(وقفة نظام)
اضطررت لإلغاء مشاركة المقال
السابق بعد دقائق من نشره على "فيسبوك"، ووصلتني رسائل كثيرة تستفسر
وتطمئن: لماذا حذفت المقال؟ هل وصلتك تهديدات من الأمن؟ هل أنت بخير؟..
شعرت بعدم رغبة في استكمال
المقالات، ودخلت في حالة من التفكير القلق عن جدوى
الكتابة تحت تأثير مشكلة
التلقي، وكنت قد بدأت المقال السابق بتوضيح هادئ انطلاقا من رسالة صديق قديم
سألني: تفتكر الموضوع يستاهل الاهتمام والمناقشة الجادة؟
عن نفسي لا أمانع من مناقشة
كل القضايا، صغيرها وكبيرها، ولا أنظر لقضايا حياتنا نظرة حدية: هذه قضية تافهة
وهذه قضية عظيمة، لأنني أعتبر أن المعالجة أهم من القضية، فطريقة التناول السيئ لقضية
مهمة تؤدي إلى نتائج تافهة وضارة، والمعالجة الجيدة لقضية صغيرة تدربنا على منهج
الدقة والإتقان. وأنا مسحور منذ صباي بحديث الرسول العظيم الذي يقول فيه "إن الله
يحب إذا عمل أحدكم عملاً، أن يتقنه"، وما أجمل أن يهتم المرء بما يحبه الله
الذي يقول في كتابه العزيز: "إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا"، وكنت أقول
لنفسي متحريا الحسن والإتقان: هذا يعني أن الله العادل قد يضيع أجر من عمل عملا
بغير إتقان وإحسان، وهو المنهج الذي انتظمت عليه حياتي في كل شيء..
المشكلة أن الإتقان في الغالب
لا يحوز شعبية، فالسلع الرائجة في مراحل "الكيتش" تتميز برخص الخامات
وسهولة التصنيع، لذلك فإن القابض على إتقانه في زمن السوق يضع نفسه في حالة القابض
على الجمر، ومن هذه المعضلة تهاجمني الحيرة ويعاودني قلق التفكير: هل نساير
الجمهور الغفير بحثا عن انتشار وشهرة ودفء الحشود؟ أم نسلك الدروب الموحشة فننعزل
وتنعزل أفكارنا عن الناس؟
كنت قد كتبت منذ سنوات مقالا
بعنوان "يا أستاذ.. مقالك تافه" لمناقشة تأثير تعليقات القراء على رسالة
المقال أو الخبر المنشور، وعرض المقال لنتائج دراسة أنجزها فريق من طلاب الاتصال
في إحدى الجامعات الأمريكية تحت إشراف اثنين من الأساتذة، وأكدت الدراسة خطر إساءة
التعليقات للمواد المنشورة، والخطورة الأكبر لا تصيب الكاتب أو المنصة الإعلامية،
لكنها تصيب رسالة التوصيل والنقاش نفسها.. أي تصيب عملية التحول الديمقراطي التي تدرب
العقول على مناقشة كل شيء في حياتنا، حتى لا تظل الأغلبية منقسمة على نفسها وموزعة
حسب تبني كل جماعة وفئة لأحكام قاطعة مسبقة لا ترتاح للمرافعات والنقاش، تشبه
أحكام ناجي شحاتة وشيرين وقضاة حبس الشباب بقرارات مطبوعة سلفا يسميها سجناء الرأي
في مصر على سبيل السخرية "تجديد الباقة"..
(موت الكاتب)
أوضحت في مقالي السابق أنني منهك
بدنيا وذهنيا، وأعاني من أعراض صعبة، فما الذي يضطرني لمعاناة الكتابة برغم المرض؟
ولمزيد من التوضيح أعود في هذا المقال لنفس النقطة: لماذا نكتب؟ ولماذا نتكلم؟
ولماذا نتناقش؟ ويمكننا أن نختلف في دوافع وأسلوب الكتابة والكلام والنقاش، حتى لا
يأتي يوم نصاب فيه بالخرس الشعبي (الديمقراطي) ونسأل بعضنا البعض: لماذا لم نعد
نكتب؟ ولماذا لم نعد نتكلم؟ ولماذا لم نعد نتناقش؟
على كل حال المخرج خالد يوسف
أو السيسي أو الشيخ ديدات أو بايدن أو شيرين عبد الوهاب.. أو الكلب الذي يهز ذيله..
إلخ، ليسوا القضية، لكنهم ذريعة الكلام.. ورقة "زهرة الشمس" التي تكشف
عن أفكارنا نحن، ومواقفنا نحن.
من هذا لا أنظر إلى مواضيع
الكتابة باعتبارها مدنسة أو مقدسة، فالله العظيم في كتبه الحكيم ذكر الطغاة
والفاسدين والكافرين كما ذكر المؤمنين والمحسنين، وتتبقى مشكلة التلقي لتظهر لنا
ثقافة وموقف القارئ أكثر مما تظهر ثقافة وموقف الكاتب. فالكاتب الفرد مات، كما قال
رولان بارت وغيره، لأننا لن نجد نصا ينتجه كاتب فيصل على جميع القراء بنفس
المعاني، لأن تأويل النص يتعدد ربما بعدد القراء، فيتشظى المقال في نسخ بعدد
القراء، فالنص هو مجموع ما كتبه الكاتب وما أضاف إليه كل قارئ من تفسير ورغبة في
تعميم تفسيره لتجنيد آخرين، فيتحول القارئ من خلال تعليقه على كاتب فرعي، وهكذا
دواليك..
ومن هذا الكشف تبدأ عندي
مشاعر القلق على المستقبل، وتطاردني أسئلة الهدف الباقي للكتابة، فأنا ممن يحترمون
قول "ألتوسير" بعدم وجود "قراءة بريئة" لأي نص، فالقارئ يلوّن
النص بما لديه من مواقف مسبقة وأغراض فكرية أو ذاتية، وهذا ليس عيبا، لكنه مشاركة
مطلوبة في إنتاج النص وتحديد مساحته النافعة أو الضارة في الحياة، وهذا يعيدنا إلى
قضية الإخلاص والإتقان ومسؤولية الرأي الذي تقوله أو التعليق الذي تكتبه، فقد
منحتك "خانة التعليق في زمن الاتصال المفرط" صفة "كاتب" ولم
تعد مجرد قارئ بلا تأثير في المجال العام..
لهذا فإن شراكة الكاتب والقارئ
صارت ضرورية أكثر من أي عصر مضى، لكنها ليست "شراكة إذعان" بل علاقة
تبادلية تقوم على التفاهم والتعاون والاحترام في فضاء ديمقراطي حر، والشراكة
الجيدة يجب أن تبتعد عن أهداف العصابات، والاتفاق الجنائي، والمسايرة بغير نقاش..
يجب أن نستفسر ونهتم ونمارس الخلاف
بجدارة وتقدير للكاتب وموضوع كتابته، وكذلك يفعل الكاتب للتعليقات التي ترتبط
بموضوع الكتابة ولا تنحرف به إلى مواقف مغلقة، وأحيانا إعلانات وطلب تبرعات وتسويق
بضاعة لم يتطرق لها المقال. وهذا التحديد ليس حجبا لرأي ولا تقييد لحرية النقاش،
لكنه نوع من التركيز في رسالة الكتابة واتجاهها: ماذا نريد لحياتنا المنشودة؟ ماذا
نريد أن نأخذ وماذا نريد أن نترك لنتجه نحو المستقبل المرغوب دون إهدار للمطلوب
وحمولات غير نافعة تعطل المسيرة؟ وقديما قال أهل البلاغة: لكل مقام مقال.
(عودة إلى الكلب وذيله)
التعليق الذي أدى لحذف
المقال، هو الذيل الذي استطاع أن يهز الكلب، والحكاية بدأت في مسرحية هزلية تشبه شخصية
"عبد الرحيم كبير الرحيمية": أمريكي ريفي خشن يسافر إلى إنجلترا
للمطالبة بميراثه من عائلة أرستقراطية منها "اللورد دندرديري"، وهو رجل
سطحي جاهل بمظهر غريب، يتشدق بلغة فارغة فخمة الألفاظ، وأفكار مثيرة لكنها تافهة
المحتوى، وفي أحد المشاهد يتساءل دندرديري:
لماذا يهز الكلب ذيله؟
سؤال غريب ومفاجئ أدى إلى
عاصفة من الإجابات داخل المسرح وخارجه، وانتهى إلى تشكيل مصطلح سياسي ولد بسبب
اغتيال أبراهام لينكولن، واستمر في محاولة أنصار ترامب احتلال الكونجرس، وتأثير
الدور الأمريكي في الحرب الأوكرانية، وسوف يدوم المصطلح ما دامت على الأرض أقلية
وأغلبية، وما دام للكلب ذيل..
بدأ المصطلح بسؤال عبثي يسأله
اللورد دندريري في مسرحية "ابن عمنا الأمريكي" لتوم تايلور:
دان.. لماذا يهز الكلب ذيله؟
يرد دان: لأن الذيل لا يستطيع
هز الكلب ها.. ها.. ها.
انتشرت النكتة بين الجمهور
وتعددت الإجابات على السؤال، حتى صارت نكتة شعبية، حتى استخدمها كاتب محلي في
صحيفة بالتيمور لكتابة مقال عن محاولة انقلاب داخلي في الحزب الديمقراطي، واستخدم
تعبير أن الذيل يحاول هز الكلب في إشارة لمحاولة سيطرة الأقلية على الحزب، وتكورت
النكتة على مصطلح سياسي طوال أكثر من قرن حتى ظهرت في فيلم بعنوان "يهز
الكلب" (Wag the Dog).
وتطابق الفيلم مع فضيحة
كلينتون الجنسية، برغم أن التحضير للفيلم بدأ قبل الفضيحة معتمدا على رواية بعنوان
"البطل الأمريكي" يهاجم فيها الكاتب لاري بينهارت سياسة بوش الأب
وافتعاله لحرب الكويت من أجل دعم حظوظه للبقاء في البيت الأبيض فترة ثانية، ولما
ذاعت فضيحة مونيكا، التصق الفيلم بها لدرجة أن النقاد كتبوا أن "الحياة تقلد
الفن"، و"الواقع يتبع الخيال".
ونجح الفيلم الذي أخرجه باري
ليفنسون في تكريس المصطلح السياسي وتحديد مفهومه بأن "قوة صغيرة" تستطيع
التأثير وحكم "قوة كبيرة" لأنها أذكى وأكثر تحكما في الأدوات من الغالبية،
وهذا ما يفعله الإعلام والإنتاج التليفزيوني والسينمائي والأوليجارشيات الحاكمة
التي تهيمن على ملايين الناس وتصوغ أفكارهم وتصوراتهم بتعميم خيال كاذب؛ يسمونه
الواقع أو التاريخ أو الحقيقة، في الوقت الذي يستخدمون فيه هذه الاختراعات
المكذوبة للتعمية على مشاكل وأزمات بطريقة إلقاء القطط الميتة على مائدة الجمهور،
فينسى قضايا الساعة وينشغل بأسئلة القطة الميتة.
وهكذا تعتقل السلطات الحاكمة
الواقع وتحبس الحقيقة وتقدم واقعا جديدا مصنوعا؛ هو بتعبير نيتشة خليط من الأكاذيب
الملفقة مع مكسبات طعم وألوان صناعية توحي للناس بأن هذا الخليط الكيميائي هو عصير
مانجو طبيعي.. وهذه الأكاذيب هي الواقع الذي يضحّون من أجله ويدفعون الضرائب
لحماية حياتهم، بينما هم يدفعون الإتاوات ليسرقها الملفقون الكاذبون.. "الذيول"
الذين استطاعوا هز الكيان الأكبر والتحم فيه..
(قانون الحظيرة)
أعجبني تقرير نشرته
"عربي21" بعنوان: حرب وضرب نار.. ملاحم عسكرية لم يشاهدها أحد"،
لكنني توقفت أمام كلمة "ملاحم"، فالمعروف أن الملحمة هي سيرة طويلة
تحتشد بالأبطال والحروب والتضحيات وقصص الكفاح من أجل الجموع، لكن الحرب التي
عالجتها
الدراما المقصودة في التقرير، ليست أكثر من "حرب برين/ موتس" أي
تمثيلية يتم تصنيعها لتقديمها كصورة للجمهور، عن طريق الشراكة بين الخبير السياسي
"كونراد برين" مساعد الرئيس، والمنتج المريب "ستانلي موتز"، الذي
جسّده "داستين هوفمان" من خلال استعارة شكل ومسيرة منتج واقعي في
هوليوود، تم اتهامه بالقتل واعترافه بتعاطي وتجارة الكوكايين، كأنه يؤكد من خارج
السيناريو أن نوعية المنتجين الذين يشاركون في جريمة تلفيق الواقع والتاريخ لا بد
وأن يكونوا فاسدين وأقرب إلى رجال عصابات يتورطون في الجنس والمخدرات والأكاذيب ويربحون
من ذلك الكثير، يجنون الشهرة والثروة ويصعدون من المجهول إلى النور في ظروف مريبة
وغريبة تذكرنا بحالات من نوع محمد فودة ومحمد الأمين وغيرهم كثيرين. وليس مفاجئا أن
تنتهي حياة هؤلاء بفضيحة، أو انزواء، أو قتل مجهول (كما حدث لستانلي موتس في نهاية
الفيلم)، فأوراق التواليت التي تستخدمها السلطة ليست آمنة ومضمونة البقاء.
فالأسلم أن يتم التخلص منها
بمجرد الاستخدام، ومن لا يصلح للاستخدام ينتظر الإعدام.. هذا هو "قانون
الحظيرة" وعلى الجميع أن يتذكره، خاصة المعارضة الليّنة التي تتذرع بالبراجماتية
أو الحوار مع الدولة أو ممارسة العمل الديمقراطي في الهامش الذي تسمح به الدولة،
فيدخلون حظيرتها، بحثا عن فرصة عمل أو أمل، فيصيرون بمزاجهم أو رغما عنهم جزءا من
الذيل الصغير الذي يتحكم في الكيان الكبير، ولا شك أن اللعبة مغرية ومثمرة، لكن
نهاية ستانلي موتس تصلح كتذكير بالمصير، واللعبة مستمرة.
قد نكمل في تشريح مصنع
الأكاذيب، وقد يضطرنا "ذيل الكلب" للحديث عن قططه الميتة وحروبه الجديدة
ضد "الإرهاب الألباني" كما شاهدنا في الفيلم الفاضح.
[email protected]