لقد لاحظ الجميع الاستدعاء الدال والهادف
للتاريخ في الحرب الحالية بين روسيا وأوكرانيا. استدعاء لافت ومثير ظهر جليا في
التصريحات والتصريحات المضادة من قبل قياديي المعسكرين. لافروف وزير خارجية روسيا
استعان بشكل ملحوظ بعدد من القراءات للتاريخ الحديث، عندما تناول مسألة الصراع في
أوروبا متحدثا عن فترة نابوليون ثم هتلر.
هناك كتاب مهم للمؤرخ للبريطاني ألان جون
تايلر، عنوانه "الصراع من أجل السيادة على أروبا" كترجمة لكتابه
بالانجليزية " the struggle for the
mastery in Europe "، صدر سنة 1954، والذي يتحدث فيه عن الصراعات
خلال القرن 19 إلى إنتهاء الحرب العالمية الأولى سنة 1918، بين الإمبراطوريات الأوروبية، الروسية،
الفرنسية، البريطانية، العثمانية، وباقي الدول العظمى حينها في أوروبا، التي كانت
تحكمها عائلات ملكية كبرى، من أجل فرض السيطرة على أوروبا باعتبارها مركز العالم.
تايلور المؤرخ المثير للجدل، الذي يتميز
بمراجعات وقراءات تاريخية نوعية ومختلفة عن السائد في الغرب، فهو يعتبر الحرب
العالمية الثانية، ناتجة عن مؤامرة إجرامية بريطانية بولونية، لإيقاف جنوح هتلر
نحو السيطرة على أوروبا اقتصاديا وسياسيا، ومن تم السيطرة على جزء من العالم. ويرى
أيضا أن هتلر كان قائدا عاديا صنع مجدا صناعيا ألمانيا في زمن قياسي، بعد زمن
الفقر والجوع الناتج عن الحرب العالمية الأولى، لم يكن ينوي الدخول في الحرب
حينها، إلا أنها فرضت عليه لإيقاف زحفه. وينظر تايلر إلى شخصية هتلر بكونها ليست
إلا تعبيرا عن فكر جرماني كان سائدا في الفكر الشعبي وفي أفكار المثقفين الألمان.
عند قراءة كتاب تايلر عن الصراع من أجل
الهيمنة على أوروبا، يخال إلى القارئ وكأن الكاتب يتحدث عن صراعات الزمن الجديد
على مستوى المفاهيم والتوصيفات وأساليب تدبير الصراع. وقد يخرج القارئ بخلاصة مهمة، وهي أن ما يحدث
اليوم في أوروبا، هو نفسه ما كان سائدا خلال تلك الحقبة، من نفس الأطراف ولنفس
الأهداف والمصالح، مما يجعل التاريخ حيا لم يمت، يعيد إنتاج نفسه بشكل جديد. ربما
لأن قادة أوروبا يتوارثون خلاصات التاريخ كعقائد محددة لتدبيرهم السياسي.
ماذا عن المغرب في تاريخ صناعة القوة وتدبير
التناقضات الدولية المحيطة بالمغرب؟
تاريخ المغرب الوسيط حسب تحقيب المؤرخين،
يمنح القارئ والمهتم نظرا غزيرا وفيرا من حيث حجم التواجد المغربي في قلب السياسات
الداخلية والخارجية، لعدد من القوى العظمى التي تصارعت من أجل التسيد على العالم.
يقول المؤرخون أنه مع المرابطين والموحدين
تشكل الزمن الامبراطوري للدولة المغربية، في الفترة الممتدة من القرن الحادي عشر
إلى القرن الثالث عشر الميلادية.
تفاعل المرابطون مع قضايا الدين والمتدين،
واندفعوا لنصرتها، لاسيما في شبه الجزيرة الإيبيرية، وحققوا توازنا دوليا جديدا
حينها في المنطقة. لقد شهدت هذه الفترة، نهضة إسلامية حقيقية لشعب أمازيغي قوي محب للحياة وللجمال وللعمل، مما ساهم
في تلاقح ثقافي وعمراني فريد بين الخيال والإبداع والسواعد الأمازيغية وبين
الثقافة الغربية في التنظيم والعمران. ما قام به الفارس الأمازيغي المرابطي
المغربي في الانتصار للحق والتدين المالكي المعتدل، نموذج ترسخ فيما بعد في قيم
تدبير الدولة المغربية.
لم يتخلف الموحدون بعد المرابطين، عن السير
على نفس النهج فيما يتعلق بنصرة قضايا مفهوم الأمة الإسلامية، غير أن ما يميز
فترتي حكم هاتين الامبراطوريتين الناشئتين هو غياب فكر يؤسس لقواعد ديبلوماسية
دولية حقيقية. كانت السمة الأساسية هي
المواجهة المباشرة الميدانية نظرا لحجم
الثقة في النفس وفي القوة العسكرية حينها.
لقد ساهم هذا الزمن، حسب المؤرخين، في إعادة
تنظيم الفكر الاندلسي، و في نشأة فكر عربي مغربي مستقل عن المشرق. فكر آثاره
النظرية مستمرة إلى الزمن الحالي، فكر أخصب نظرية الحكم والدولة في المغرب، وجعل لها قوة ورؤية عظيمة في البناء
والتدبير والتجاوب مع المجتمع ومع الأجنبي. هي فترة صنعت عمرانا مدنيا ضخما،
لازالت أثاره المادية شاهدة عليه، من قصور وأسوار ومدن وصوامع وجامعات..
سيعرف المغرب تحولا عميقا في القرن الخامس
عشر الميلادي مع بداية عهد السعديين. حينها شكل ارتفاع الشعور بالانتماء الوطني،
إلى مجتمع واحد وإلى ووحدة المصير داخل حدود وطنية واحدة، أهم العناصر التي هيأت
لتسيد السعديين.
تقوى الشعور بالانتماء الوطني أيضا بسبب
ارتفاع التهديدات وعودة الهجمات الصليبية الإيبيرية الأوروبية ضد المغرب. خاض
السعديون معارك حاسمة، قوت شوكتهم منذ معركة وادي اللبن سنة 1558، ضد العثامنيين
والانتصار عليهم، إلى معركة وادي المخازن والانتصار على الحملة الصليبية الإيبيرية
الأوروبية سنة 1578.
تميز حكمهم بوجود شرعية دينية للسلطان شريف
النسب، وبرغبة في تقوية سيادة الدولة، وتوحيد البلاد وإعادة تأسيس أجهزة الدولة
ومؤسساتها، ناهيك عن التوسع الخارجي الديني والتجاري. لقد كان ذكاء السعديين بارزا
في خلق التوازن الإقليمي المجاور، أو في منطقة البحر الأبيض المتوسط واللعب على
التناقضات الدولية، وإدارة العلاقات الدولية بحكمة وبراعة، في الانتقال بسلاسة بين
مختلف مصالح القوى العظمى وقتها بدون التعرض لضغوطات بل شكلوا قطبا اقتصاديا
وسياسيا، تخطب وده القوى الكبرى عالميا حينها مثل بريطانيا واسبانيا.
العلويون أسسوا دولة خبرت جيدا دروس التاريخ. لقد تعايشوا مع حركات مناوئة وأخرى صديقة عبر التاريخ. تفاعلوا مع الزوايا والقبائل واحتجاجاتها، تعاطوا داخليا مع بلاد السيبة وبلاد المخزن، تجنبوا الصدامات الخارجية والدولية ونجحوا في كل صدام مع القوى الدولية والإقليمية.
بنى أحمد المنصور الذهبي السعدي مصانع
البارود وأسطولا حربيا بحريا لردع الأتراك والبرتغاليين. لقد أسس عناصر العقيدة
الديبلوماسية والسياسة الخارجية، سيستفيد منها كثيرا أبناء عمومتهم العلويين، فيما
بعد بشكل ملموس وعميق.
تميزت هذه الدول المتعاقبة على حكم المغرب،
منذ المرابطين إلى السعديين، بقصر مدة حكمهم التي لم تتجاوز في أحسن أحوالها
القرنين من الزمن. غير أن عهد العلويين الذي بدأ في القرن السابع عشر الميلاي،
سيكون أطول، ربما لأنهم امتلكوا عناصر تقاطع بين كل فترات الحكم السابقة، من شرعية
دينية، وذكاء دولي، ونزعة وحدوية، وطموح إمبراطوري.
وقد تكون أيضا الجغرافيا، عاملا من عوامل
تواجد المملكة في قلب العالم، وفي اكتساب أوراق ضغط دولية كمنطقة عبور وتواصل
حضاري شمال جنوب وشرق غرب. وكما قال المؤرخ دانييل ريفيت، جغرافيا المغرب لم
تحكمها أي حتمية جغرافية، بل أعطت الجغرافيا لهذا البلد أكثر من خيار طبيعي، ووفرت
له خيارات انفتاح متنوعة على العالم.
العلويون أسسوا دولة خبرت جيدا دروس
التاريخ. لقد تعايشوا مع حركات مناوئة وأخرى صديقة عبر التاريخ. تفاعلوا مع
الزوايا والقبائل واحتجاجاتها، تعاطوا داخليا مع بلاد السيبة وبلاد المخزن، تجنبوا
الصدامات الخارجية والدولية ونجحوا في كل صدام مع القوى الدولية والإقليمية. عاشوا
الاستعمار والحجر الأجنبي، قارعوا مختلف الأفكار من تسلف و تصوف وتشيع ومذاهب
دينية وسياسية كثيرة. تجاذبوا مع الإيديولوجيات اليمينية واليسارية وعاشوا على وقع
صراع الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي. خبروا حركات وأفكار الانفصال والانسقام
الداخلي وحتى العائلي، لاسيما في أزمة الثلاثين سنة للحكم بعد وفاة مولاي إسماعيل
منذ 1727 إلى 1757، وكيف كان دور المرأة حاسما حينها، لاسيما ما قدمته السلطانة
الصحراوية الفقيهة والعالمة خناثة بنت بكار مربية السلاطين، والدة السلطان عبد الله بن إسماعيل وجدة
السلطان محمد الثالث، صانع المغرب الحديث، كما يقول عبد الله العروي.
السلطان مولاي إسماعيل ساهم في تأسيس دولة
موحدة. أسس قواعد للتفاوض الدولي والدبلوماسي، وعاصر عتاة الملوك الأوروبيين،
أمثال ملك
فرنسا لويس الرابع عشر، ولم يكن على ود معه، بل طبعت العلاقة بينهما
بصراع كبير كان ساحته البحر المتوسط والمحيط الأطلسي المطل على المغرب. عين
السفراء لدى ملوك أوروبا، أمثال السفير
رايس قراصنة سلا عبد الله بن عائشة، ووحد البلاد، وأرسى لبنات دولة مؤسسات ودولة
مرافق قوية، وأبرم الاتفاقيات الدولية من أهمها المعاهدة مع بريطانيا سنة 1721، التي
اعتبرها المؤرخون البريطانيون كانت رائدة و سابقة لزمنها بشكل كبير.
تأسست قوة السلاطين العلويين، على التوفيق
مابين التدبير الديني للدولة والمجتمع، ومابين تحقيق القوة والاستقلالية عن القوى
الأجنبية. وإن من السلاطين العلويين من تحصل من العلوم الشرعية والفقهية ما أهله
لمقارعة علماء المشرق وإصدار الفتاوى، وكتابة الشروح والتفسيرات للمتن القرآني
وغيرها من المواضيع. كما أنهم امتلكوا من الشجاعة والذكاء الهادئ في تدبير
العلاقات الدولية للمغرب، وهزموا قوى عظمى ودمروا جيوشها على حدود البلاد.
السلطان محمد بن عبد الله أو محمد الثالث
حفيد مولاي إسماعيل والصحراوية خناثة بنت بكار، تميز برؤية قد تبدو محافظة في
قراءة التدين المغربي. يعتبره المؤرخون أحد أكبر وأهم الشخصيات العلوية من حيث
الكاريزما السياسية والحضور الثقافي والمعرفي. حارب الفرنسيين على مشارف تطوان
وطرد البرتغاليين من مازاغان، التي ارتبط بها البرتغاليون إرتباطا أسطوريا
وخرافيا. اعترف بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1777، وتعاقد معها بعد ذلك،
وتبادل الرسائل المكتوبة مع الرئيس جورج واشنطن، وخلق توازنا جديدا مع أطماع
بريطانيا العظمى بهذا الاعتراف، لعل فطنته كانت "تشي" له بأن هذه البلاد
الجديدة ستكون يوما ما قوة عظمى.
السلطان مولاي سليمان، انتصر للعثمانيين
والليبيين، في ما يسمى بحروب شواطىء طرابلس. دمر أجزاء من الأسطول الأمريكي، على
مشارف بحر طنجة، بعدما أعلن الحرب على الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1801.
رجل تميز بالزهد وحب المعرفة الدينية
والشرعية، وكتب الكتب وأصدر الفتاوى المعتدلة وقارع بعض علماء الوهابية. انتهج
سياسة احتراز وحذر من الغرب ومن أوروبا، لاسيما وهو سلطان عاصر الثورة الفرنسية،
بزعامة القائد نابوليون الذي لم يجرؤ على القيام بأي حملة عسكرية ضد المغرب.
لقد كان السلطان سليمان بقراراته، بما ذلك
سياسة الاحتراز، التي لعب في صناعتها العلماء دورا كبيرا، إنما جسد بذلك دور
الحارس الوفي على قيم المغرب والمغاربة، أمام زحف مخيف حينها لقيم غربية لا تستقيم
مع ذهنية البلاد. كما اصطدم مع بعض أشقائه الذين حاولوا طرد اليهود، وعمل على
تأمينهم ومنح الحماية لهم لممارسة التجارة والكسب والتدين اليهودي.
ولعل وصيته بتنصيب ابن أخيه المولى عبد
الرحمان بن هشام، بعده سلطانا على المغرب، تحمل معنى بليغا عن شخصية المولى سليمان
وتدينه الشديد. ومما جاء في هذه الوصية: «.. لأنه ( أي السلطان عبد الرحمان بن
هشام) -إن شاء لله- حفظه الله لا يشرب الخمر ولا يزني ولا يكذب ولا يخون ولا يقدم
على الدماء والأموال بلا موجب. ولو ملك ملك المشرقين… ويصوم الفرض والنفل، ويصلي
الفرض والنفل. وإنما أتيت به من الصويرة ليراه الناس ويعرفوه. وأخرجته من تافيلالت
لأظهره لهم، لأن الدين النصيحة. فإن اتبعه أهل الحق صلح أمرهم، كما صلح سيدي محمد
جده، وأبوه حي. ولا يحتاجون إلي أبدا ويغبطه أهل المغرب ويتبعونه إن شاء لله. وكان
من اتبعه اتبع الهدى والنور. ومن اتبع غيره اتبع الفتنة والضلال. وأحذر الناس من
أولاد يزيد، كما حذر والدي. وقد رأى من اتبعه أو اتبع أولاده كيف خاض الظلمة
ونالته دعوة والده، وخرج على الأمة. وأما أنا فقد خفت قواي ووهن العظم مني واشتعل
الرأس شيبا حفظني الله في أولادي والمسلمين. آمين».
تميز القرن 19 الميلادي بتكالب القوى
الإمبريالية الغريبة على دول الجنوب. استعمرت دول عربية وإفريقية منها الجزائر سنة
1830 من قبل فرنسا، هذا الاستعمار للجزائر المجاورة، جر على المغرب المستقل حينها،
دسائس ومؤامرات أوروبية وانطلق مسلسل ابتزاز المملكة والتضييق عليها، منذ معركة
إيسلي ثم إتفاقية للا مغنية سنة 1845.
عمل السلطان المولى الحسن الأول بعد ذلك،
على التركيز على توحيد البلاد من جديد، وإدخال القبائل والزوايا تحت طاعة السلطان،
حتى لا يسهل ابتلاعهم من قبل القوى الإمبريالية لاسيما فرنسا. السلطان الحسن الأول
أطال بشكل ملحوظ زمن استقلال المغرب، وكانت فرنسا قد أسست وقوت قواعدها بالجزائر.
السلطان عبد الحفيظ بن الحسن، تميز هو الآخر
بروح قتالية ومناورة كبيرة لعدم تمكين الاستعمار الفرنسي من المغرب. وقد تأسس
حكمه، إثر عزل شقيقه الأصغر من الحكم السلطان عبد العزيز، على ما عرف تاريخيا بعقد
البيعة المشروطة بينه وبين كبار المبايعين من علماء وأعيان، باشتراط الدفاع على
استقلال المغرب والدفاع عنه أمام الأطماع الأجنبية. غير أنه بعد توقيع اتفاقية
الحماية الفرنسية، اعتبر ذلك عدم قدرة السلطان عبد الحفيظ على الوفاء بعقد البيعة
المشروطة، فتخلى عن الحكم لفائدة أخيه السلطان يوسف.
بعد ذلك، وخلال فترة الاستعمار، لعب السلطان
محمد الخامس بوعي وطني مسؤول، وتحديدا منذ بداية الأربعينيات، حين تطابقت رغبة
الحركة الوطنية في تحرير البلاد مع رغبته، وناور داخليا وخارجيا بشكل مكشوف من أجل
تحقيق هذه الرغبة، وتعرض للنفي خارج المغرب وإلى اضطهاد شمل أسرته الصغيرة.
الملكية في المغرب هي النظام الوحيد الذي جمع ووحد المغاربة، حول مشروع وطني لبناء الدولة، من منطلق مغربي خالص، في غياب أي تصورات أو مشاريع مغربية حقيقية للبناء.
وريث عرشه الملك الحسن الثاني كان لزمنه طعم
آخر، ممزوج ما بين الرغبة في استكمال بناء دولة مستقلة بشكل تام، وما بين تفادي
ضربات التجاذبات السياسية والإيديولوجية الداخلية والخارجية، التي كادت أن تعصف
بالدولة ككل وبنظامها السياسي، لولا ذكاء وحزم الملك الحسن. لقد أجلت الصراعات
السياسية الداخلية، تنمية البلاد وإقلاعها اقتصاديا وبشريا وخلفت ندوبا وجروحا
حقوقية صعبة النسيان. كانت صراعات فكرية نظرية حول تصور شكل الدولة والنظام، صراعات منبعها الأيديولوجي خارجي، خلال زمن
الحرب الباردة بين قطبي الشرق بزعامة الإتحاد السوفييتي والغرب بقيادة الولايات
المتحدة الأمريكية.
الخلاصة الكبرى هي أن الملكية في المغرب هي
النظام الوحيد الذي جمع ووحد المغاربة، حول مشروع وطني لبناء الدولة، من منطلق
مغربي خالص، في غياب أي تصورات أو مشاريع مغربية حقيقية للبناء.
ترجل الملك الحسن عن صهوة الحياة سنة 1999،
وجاء دور الملك محمد السادس. لقد اشتغل هذا الملك، في نفس المسار التاريخي للمملكة
الذي تحدثنا عنه سابقا، لاسيما في تدبير الصراعات والأطماع الأجنبية. لقد عمل
بهدوء في إفريقيا واستطاع إلى حد بعيد المنافسة الدولية، وأستعاد دور المملكة في الإشتغال
على الفكرة القارية، وفي تطوير المنظور المغربي القاري، من تحويل للفكرة
الإمبراطورية المغربية التاريخية التقليدية والدينية، إلى فكرة للاندماج المغربي
القاري من أجل تعايش اقتصادي وسياسي وديني مشترك، في سياق تدبير متوزان بين
تناقضات القوى الكبرى.
فإذا كان هم الحسن الثاني رحمه الله أن
يحافظ على شكل النظام وبنياته التقليدية في عالم صاخب، فإن السلطان محمد بن الحسن
كان عليه أن يعيد للتاريخ المغربي مسيره، بعد حوالي قرن من الضعف، مسير يعيد
المملكة إلى توهجها العالمي الذي عرفته من قبل. ولاشك أن الملاحظ المتبصر يرى أن
ما يقوم به الملك محمد السادس سواء في أفريقيا أو في التعامل مع القوى الكبرى ومع
أوروبا، هو العودة إلى الجذور إلى نفس المنطق والمسار التاريخي ماقبل فترة الضعف
وما قبل فترة الاستعمار الأوروبي للمغرب.
هنا تكمن الفروق الشاسعة بين الرؤية
الإندماجية المغربية، والرؤية التقاولية الاستعمارية الفرنسية، وأصبح اليوم من
الصعب التنبؤ بمآلات هذه المواجهة، التي قد تدفع فرنسا المعزولة
و"المريضة"، إلى استعمال أدوات أكثر عداء وعنفا، كما تعودنا في جميع
تدخلاتها لحماية مصالحها في القارة الإفريقية.
* باحث وكاتب مغربي
إقرأ أيضا: محاولة لفهم البعدين الحضاري والتاريخي في رغبة فرنسا التسيد على قطر والمغرب