يتراوح واقع النظام الدولي بين مفهومين يشكلان مصدرا أساسيا لتفسير العديد
من قضايا العالم وتحدياته، هما:
المصلحة الوطنية وسعي الدول إلى التمسك بها والعمل
على إدراكها، والمشترك الإنساني، الذي ما زال أفقا تَتداولُه الخطابات وتدعو إليه،
وتتطلع البشرية إلى الانتقال إليه، وتعميم ثماره وفوائده. والحقيقة أن ما يجري في العالم
ويعقّد علاقات مكوناته، أن الكفّة راجحة للمصلحة منها إلى المشترك الإنساني، وإذا توخينا
الدقة، نُشدد على أن الميزان مائل إلى مصلحة الدول القوية، المستحكمة في مصادر
صُنع القرار على الصعيد الدولي.
يُؤكد النظام الدولي، بحسبه حصيلة تطور تاريخي طويل، على أن الأصل في تشكل المنتظم
الدولي، الذي بدا أوروبيا قبل أن ينتقل إلى العالمية مع الحرب الكونية الأولى، أسس
على قاعدة توافق بين مصالح الأمم الأوروبية الكبرى، التي رأت في الهُدنة والجنوح
إلى السلم مخرجا فعّالا لترشيد حروبها الدائمة، وبناء علاقات مبنية على مصلحة
الأوطان التي تشكلت أو بدأت في التشكل مع نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن
السابع عشر، وهو ما كرسته تاريخيا معاهدة "وستفاليا" لعام 1648، والتي
لعبت اجتهادات وأفكار أبي القانون الدولي وقتئذ "هوغو غروتيوس" (1583-1645)،
دورا مركزيا في وضع المبادئ والقواعد الأساسية للنظام الدولي الجديد.
التمسك المفرط بالمصلحة الوطنية، ظل ضاغطا على النظام الدولي منذ تأسيسه وحتى الحرب الكونية الأولى، ولم يكن متوفرا ولا جائزا الحديث عن المشترك الإنساني. فالنظام المؤسس على فلسفة معاهدة وستفاليا دفع بالدول إلى الرفع من قيمة السيادة والمصالحة، وكل ما له صلة بالكيانات القُطرية، وقد تزامن ذلك مع حركة إعادة بناء الأوطان في أوروبا، وتعزيز مقوماتها السياسية والمؤسساتية
وفي المقابل، لم يكن مطروحا ما أصبح يسمى لاحقا "المشترك الإنساني"،
أي ما يجمع البشرية جمعاء ويعبر عن مصالحها المشتركة. وقد مرّ زمن طويل كي تعي الدول
أن الدفاع عن المصلحة الوطنية، وإن كان بالغ الأهمية، إلا أن التوازن يقتضي التوفيق
بين هذا المسعى وعدم الإضرار بما هو مشترك، لأن الإنسانية تتقوى أكثر، وتحافظ على ديمومة
تماسكها، بما يحقق النفع العام للبشرية كاملة.
يجب التذكير بأن التمسك المفرط بالمصلحة الوطنية، ظل ضاغطا على النظام
الدولي منذ تأسيسه وحتى الحرب الكونية الأولى، ولم يكن متوفرا ولا جائزا الحديث عن
المشترك الإنساني. فالنظام المؤسس على فلسفة معاهدة وستفاليا دفع بالدول إلى الرفع
من قيمة السيادة والمصالحة، وكل ما له صلة بالكيانات القُطرية، وقد تزامن ذلك مع
حركة إعادة بناء الأوطان في أوروبا، وتعزيز مقوماتها السياسية والمؤسساتية. لذلك، ظل
النظام الدولي في ضوء هذا المنظور يروم التوازن والتوافق بين أطرافه، وغير هذا لم
يكن متاحا التعاطي معه أو الدعوة إليه.
والواقع، شجعت هذه النزعة الدولَ الأوروبية على بسط نفوذها على دول
ومجتمعات مغايرة لها في التطور التاريخي والحضاري، ومتباينة معها في ميزان القوة،
وهو ما وفّر بيئات الاستعمار والاستيطان والهيمنة على بلاد كثيرة، تحت طائلة أسباب
ومبررات عديدة. والأدهى أن أدبيات كثيرة اعتبرت "الاستعمار حقا" (droit a la colonisation) غير قابل
للنقاش أو الاعتراض، فتم باسم هذا "الحق" توزيع المستعمرات بين الدول
الأوروبية، كما توزع غنائم الحرب، تحت غطاء مؤتمرات واتفاقيات شهيرة، كما حصل في
مؤتمر برلين لعام 1884-1885 على سبيل المثال، حين قُسمت أفريقيا بين الدول
الأوروبية، أو خلال مؤتمر الجزيرة الخضراء لسنة 1906، الذي رتّب التنازلات ونظم الدخول
الرسمي للاستعمار إلى المغرب الأقصى، لا سيما بين فرنسا وإسبانيا.
فهكذا لم يكن مطروحا في القرون الأولى من تأسيس النظام الدولي فكرة
الاهتمام بالمشترك الإنساني، ولا التفكير أصلا في هذا المفهوم، وكان على البشرية
انتظار اندلاع الحرب الأولى، التي هي في الواقع حرب بين القوى الأوروبية المتصارعة
على مناطق النفوذ في العالم، وبداية بروز فكرة التعددية في أعقاب نجاح ثورة 1917،
والشروع في تشكل أقطاب دولية جديدة مختلفة أيديولوجيا وثقافيا عن أوروبا، وظهور مفهوم
الغرب بالمعنى السياسي، أي البلدان المعتمدة للفلسفة الليبرالية في حياتها الوطنية
وعلاقاتها الدولية، وهو ما تحقق واقعيا مع تأسيس الأمم المتحدة واعتماد نظام يالطا
(1945) موجها للعالم ومؤطرا لعلاقات وحداته، واشتغال مؤسساته الجماعية.
لم يستطع العالم، على الرغم من تعدد مصادر قوته، تكريس تعددية متوازنة، قادرة على التخفيف من ضغط مصالح القوى المتنفذة والقائدة للنظام الدولي، في اتجاه صياغة ثقافة جديدة توازن بين الوطني والمشترك الإنساني. فقد استمر العالم محكوما بقوى امتلكت وسائل السيطرة والهيمنة، وأجهزت على مُقدرات العالم، وخلقت نتيجة ذلك أوضاعا دولية موسومة بالفجوات الحضارية والثقافية، والاختلالات الاقتصادية والاجتماعية
لم يستطع العالم، على الرغم من تعدد مصادر قوته، تكريس تعددية متوازنة،
قادرة على التخفيف من ضغط مصالح القوى المتنفذة والقائدة للنظام الدولي، في اتجاه
صياغة ثقافة جديدة توازن بين الوطني والمشترك الإنساني. فقد استمر العالم محكوما بقوى
امتلكت وسائل السيطرة والهيمنة، وأجهزت على مُقدرات العالم، وخلقت نتيجة ذلك
أوضاعا دولية موسومة بالفجوات الحضارية والثقافية، والاختلالات الاقتصادية
والاجتماعية، وأصبح العالم بسبب هذه التفاوتات مُعرضا في أمنه واستقراره وسلامه.
والأهم لم تكن منظومة النظام الدولي معبرة عن حقيقة التعدد في العالم، كما لم تعد سياساتها
تحظى بالشرعية والقبول، على الرغم من كل الأموال التي صرفت والجهود التي بُذلت على
مدار أكثر من سبعة عُقود..
لم تجانب العديد من الأدبيات الدولية التي تكاثرت وانتشر صداها منذ سنوات،
الصواب حين شددت على ضرورة إعادة صياغة النظام الدولي على فلسفة جديدة، قوامها التعددية
والتركيز بالمشترك الإنساني، ونبذ الأنانيات والنزعات الفردية التي تُعمق الفجوات باسم
المصلحة الوطنية، واستغلال واقع القوة للاستزادة من استغلال الثروات المشتركة للإنسانية.
ربما يكون إصلاح نظام الأمم المتحدة ومنظومتها مدخلا بالغ الأهمية لخلق
توازن بناء بين تغول السيادة والمصلحة الوطنية على المشترك الإنساني ومتطلباته.
بيد أن هذا الإصلاح الذي تمت الدعوة إليه منذ سنوات، وما زال يترنح ويراوح مكانه، يحتاج
إلى إرادة حقيقية لقبول فكرة التغيير، التي تعني أولا وأخيرا قبول التعدد والاختلاف،
والتوافق، والصدق في إيلاء قيمة المشترك الإنساني والبحث عن الصيغ الممكنة
لتحقيقه.