ليست
مقبولة في حال دفعت للتحرّر من الاستعمار الأجنبي؟! ليس لذلك معنى سوى ازدراء
الذات العربية وفقد الثقّة بها مطلقاً بافتراض أنّ الفشل والتمزّق جزء من الماهية
العربية!
على أيّة حال، ليس ثمّة مفاضلة أصلاً بين
استمرار "إسرائيل" وانقساماتنا الداخلية، ولسنا بحاجة للقول إنّه لا
يمكن لنا الوقوف الكامل على مشاكلنا أصلاً دون تصفية العامل الاستعماري من كلّ
وجه، بما في ذلك تصفيته حجّة وذريعة لاستمرار أوضاعنا القائمة.