أشرنا من قبل ضمن هذه السلسلة إلى اختطاف المؤسسة العسكرية
ومحاولة تطبيعها وتطويعها مع النظام الانقلابي في الثالث من يوليو الزاعم لتأسيس
جمهوريته الجديدة؛ حيث طرأ خلال السنوات العشر الأخيرة على هذه المؤسسة المختطفة ملمح
بارز يعبر عنها ويؤشر عليها؛ والخطير في الأمر أن جميع المؤسسات والأفراد في
الداخل والخارج يرون ذلك بشكل واضح ومباشر عدا هؤلاء العسكر الذين تحكموا في
البلاد والعباد والذين يتجاهلون ذلك تماما ولا يلقون له بالا.. ويتمثل هذا الملمح
في حالة الفجور في السلوك والاستخفاف في التفكير بعموم الناس وأرواحهم في التعامل
مع المواطنين
المصريين ومعاملتهم كأنهم عبيد لهذه المؤسسة المتعسكرة والمنتمين لها
ويعملون في خدمتها وفي كنفها كمؤسسات مدنية وظيفية، فالناس في خدمة العسكر ما
شاءوا وأينما شاءوا.
وقد يكون هذا
مفهوما إذا ما تذكرنا المشهد التأسيسي لقائد منظومة الثالث من يوليو وحديثه
المباشر والمنشور لقيادات و"عناصر" القوات المسلحة المصرية لتشجيعهم على
القتل والسحل للمصريين من خلال وعدهم بعدم الحساب: "أصبح هناك مناخ جديد،
هيقف قدام حضرتك عند مستوى معين، يضرب بقنابل، بغاز، بخرطوش، حد يموت أو حد يحصل
له حاجة في عينيه يتحاسب الضابط أحمد، لا، مش هيحصل خالص".
قد يكون هذا مفهوما إذا ما تذكرنا المشهد التأسيسي لقائد منظومة الثالث من يوليو وحديثه المباشر والمنشور لقيادات و"عناصر" القوات المسلحة المصرية لتشجيعهم على القتل والسحل للمصريين من خلال وعدهم بعدم الحساب
فإذا ما نظرنا
إلى المنتمين إلى هذه المؤسسة المعسكرة نجدهم يعتبرونها أساس حياتهم وليس وظيفة
يعملون فيها بشكل احترافي، فالضابط طوال الوقت يعتبر نفسه في الخدمة في أي وقت وفي
أي مكان، وإذا ما تعرض لحادث أو ظرف يستدعي تدخل مؤسسة أخرى من مؤسسات الدولة لا
يمكن أن يتم ذلك، حيث تسارع الشرطة العسكرية بالحضور والسيطرة على الأمر بغض النظر
عن المؤسسة الأخرى الموجودة.
وصارت المؤسسة
بعد اختطافها وتطويعها وتطبيعها ليست في خدمة الوطن ولا أمنه وأمانه، ولكن الوطن
بأسره ومواطنيه في خدمتها ورهن إشارتها. هذه الرؤية التأسيسية هي التي تحكم علاقات
المؤسسة وأعضائها مع المواطنين والمؤسسات الأخرى، ومن هذا المنطلق يكون تداعي
الأحداث بشكل مستمر أمرا منطقيا في ظل ما تمنحه هذه المؤسسة من شرعية لهذه
التصرفات وحماية أفرادها والدفاع عنهم.
في هذا الإطار
يأتي الحادث المروع والبشع الذي
ارتكبه نقيب طبيب في القوات المسلحة في "مدينتي"..
وهو يعبر عن الشخصية المتعسكرة المتضخمة والمنتفخة والتي ترى في نفسها أنها من غير
طينة البشر.. فتعاقُب الآخرين إلى حد القتل والدهس مثلما تفعل قوات الاحتلال في
محتليها.. هذا شأن خطير في الجمهورية الجديدة المزعومة التي ترى في العسكر الأسياد..
وأن البلد بالنسبة إليهم الوسية والعزبة والعبيد.. وأن الانتماء للمؤسسة يشكل
عصبية أو تشكيلا عصابيا يمثل الحاكم بأمره والمتصرف الأوحد لا يعقّب عليه أحد..
هذا الأمر يشبه أجهزة الأمن قبيل ثورة يناير التي استهانت بالنفوس واستخفت
بالأرواح.. ومن قبل أراق هؤلاء الدماء باسم الحفاظ على هيبة الدولة فأفرطت في
ترويع العباد والبلاد.
هذا التحليل وذلك
التوصيف لا يمكن اعتباره مبالغا فيه أو منحازا ضد هذه المؤسسة التي اختُطفت، فعلى
أقل تقدير فإن استعراض تاريخ هذه المؤسسة المشين من جراء اختطافها وهيمنة النظرة
المتعسكرة لعموم المجتمع، يُظهر في حقيقة الأمر أكبر الاختلالات في العلاقات
المدنية العسكرية خاصة في إطار علاقتها بالمجتمع وإدراكها لعموم الناس، فحالة
التورم العسكري والنفسية المعسكرة وتضخم الذات أدى إلى كثير من أمراض السلوك
والعلاقات بل وتمكنت منها فيروسات خطيرة في الحالة الإدراكية لمعظم من ينتمي إلى
هذه العصبة، فصار يتصرف ضمن هذا المناخ العام الذي يجعله سيدا يرتكب ما شاء وأنّى
شاء، لا يحاسَب أو يعاقَب على أي فعل مهما كان إجرامه.
استعراض تاريخ هذه المؤسسة المشين من جراء اختطافها وهيمنة النظرة المتعسكرة لعموم المجتمع، يُظهر في حقيقة الأمر أكبر الاختلالات في العلاقات المدنية العسكرية خاصة في إطار علاقتها بالمجتمع وإدراكها لعموم الناس، فحالة التورم العسكري والنفسية المعسكرة وتضخم الذات أدى إلى كثير من أمراض السلوك والعلاقات بل وتمكنت منها فيروسات خطيرة في الحالة الإدراكية لمعظم من ينتمي إلى هذه العصبة، فصار يتصرف ضمن هذا المناخ العام الذي يجعله سيدا يرتكب ما شاء وأنّى شاء
ولنا أن نتصور في
ذلك الحدث بعض الرمزيات المهمة التي تشكل مكونات هذا الحدث المروع والبشع والخطير،
فإن خدشا في سيارة هذا الضابط المنتفخ يعني أن أرواح من ارتكب هذا الخدش وأهله يمكن
أن تكون ثمنا لذلك الخدش، لأنهم تجرأوا وخدشوا سيارة السيد الضابط. وهو سلوك بدا
لنا في تضخمه لا يمكن تسكينه في كونه حالة فردية، ولكنه صار عملا متراكما يمكن أن
نعدد فيه عشرات الأحداث التي تؤشر في حقيقة الأمر على تلك العلاقة التي تتسم
بالتضخم والاستخفاف في آن واحد؛ تضخم الذات المعسكرة واستخفاف بأي مواطن مدني مهما
كان شأنه. فقد صادف في هذا الحادث المروع أن يكون طبيب بيطري عادي جارا لهذا
الضابط الذي يعد نفسه حاكما بأمره، الحاكم العسكري غير المعلن الذي يصدر الأحكام
على عموم الناس بالقتل والافناء وإهدار الدماء.
إن حالات قتل
وسحل وجلد للمواطنين من أفراد هذه الفئة لا تواجَه بأي إجراءات من جانب هذه المنظومة
المعسكرة لوقف هذه المهازل وتلك الأحداث البشعة، وفيما يبدو أنه يتم صرف المعتدين
من النيابة العسكرية في اليوم التالي للحادث، ويدل على ذلك تكرار هذه الحوادث
وزيادة وتيرتها بدون مبرر، في ظل حالات الغرور والانتفاخ التي أصابت أعضاء هذه
العصبة. وهو سلوك تعرف وزارة الداخلية مصيره جيدا، ولذلك سارعت بإعلان نفي أن يكون
الضابط الذي ارتكب حادث مدينتي من منتسبيها. من جانب آخر يكشف هذا السلوك عن هيمنة
المؤسسة العسكرية على كافة المؤسسات، وهنا وزارة الداخلية تنفي صلتها بالحادث
برمته، فهي تؤكد من خلال هذا البيان أنه ليس لها أي علاقة من قريب أو بعيد في هذا
الحادث سواء في هذه المرحلة أو في أي مرحلة لاحقة.
إن التفكير في
هذا الحادث وتفاصيله المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي ينبئ عن مصائب جد خطيرة،
خاصة وأن سياق الحادث معبر فهو قد وقع في مدينتي (مدينة الأثرياء) لصاحبها "هشام
طلعت مصطفى" الذي
أفرجت عنه منظومة الثالث من يوليو بعد إدانته في حادث قتل عمد،
بل لم تقف عند ذلك، بل أفرجت عمن ساعده في القتل وارتكاب الجريمة. فهكذا بات ديدن
هذه المنظومة؛ من يقتل منها أو من يتعاونون معها لا عقاب له وهو مبرّأ اليوم أو
غدا.
هكذا تتضح معالم
الجمهورية الجديدة كل يوم؛ وتتكشف أبعادها، وموازين القوة فيها، فالعسكري المتضخم
المنتفخ لا يرى في مصر إلا نفسه ومؤسسته بما لديها من موازين قوة وعلاقات وسيطرة
ونفوذ، تتيح له أن يفعل ما يشاء بأي أحد. فحادث "مدينتي" يتشابه مع
الحوادث السابقة، اختلافات في الأحوال العادية لا تستدعي الاعتذار من تفاهتها،
ويحدث مثلها ملايين الحوادث في مصر يوميا ولكن أحدا لا يهتم بها أو يتوقف عندها
طالما ليس أحد أطرافها ضابط في القوات المسلحة سواء طبيب أو مهندس أو أركان حرب
مقاتل. ومع تواتر ذلك فإننا يمكن أن نتوقع أحداثا أخطر قد تقع في ظل هذه "الشرعية
المسلحة"، والتي كانت ضمن خطاب أحد الضباط في افتتاح أحد الأعوام الدراسية في
مدرسة ابتدائية.
الأمر شديد الخطورة على تركيبة المجتمع وعلى علاقاته وعلى إدراكاته ومنظومات معاييره وقيمه والتي تشكل هذه الفئة وتلك الطبقة، طبقة عنصرية وحالة تعصبية، وعصابة ترتكب من الأفعال فلا تُسأل أو تعاقَب أو تحاسَب. هذا هو جوهر القضية الذي يعبر عن اختلال أساسي في شأن العلاقات وتركيبتها النفسية والمجتمعية والطبقية والعنصرية، التي يمكن أن تسمم المجتمع بأسره فلم تكن تلك العسكرة في حقيقتها إلا تسميما لعلاقات المجتمع بأسره، وتأكيدا على أخطر ما أصاب هذا المجتمع بعد انقلاب عسكري
هذا الأمر شديد
الخطورة على تركيبة المجتمع وعلى علاقاته وعلى إدراكاته ومنظومات معاييره وقيمه
والتي تشكل هذه الفئة وتلك الطبقة، طبقة عنصرية وحالة تعصبية، وعصابة ترتكب من
الأفعال فلا تُسأل أو تعاقَب أو تحاسَب. هذا هو جوهر القضية الذي يعبر عن اختلال
أساسي في شأن العلاقات وتركيبتها النفسية والمجتمعية والطبقية والعنصرية، التي
يمكن أن تسمم المجتمع بأسره فلم تكن تلك
العسكرة في حقيقتها إلا تسميما لعلاقات
المجتمع بأسره، وتأكيدا على أخطر ما أصاب هذا المجتمع بعد انقلاب عسكري وتمدد اقتصادي
وفي جملة حياة المجتمع، فصار هؤلاء يمثلون هذه العصابة التي أرادت أن تجعل لنفسها
نظاما يحكم ويتحكم، يهيمن ويسيطر، يعتقل ويقتل، بلا حساب. ولعل ذلك يذكرنا بأن ما
حدث من هذه العصبة إبان ما أسمي -آنذاك بعد الانقلاب العسكري- بفض اعتصامي رابعة
والنهضة؛ إنما يشكل بداية حقيقة في هذا التضخم المعسكر واستخدام بطش القوة المفرط،
والاستخفاف بنفوس الناس، وإراقة الدماء.
إن هذا شكّل مع
تلك التراكمات التي تتقاطع مع حادث آخر، بقيام أحد الضباط خلال زيارته لأحد
المستشفيات
بعقاب إحدى الممرضات التي رأى أنها خالفت أمره ولم تدخل في طاعته وتحت
سقف عبوديته فاستخدم كرباجا ليعاقبها به، رمزيات خطيرة في شأن المجتمع نستحضر فيها
مقولة الحرية لسيدنا عمر بن الخطاب: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم
أحرارا".. إنها إشكالية الأمة المصرية والوطن المصري، وليست إشكالية مواطن
عابر ولا حادثة فردية من فئة متعسكرة نعمم من خلالها، وإنما هي أمور تراكمت مع
الزمن واستجدت معها أنماطا من السلوك والإدراكات أحدثت تشوها خطيرا في ميزان القيم
في المجتمع وميزان علاقاته؛ حينما يُعسكر المجتمع والدولة في الجمهورية الجديدة المزعومة.
twitter.com/Saif_abdelfatah