إدريس بن يعقوب.. كاتب مغربي
خلال كانون أول (ديسمبر) من السنة الماضية
2022، برزت
قطر والمغرب بشكل لافت في عناوين الصحافة الأوروبية، والفرنسية تحديدا،
لم يكن الموضوع سوى الحديث عن شبهات حول فضائح إرشاء نواب أوروبيين.
مواجهة غير واضحة الهوية، ظلت كامنة لزمن
طويل قبل أن تصير أكثر علنية، قبيل رفع الستار عن دورة كأس العالم لكرة القدم 2022.
وقائع اشتباك منتصف كانون أول (ديسمبر) 2022
عن هذا الاشتباك، كتب المفكر والباحث
المغربي
الدكتور عبد الله بوصوف سلسلة مقالات نشرت في المغرب، تحت عنوان كبير هو: مؤامرة
منتصف كانون أول (ديسمبر) 2022. تحدث فيها عن وقائع المواجهة بين قطر والمغرب من
جهة والبرلمان والإعلام الأوروبيين من جهة أخرى. وضح الكاتب عددا من المعطيات بشكل
منطقي، فسر كيفية التداخل فيها بين رجل الأعمال والسياسي والإعلامي. هذه المقالات
وضعت تشخيصا للأزمة، ومن خلالها يمكن تلخيص الوقائع الكبرى لهذه المواجهة
وخلاصاتها على الشكل التالي:
ـ اتهام الأوروبيين لقطر بعدم احترام حقوق
العمال الذين بنوا منشآت كأس العالم.
ـ تنظيم كأس العالم في قطر أثار خلافات حادة بين دول غربية
أوروبية وقطر، بشأن حقوق المثليين والسماح بتناول المشروبات الكحولية في مدرجات
الملاعب مثلا.
ـ تسريبات صحفية في جرائد محددة، أهمها لاريبوبليكا
الإيطالية وبعض الصحافة البلجيكية، صحافة لها علاقة مع رجال أعمال كبار لهم مصالح
مع دول عديدة، تفيد بأن قطر أرشت نواب أوربيين، من بينهم إيفا كايلي نائبة رئيسة
البرلمان الأوروبي، بواسطة جماعات ضغط أوروبية.
ـ الشروع في أبحاث جنائية، في غمرة الفرحة القطرية
والعربية بعظمة تنظيم كأس العالم، والعثور على مبالغ مالية ضخمة في بيوت شخصيات
أوروبية، تلتها جملة اعتقالات فتم إيقاف نائب برلماني سابق، وهو النقابي الإيطالي
الشهير أنطونيو بانزيري، الذي أسس بعد نهاية ولايته سنة 2019 منظمة ضغط طبقا
للقانون البلجيكي والأوروبي تمارس في بروكسيل، رفقة مساعده فرانسيسكو جورجي.
ـ إيقاف نواب ممارسين منهم إيفا كايلي المعتقلة في ظروف
غير إنسانية، حسب نواب أوروبيين طالبوا
السلطات باحترام حقوق الإنسان وبتحسين وضعية اعتقالها، وهي التي تم الضغط عليها من
خلال إبعادها عن رضيعتها، مما ربما دفع القضاء إلى إطلاق سراح شريكها فرانسيسكو
جورجي ومتابعته في حالته باستعمال السوار الإلكتروني.
ـ تصريح رئيسة البرلمان الأوروبي روبيرتا ميتسولا بأن
البرلمان الأوروبي والديمقراطية تحت التهديد، ولم تحدد بدقة الجهات التي تهدد
البرلمان والديمقراطية، هل هم الراشون المفتضرون أم المرتشون أبناء الديمقراطية
والحداثة الغربية، أم جماعات الضغط واللوبيين الذين يشتغلون في بروكسيل بأعداد
كثيفة تصل إلى 13000 جماعة، مؤسسة طبقا للتشريع الأوروبي لممارسة عملية إقناع
مؤسسات الاتحاد باتخاذ قرارات لصالح زبنائها. هي تنظيمات مسجلة في سجل الشفافية للاتحاد
الأوروبي، الشيء الذي هيأ البيئة الأوروبية لتصبح موبوءة وقابلة لتداول عمليات
إرشاء وفساد تحت غطاء قانوني.
ـ تحولت التسريبات إلى ملف قضائي، وأطلق
عليها فضيحة "قطر غيت"، ثم واصل قاضي التحقيق البلجيكي ميشيل كليس
أبحاثه، فتم إضافة المغرب إلى القضية، كمتهم بإرشاء نواب أوروبيين، وأصبح الملف
يعرف بفضيحة "المغرب وقطر غيت".
ـ فشل القاضي المذكور في إيجاد أدلة ملموسة
تورط المغرب وقطر، دفعه إلى التفاوض مع المتهم بانزيري، للاتفاق على سقف
العقوبة مقابل الكشف عن متورطين آخرين،
مما أدى إلى اعتقالات جديدة.
للمفارقة، القاضي البلجيكي Michel claise هو أيضا كاتب
روايات بوليسية خيالية شيقة. سبق له أن كتب رواية أسماها ذكريات الريف (الريف في
شمال المغرب)، يصف فيها واقعا مغربيا وقصص مافيات مخدرات، كتب ذلك رغم أنه لم يزر
الريف المغربي. المفارقة أيضا، هي أنه لم يتحرك في قضايا فساد مشابهة أثارها
الإعلام الأوروبي لشخصيات مرموقة مارست في البرلمان والاتحاد الأوروبيين، وبعضها
لازال يمارس إلى حد الآن، من بينهم:
ـ شبهات حول
تورط برلمانيين أوروبيين من النمسا وسلوفينيا ووزير روماني سابق، سنة 2011، حيث
وصل مبلغ الرشوة إلى 100 ألف أورو مقابل
إصدار تدابير تخص المجال البنكي.
ـ قضية الرشوة وتبييض الأموال والتعسف في استعمال السلطة،
وحجز ما قيمته 2 مليون أورو، متورط فيها نائب أوروبي من صقلية في نيسان/أبريل من سنة 2018، وحقق فيها نفس
القاضي ميشيل كليس، ومازال الرأي العام ينتظر ما خلص إليه التحقيق، لعله سينشره في
إحدى رواياته البوليسية.
ـ تسريبات إعلامية عن تورط رئيسة المفوضية الأوروبية "أورسولا فان دير لاين Ursula von
der leyen، التي تناولت رسائل نصية قصيرة " في قضية المفاوضات السرية للقاح فايزر في أثناء
فترة الكوفيد التي تفجرت إعلاميا في 30 كانون الثاني/يناير 2022، ثم إثارة موضوع تنازع المصالح
لدى زوجها، الذي اشتغل في مركز البحث بمدينة بادوفا الإيطالية، وتوصل بتعويضات أو
إعانات مالية أوروبية.
ـ ملفات أخرى تتحدث عن شبهات فساد، مثلا قضية تلقي
الفرنسية "مارين لوبان" أموالا من روسيا، وكذلك "ماثيو سالفيني"
واليساري الآخر "ماثيو رزيني" زعيم الحزب الديمقراطي سابقا ورئيس
الحكومة الإيطالية، ورئيس حزب "إيطاليا فيفا" حاليا، ورئيس الحكومة
الإيطالية السابق Massimo D’Alema واشتغاله
كمستشار مالي لجهات خليجية، أو تلقي الرئيس الهنغاري "أوربان" لأموال
روسية، أو فضائح الفرنسي "ساركوزي" المالية، أو اشتغال الرئيس الألماني
السابق "جيرهارد شرودر" كرئيس مجلس إدارة شركة نفط روسية، أو استشارات
البريطاني "توني بلير" واللائحة طويلة، كلها وقائع وشبهات تناولها
الدكتور بوصوف في مقالاته بشكل مفصل.
توالت الأحداث والتطورات بشأن هذه الأزمة،
أهمها تجريح القاضي البلجيكي من طرف النائب الأوروبي المعتقل مارك تارابيلا، بشبهة
وجود أحكام مسبقة لدى القاضي حول المتابعين في علاقتهم بالمغرب، وهي قضية تم عرضها
للبت في جدية التجريح من عدمه يوم 14 آذار/مارس الجاري، غير أن القضاء البلجيكي رفض
دعوى التجريح هاته، وزكى القاضي في مكانه في القضية.
وتتواصل الحملات الأوروبية المسمومة ضد
المغرب
في غضون ذلك، وفي سياق ارتدادات ما سمي
"المغرب غيت"، صوت أغلبية نواب البرلمان الأوروبي في شهر كانون الثاني/يناير
المنصرم، ومن بينهم من ينتمون إلى العائلة
السياسية للرئيس ماكرون، توصية يتدخل من خلالها في الشأن الداخلي المغربي، ويعلق
على اعتقالات لصحفيين ويصدر موقفه منها بدون الاستماع إلى الرأي الرسمي المغربي،
مما يعد محاكمة سياسية بدون اعتماد مبدأ الحضورية، وبدون الاستماع إلى الرأي الآخر
الذي يعد أحد أهم قواعد الديمقراطية والمحاكمة العادلة.
توالت بعد ذلك الحملات الإعلامية الفرنسية
والأوروبية ضد المغرب، وهيأت بعض الصحف الفرنسية، من أهمها لوموند وماريان، مقالات
وملفات طويلة، بصفحات متعددة لانتقاد المغرب تتناول زوايا نظر ولغة سياسية غير
مهنية، توحي بوجود هجمة ممنهجة تسير على جبهات متنوعة.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تواصل الشد
والجذب، واستمر البرلمان الأوروبي في
إثارة اتهامات ضد المغرب بشأن الاعتقاد في استعمال برنامج بيغاسوس، للتجسس على
صحفيين وشخصيات أوروبية. اتهامات لم تستند على تقديم أي أدلة مادية ملموسة. اهتم
أيضا البرلمان الأوروبي، وفي نفس السياق الزمني، بإثارة موضوع أكثر حساسية
بالنسبة للمملكة متعلق هذه المرة باحترام حقوق الإنسان في الأقاليم الجنوبية
للمغرب.
بعد ذلك، أصبحت الأزمة تسير نحو مزيد من
التعقيد والتشويق، فقد نشرت تسريبات إعلامية جديدة في نفس اليوم، حول شخصيتين
رياضيتين، تقول بوجود متابعات قضائية ضد كل من القطري ناصر الخليفي رئيس فريق
باريس سان جيرمان بتهم الاختطاف، واللاعب المغربي أشرف حكيمي في قصة اغتصاب فتاة
فرنسية.
أقل ما يمكن أن نفترضه في هذا الجو المكهرب
سياسيا عن القصة، أنها مستجمعة لأركان الفخ والمصيدة لأهداف أكبر بكثير من دفاع عن
القانون وعن المرأة. ربما علينا أن نستحضر ريادة حكيمي في فكرة أمهات اللاعبين في
ملاعب قطر كأس العالم، وتعبيره عن المظلومية وعن غضب فريق الكرة المغربي على
الفيفا، بعد الهزيمة المثيرة للجدل أمام المنتخب الكروي الفرنسي.
حكيمي برز في كأس العالم قطر كشخصية محورية
في قصة نجاح مغربية قطرية عربية، إن صح التعبير. كان له الفضل في التعبير عن قيم
حضارية كبرى، قد تجعل منه هذه التهمة، ومن أي مغربي أو عربي مسلم، مجرد عربيد
متناقض يعيش فصاما، ولا يستحق أن يعطي دروسا للعالم في القيم.
ما شهده العالم في قطر خلال بطولة كأس العالم 2022، لم يكن بالشيء الهين على دول غربية عديدة وعلى رأسها فرنسا. لقد أظهرت قطر أنها وإن كانت دولة صغيرة الحجم جغرافيا، إلا أنها تمكنت من خلال طموحها الكبير، من تسخير عقلاني ومتوازن لكل إمكاناتها المادية وقدراتها التواصلية، على صناعة نموذج تنظيمي عقلاني بقيم حضارية عظيمة.
ومن الأمور التي ينبغي أن نستحضرها حول
القضاء الفرنسي، هي سؤال حدود استقلالية النيابة العامة في
فرنسا. فقد ذهب بعض
القضاء الفرنسي والقضاء الأوروبي القاري، لاسيما المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان،
إلى أنها جهاز غير قضائي وغير مستقل.
لقد اعتبرها بعض القضاء والفقه القضائي أن
عملها لا يتوافق مع قواعد الاستقلالية، لكونها تابعة إداريا في التعيين والترقية
لتقييم وزير العدل المنتمي لحكومة سياسية متحزبة. وإلى حدود سنة 2013، لم يكن هناك
مانع قانوني من تلقي هذه النيابة العامة التعليمات الشفهية، وهي حاليا تتلقى
التعليمات من وزير العدل فيما يتعلق بتطبيق السياسة الجنائية، ومن ثم فإن
قرارتها قد تكون مشوبة بشبهة التدخلات السياسية ومحاباة الرؤساء التنفيذيين
والسياسيين.
عنصر آخر مهم حول تهم الاغتصاب أو تهم حوادث
العلاقات الجنسية، التي أضحت عديدة ضد شخصيات وازنة، نذكر منها قضية الفرنسي رئيس
صندوق النقد الدولي الأسبق دافيد ستروس كان، الذي اعتقل فجأة في أمريكا بسبب تهمة
اغتصاب، مباشرة قبيل الانتخابات الرئاسية الفرنسية، التي كان هذا السياسي اليساري
أبرز مرشحيها ضد اليميني ساركوزي، ثم تهم الاعتداء الجنسي ضد طارق رمضان، الشخصية
التي أزعجت وعقدت المثقفين العلمانيين الفرنسيين، فقد تحول الرجل إلى أحد أقوى
المدافعين عن الإسلام من داخل فرنسا.
هذه التهم وما شابهها، كانت ستبدو عادية
جدا، لولا ما يرافقها من حملات وقراءات إعلامية في فرنسا، ولولا ما يعلمه الجميع
من وجود فرضية التلفيق. من حين لآخر وفي تصريحات أو مذكرات متقاعدي مخابرات دول
كبرى، يتم الكشف عن استعمال الاستخبارات لهذه التهم بحبكة مقنعة بشكل كبير، من أجل
الضغط على معارضين أو تسخيرهم لصالحها مقابل التكتم عنها.
ماذا عن فرنسا وعن عقدها تجاه المغرب وقطر ؟
ما شهده العالم في قطر خلال بطولة كأس
العالم 2022، لم يكن بالشيء الهين على دول غربية عديدة وعلى رأسها فرنسا. لقد
أظهرت قطر أنها وإن كانت دولة صغيرة الحجم جغرافيا، إلا أنها تمكنت من خلال طموحها
الكبير، من تسخير عقلاني ومتوازن لكل إمكاناتها المادية وقدراتها التواصلية، على
صناعة نموذج تنظيمي عقلاني بقيم حضارية عظيمة.
ولعجائب الصدف، "تحالف" فريق
المغرب لكرة القدم، ومحبو الكرة في شبكات التواصل، في تثبيت هذا التوجه القطري
الحضاري. كانت مشاركة مشرفة، تميزت بالرقي إلى دور نصف نهاية البطولة كحدث عربي أفريقي غير مسبوق، رقي خلق دهشة عالمية.
شكلت هذه الدورة من البطولة الكروية العالمية
ساحة استثنائية لإظهار قيم إنسانية ذات عمق قيمي مختلف عن الغرب. لقد تحولت أرضيات
ومدرجات ومحيطات الملاعب إلى بيت يضم عائلة واحدة، وإلى مساجد للساجدين والمصلين
المتسامحين غير المتشددين.
فرنسا لاتزال تجتر وراءها نفس عقلية التعالي الاستعماري في عدم الاعتراف بندية وقوة مستعمراتها السابقة، رغم اختلاف الأزمنة والأجيال. وكان الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي قد عبر عن هذا التعالي بشكل صارخ، عندما خاطب الأفارقة في جامعة دكار بالسنغال سنة 2007، واصفا الإنسان الأفريقي بأنه لم يدخل كثيرا للتاريخ، مما خلق حينها موجة استنكار واسعة عبر كل القارة.
في مقابل هذا المشهد الحضاري المنظم
والراقي، يبدو أن فرنسا تعيش تراجعا ومرضا بل شللا على مستويات عدة. ربما أصبحت
فرنسا أضعف بكثير مما نتصور. لعلها تبحث عن ذاتها من جديد، بعدما أصبحت تحس بعزلة
"اجتماعية" عالمية. رغم تبادل الزيارات بينها وبين الشخصيات الدولية،
فإن العزلة تعني عدم القدرة على إنتاج الجديد والمختلف والمأثر في المحيط. عزلة
اقتصادية وتفوق ألمانيا وبريطانيا المنسحبة من الاتحاد الأوروبي، تفوقوا عليها في
القرار الاقتصادي العالمي، لاسيما في مواجهة روسيا.
تعيش فرنسا إلى جانب ذلك، عزلة سياسية في
اتخاذ القرار السياسي الأوروبي والعالمي. ظهر ذلك بشكل بارز في المواقف من الحرب
الروسية الأوكرانية، وتسيد ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية في
تحديد التوجه والمسار، وأصبحت فرنسا مجرد تابع لهم. عزلة زاد من وخزها رفض
الأفارقة، إلى حد الكراهية والنفور، لتدخلات فرنسا، بل ومطالبتها بالرحيل عن
بلدانهم، ثم شاهد العالم أجمع كيف يمرغ أردوغان وتركيا بفرنسا ورئيسها الوحل، في
كل مواجهة خطابية أو ميدانية.
فرنسا لاتزال تجتر وراءها نفس عقلية التعالي
الاستعماري في عدم الاعتراف بندية وقوة مستعمراتها السابقة، رغم اختلاف الأزمنة
والأجيال. وكان الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي قد عبر عن هذا التعالي بشكل صارخ،
عندما خاطب الأفارقة في جامعة دكار بالسنغال سنة 2007، واصفا الإنسان الأفريقي
بأنه لم يدخل كثيرا للتاريخ، مما خلق حينها موجة استنكار واسعة عبر كل القارة.
تعيش فرنسا أيضا عزلة ثقافية وفكرية وعلمية،
تتجلى في انحسار استعمال اللغة الفرنسية وضعف الإنتاجات الثقافية والفكرية
والإبداعية مقارنة مع الأزمنة السابقة، وانسحابها من فضاء الحوار النظري الغربي
بشكل واضح، ومن عوالم البحث العلمي والاكتشافات الكبرى. ولعل فترة جائحة كوفيد 19
كانت فاضحة لهذا الوضع، فلم تستطع فرنسا أن تنافس في مجال اللقاحات، وهي بلد
باستور ،وهي التي كانت دائما مصدر اللقاحات والبحوث العلمية في هذا الصدد، قد يكون
هذا نتاج ضعف السياسي في فهم الواقع الجديد، وفي وضع تصور أولويات تفرضها المرحلة.
إلى جانب ذلك كله، تعيش فرنسا أمراضا داخلية
واحتجاجات متواصلة منذ بعض سنين، استعصى حلها على الرئيس الشاب ماكرون وهو في
ولايته الثانية. يبدو ماكرون وكأنه لايزال يبحث عن اعتراف بشخصه على الصعيد
الداخلي و الخارجي. ومازلنا نتذكر ذلك المشهد الساخر في حفل اختتام كأس العالم
2022، حيث أراد أن يسبق أمير قطر الشيخ تميم بن حمد، إلى منصة التتويج في بحث عن
عظمة أو صدارة، ولو كانت وهمية.
فرنسا تعيش انقسامات سياسية داخلية خطيرة
تذكر بزمن ما قبل دستور 1958. انقسامات مشحونة بارتفاع أصوات شعبوية متطرفة ترفض
المهاجرين والمسلمين، رغم أن هذه الفئة المرفوضة هي من صنعت ولازالت تصنع ما تبقى
من القوة الفرنسية، سواء من خلال رأسمال اليد العاملة أو من خلال الثروات التي
تجنيها من مستعمراتها القديمة أي بلدان المهاجرين، الذين رفعوا رأس فرنسا حتى في
كرة القدم من خلال المنتخب الوطني الرسمي الفرنسي. يبدو أن فرنسا تنتقل بشكل
تدريجي من فكر الأنوار وإنتاجاته، ومن
مبادئ العقد الاجتماعي، إلى فكر الانغلاق و"التكفير" العرقي واللائكي
الجديد.
قد تكون فرنسا المتعصبة كثيرا لقيم
اللائكية، ترى في قطر والمغرب اللذين أنجحا عرسا رياضيا بقيم حضارية كبرى، بداية
لظهور نموذج قيمي جنوبي، يمكن أن يحتذى به، وأن ينشر وأن ينظر له المفكرون ويستنسخه
سياسيو الجنوب، بل يمكن أن يكون محط اهتمام الأجيال الأوروبية الجديدة، وبذلك
فإنها ترى فيه خطرا على وجودها بسبب المجتمعات الجنوبية المهاجرة لديها، وربما ترى بأنه يتعين قطع الطريق على
هذا النموذج قبل أن يدمر منظموتها القيمية ككل.
يتبع..