من
جميل ما ورد في تراثنا الإسلامي ما أورده الإمام الماوردي في كتابه "أدب
الدنيا والدين"، معنوناً هذه الفصلة التي كتبها "ما تصلح به حال
الدنيا" فيؤكد في مفتتحها "اعلم أن ما تصلح به الدنيا حتى تصير أحوالها
منتظمة، ستة أشياء أو أمور، هي: دين متبع، وسلطان قاهر (حازم)، وعدل شامل، وأمن
عام، وخصب دائم، وأمل فسيح". وتبدو لنا أن الأمور الستة واضحة لدى الكثيرين،
لكنه من جميل ما أشار إليه أن نتوقف عند الركن السادس؛ الذي يتعلق بالأمل الفسيح.
ويؤكد
الإمام الماوردي في عبارة بليغة المعنى كثيفة المغزى عن ذلك الأمل الفسيح:
"فإنه يبعث على اقتناء ما يقصر العصر عن استيطابه، ويبعث على اقتناء ما ليس
يؤمل في دركه بحياة أربابه. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الأمل
رحمة من الله لأمتي، ولولاه ما غرس غارس شجراً، ولا أرضعت أم ولداً"، وينقل
قول الشاعر في هذا المعنى:
وللنفوس
وإن كانـت على وَجَـل ٍ مـــن المَنيّـة آمــال تُقـوّيـهـــا
فالصبر
يبسطها والدهر يقبضها والنفس تنشرها والموت يطويها
ويُفرِّق
الماوردي بين الآمال والأماني؛ فالأمل الصادق محفوف بالوعي والسعي ومقترن بالعمل
والاجتهاد، والآمال على حد قول الإمام الماوردي "ما تقيّدت بأسباب، والأماني
ما تجرّدت عنها، أي أن الأمل يتعلق بتحصيل شيء يمكن حصوله، أما الأمنية فهي رجاء
وتمنّ لشيء من الصعب أو المحال تحقيقه". ومن ثم فإن المزج بين الأمل والعمل
والسعي الفعّال والإشارة لمعاني الأماني إلى الزيف والوهم، والعجز والفشل، يعبر عن
الفارق الجوهري والأساسي بين الأمل والأمنية: "لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ
وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ" (النساء:
123).
شتّان بين هذا الذي يُمَنِّي قومه بالأماني وذاك الذي يعد بالأمل المقترن بالعمل، فيعد ويوفي ويقدم كل ما من شأنه أن يصلح حياة البلاد والعباد، ويتعهد دائما قائلا: "سنسخّر كل وقتنا وطاقتنا للعمل وإنجاز المشاريع وتقديم الخدمات"، ليؤكد أن الوعود التي يطلقها ليست استهلاكاً أو تلاعباً بعقول الناس، ولكن ما تلبث أن تتحول إلى حقائق تؤكد على تحقيق المصالح المعتبرة لكل مواطن
صدّرنا
هذا المقال بمناسبة
الانتخابات التركية ونتائجها؛ وفق عنوان تخيّرناه يفرّق بين
أمل حقيقي يفسح الدنيا، ويُحَقَق بالعمل والاجتهاد؛ هذا الأمل وفق سنن الله
القاضية والحاكمة لفعل الإنسان، إن فعل خيراً وإن فعل شراً، أما الأماني فهي نوع
من التمنّي الكاذب والوهم الضارب في عقول الناس، فلا يكون إلا أضغاث أحلام، ومحض
أوهام.
ومن
هنا فإننا نجري تلك المقارنة على هدي تلك الأقوال، وعلى هدي القرآن الكريم الذي يقطع
الطريق على هؤلاء الذين يُمنّون الناس بالأماني "
مصر.. هتبقى قد الدنيا..
هتبقى كده"، فلا يرى الناس إلا مزيداً من ضيق الحال، وركام مشقة تنقطع بسببها
الآمال، ويسود الإحباط، فتبدو الحياة "مَعِيشَةً ضَنكاً" (طه: 124).
وشتّان
بين هذا الذي يُمَنِّي قومه بالأماني وذاك الذي يعد بالأمل المقترن بالعمل، فيعد
ويوفي ويقدم كل ما من شأنه أن يصلح حياة البلاد والعباد، ويتعهد دائما قائلا:
"سنسخّر كل وقتنا وطاقتنا للعمل وإنجاز المشاريع وتقديم الخدمات"، ليؤكد أن الوعود التي يطلقها ليست استهلاكاً
أو تلاعباً بعقول الناس، ولكن ما تلبث أن تتحول إلى حقائق تؤكد على تحقيق المصالح
المعتبرة لكل مواطن تضرر أو تأذّى في محاولة للنهوض بالوطن والمواطن.
ومن
ثم يمكننا المقارنة بين عدة مشاهد تبين الفارق الجوهري بين جمهورية الأماني
الزائفة، والمئوية القادمة المحفوفة بوعود صادقة.
ونبدأ
بمشهد الانقلاب، ففي حين أن المسؤول في جمهورية الأماني جاء إلى السلطة عبر
انقلاب ثبّت أركانه بأكبر مذبحة في تاريخ مصر الحديث، فإن من يبشّر بالمئوية
القادمة للجمهورية التركية يرسّخ
الديمقراطية ويحميها ويدافع عنها ويواجه
الانقلابات العسكرية ويقضي عليها في المهد بدعم شعبي واسع النطاق، وهو ما كرّس
مشهداً تاريخياً في انتخابات
تركيا الأخيرة وهو
مشهد الانتخابات. وقد تملّكنا
في هذا المشهد الإعجاب بتجربة ديمقراطية راسخة تفوق ديمقراطيات غربية من حيث المشاركة
(87 في المئة في الجولة الأولى، 84 في المئة في الجولة الثانية) والوعي والتنظيم
والإجراءات والمناخ الديمقراطي، فالانتخابات عملية أوسع من الصندوق، إضافة إلى
مشاركة المعارضة سواء في الجولة الأولى أو الجولة الثانية من الانتخابات، وكيف
جاءت مشاركتها في مناخ من النِديّة والمنافسة التي وصلت إلى أن يخوض رئيس
الجمهورية جولة الإعادة بسبب 0.5% في المئة.
في
المقابل، شاهدنا مشهدين للانتخابات في مصر الأول عام 2014، وعام 2018. وقد كان
مشهد 2018 لافتاً سواء من حيث المشاركة في الانتخابات بعزوف المواطنين عن
المشاركة، أو بتهديدات
السيسي قبل إجراء الانتخابات لمن يفكر في خوضها أمامه بأنه
"هيشيله من فوق وش الأرض شيل"، وقد تعرّض كل من فكّر في منافسته في
الانتخابات للاعتقال أو الإقامة الجبرية.
كانت الانتخابات ساحة ومساحة لاستعراضها، وكيف ساهمت الإنجازات الحقيقية في استمرار من يبشّر بالمئوية في منصبه، خاصة وأنها حقيقية ومعبّرة عن الناس ولصالحهم وتقوم بها شركات مدنية محترفة، وهي بعيدة عن "بيزنس العسكر في مصر"
أما
عن
المشهد الثالث فلم يكن بعيداً عن المشهدين السابقين أيضا، وهو يتعلق بالإنجازات؛
حيث كانت الانتخابات ساحة ومساحة لاستعراضها، وكيف ساهمت الإنجازات الحقيقية في
استمرار من يبشّر بالمئوية في منصبه، خاصة وأنها حقيقية ومعبّرة عن الناس ولصالحهم
وتقوم بها شركات مدنية محترفة، وهي بعيدة عن "بيزنس العسكر في مصر" -رغم
أن الجيش التركي ثاني أقوى جيوش حلف الناتو- فالمؤكد أنها إنجازات حقيقية بعيدة عن
"السبوبة"، ولها انعكاساتها الإيجابية بانسيابية داخل البلاد، ويشعر بها
العباد لأنها تعبّر عنهم وتحقق مصالحهم، في مقابل إنجازات الشو والروح المعنوية
وسبوبة السرقات وغياب دراسات الجدوى.
أما
المشهد
قبل الأخير الذي نود أن نشير إليه فهو مشهد الانتصار، فمن يذكّر بالمئوية
الجديدة في تركيا لم يعتبر المعارضين خصوما أو أعداء، ولكن جزءا من الوطن، وأن
انتصاره في الانتخابات انتصار لكل تركيا وانتصار للخبرة الديمقراطية.
في
مقابل ذلك، لا يزال السيسي يعتبر نفسه قد انتصر على أهل الشر وجنّد المتحدثين باسم
الدين ليسوّغوا له قتله بعض مواطنيه وسجنهم وسرقة أموالهم "اضرب في المليان..
دول ناس نتنة ريحتهم وحشة"، بل وصل به الأمر إلى اعتبار كل من يرفض سياسته
بأنه يمثل خطراً عليه، واعتبره عدواً له وللدولة المصرية؛ فلا يرى أن هناك مسافة
بينه وبين الدولة، فكل من يتفوه أو يتكلم بأي كلمة لا يرغبها النظام مصيره وراء
الأسوار وفي السجون ما بين الاختفاء القسري، أو التدوير، أو القتل البطيء من خلال
الإهمال الطبي؛ أو التعذيب الممنهج كمسلك اختطه نظام الثالث من يوليو.
المشهد
الأخير هو مشهد الأمل الفسيح مقارناً بالأمل الكاذب، فنجاح المفتتِح للمئوية وحزبه
في الانتخابات الديمقراطية وحصوله على مباركة معارضيه ومنافسيه قبل أنصاره؛ يؤكد
على حالة الاستقرار المقبلة عليها تركيا، وما يترتب على ذلك من استكمال ملفاتها في
السياسة الداخلية والخارجية، بسياساته القائمة على الإنجازات الحقيقية، والتمثيل
الحقيقي للمواطنين، والتعبير عن آمالهم وطموحاتهم، ورفضه للاقتراض وتأكيده على أنه
لن يذهب لصندوق النقد الدولي وأنه سيعمل على مواجهة الأزمة الاقتصادية من خلال
موارد البلاد وإمكاناتها المادية والبشرية، بما فيها من إصراره على التنقيب عن
النفط والغاز، والتسليح والتطوير بشركات محلية مما يحفظ عوائد ومدخرات البلاد
كاملة لأبنائها.
الوضع الحالي تلخصه المشاركة الجادة التي تعبر عن مفهوم المواطنة الحقيقية، وتعبر عن الاحترام المتبادل بين السلطة والمواطنين، وتحترم العملية الانتخابية فتشارك بكثافة وبنسبة لا مثيل لها في الانتخابات في دول العالم، وتحترم الأصوات فتضع من القواعد والإجراءات التي تضمن لها التعبير الحقيقي عن تصويتها وخياراتها السياسية والوطنية، في مقابل حالة الخوف والقلق والتوتر من مجرد التفكير في الانتخابات الرئاسية القادمة؛ التي تعرض أول من فكّر في الترشح لها إلى المحاصرة واعتقال أصدقائه وأقاربه
وهذا في
مقابل التوسع في سياسة الاقتراض والتفريط في مقدرات مصر، ومصادرة ليس فقط إمكانات
ومقدرات البلاد الحالية، بل ومستقبل أجيالها القادمة في ظل إيمان السيسي بأن
الاقتراض بات هو الأساس، لتمويل مشاريع وهمية و"فنكوشية" بدون دراسات
جدوى؛ من مثل أكبر وأعرض وأثقل، بدون أي عائد مادي أو حقيقي على الوطن والمواطنين،
وتوريط البلاد والعباد في قروض وصفقات سلاح ورشاوى يشتري بها شرعية دولية لنظامه
المستبد الطاغي، مفتقداً جوهر الشرعية في الداخل في ظل تعلق الأمر بالرضا الذي تحوّل
إلى عمليات تخويف وترويع وإفقار وتجويع.
إن
الوضع الحالي تلخصه المشاركة الجادة التي تعبر عن مفهوم المواطنة الحقيقية، وتعبر
عن الاحترام المتبادل بين السلطة والمواطنين، وتحترم العملية الانتخابية فتشارك
بكثافة وبنسبة لا مثيل لها في الانتخابات في دول العالم، وتحترم الأصوات فتضع من
القواعد والإجراءات التي تضمن لها التعبير الحقيقي عن تصويتها وخياراتها السياسية
والوطنية، في مقابل حالة الخوف والقلق والتوتر من مجرد التفكير في الانتخابات
الرئاسية القادمة؛ التي تعرض أول من فكّر في الترشح لها إلى المحاصرة واعتقال
أصدقائه وأقاربه لإجباره على تغيير رأيه وموقفه، والتراجع عن المشاركة في
الانتخابات المقبلة.
وفي
الختام، ليست تلك المشاهد التي ذكرنا هي فقط التي تحمل تناقضاً بين جمهورية جديدة
زائفة في مصر، ومئوية تركية قادمة تستشرف صناعة المستقبل بين الأماني الزائفة،
والأمل المشفوع بالعمل؛ هذه هي قضيتنا الأساسية التي توضّح أين الشعوب، وأين الوطن
والمواطن وفي مصائر ومسار الدول وفي تقدمها ونهوضها، فالاستبداد يأكل كل تنمية،
ويزرع كل خوف، أما الانتخابات الحقيقية والديمقراطية الراسخة في جوهرها فهي التي
تضمن تنمية حقيقة في مصلحة شعب بأسره؛ لا ترتبط بفئة تستقوي على وطنها ومواطنيها
بالسلاح وتقطع الطريق على كل عمل ديمقراطي.
twitter.com/Saif_abdelfatah