ـ 1 ـ
يمثّل السّلم غاية نبيلة تسعى إليها أغلب
المجتمعات حتّى تحقّق استقرارها ورخاءها وتجنّب نفسها ما تخلّفه الحرب من الدّمار
والويلات. فإن حدث ضيم أو عدوان ما، تحاول هذه المجتمعات أن تتداركه بالحوار
والتفاوض لأن الحرب عنف جماعي منظّم يصل حدودا قصوى من الشدّة. فيهدر طاقات
الأطراف المتحاربة. ويضير بها وبالمدنيين على حدّ سواء. ولكن لا ضامن لاستمرار
حالات السّلم ما لم تكن كافلة للحقوق. وكراهة الحرب واعتبارها أسوأ الحلول لإدارة
الأزمات، لا يستوجبان رفضها مطلقا. فتمسّك المضطهد بالسّلم عندما تنسدّ أفق
استعادته لحقوقه بالحوار والتفاوض يحوّله إلى خاضع وليس إلى مسالم.
يؤكد ما تقدّم أنّ مقاومة إسرائيل كانت ضرورة للفلسطينيين. فقد انسدت
كلّ الأفق لحل قضيتهم العادلة بالحوار والتفاوض. ومواجهة غاندي للمعتدي بجسده
العاري لا تجدي نفعا مع من تحرّكه شهوة القتل. فقد ثبت أنّ إسرائيل تهمّش كلّ
مبادرات السلام وترفض التفاوض أو تركن إليه على نحو منافق لتتقدّم أكثر في تنفيذ
مشروعها. فتفسد الأرض وتنتهك العرض. وتُدستر عدوانها وطابعها العنصري. وثبت أنّ
المجتمع الدّولي مخترق باللوبي الصهيوني مكبّل بطموحات سياسييه الذين أصبحوا رهائن
عنده. فلا يصلون إلى سُدّة الحكم إلاّ بمباركته. والجسد العربي أقرب إلى الموت
السريري، عاجز عن التجاوب أو ردّ الفعل رغم كلّ الصدمات التي تلقّاها.
ـ 2 ـ
لا تكتسب المقاومة شرعيتها وتصبح مبرّرة من
منطلق الجدوى والنجاعة، عندما يتعلّق الأمر بالدفاع عن الأرض والعرض
والمقدسات. ولا تخضع دائما لمبدإ التكافؤ
في موازين القوى. وليس المنتصر فيها دائما
من يوقع الخسائر أكثر بالطرف المقابل وإنما من يتمسّك بقيمه. فرغم قوة فرنسا
واستغلالها للجزائر لنحو قرن وثلث القرن ورغم ما نهبته من خيراتها وما خلّفته من
دمار وقتل، تعتبر اليوم الطّرف الخاسر في مواجهتها لأبطال ثورة التحرير لأن الكلمة
الأخيرة آلت إلى من يعمل على إثبات الهوية الأمازيغية العربية الإسلامية للبلاد لا
إلى من حاول طمسها وإلحاقها بفرنسا.
القيادات العربية وجدت في نهج مفاوضات أوسلو تخلصا من التزامها نحو القضية. وإيران التي تنتج خطابا ناريا كلّما تعلّق الأمر بالحقّ الفلسطيني، تقصر همّها اليوم في حلم القنبلة النووية. وكلّ ما تُحدث من صخب ليس سوى تجييش للرأي العام الدّاخلي وشحذ للهمم لتحقيقه.
ومع ذلك ورغم التفاوت الكبير في القوى على
المستوى العسكري، فما ألحقته عملية طوفان الأقصى بإسرائيل ليس بالهيّن. فقد أثبتت
قدرة
الفلسطينيين على إيلام مغتصبي أرضهم بشدّة وعلى تمزيق مجتمعهم. ورغم فظاعة
الحرب على غزة وتعرضها إلى إبادة جماعية موثقة بشهادة المنظمات الدولية وصل عدد
قتلاها نحو 40 ألف فلسطيني ورغم ما لحق قدرات حماس من ضرر بلا شك، فإن خسارة الفلسطينيين تقابلها خسائر أفدح لدى
الجانب الإسرائيلي. فصورة جيشها باتت في الحضيض. وهيبته وشرفه فقدا، لدى من كان
يعتقد أنّ له شرفا، بعد أن اتضحت حقيقته لدى
الرأي العام الدولي المضلَّل غالبا.
فيؤسر قادته يوم 7 أكتوبر بطريقة مخزية. وحين يردّ الفعل يقتل من أجل القتل لا
أكثر. ويدمّر خيام النازحين ويتصيّد المدنيين العزّل.
ـ 3 ـ
وتجري المعركة على جبهات أخرى أكثر أهمية لا
تكون فيها خسارة الإسرائيليين هينة. فعلى المستوى السياسي قوّضت عملية "طوفان
الأقصى" وما تبعها من غزو ما رسّخته إسرائيل من المغالطات لدى الرأي العام
الغربي بكونها واحة ديمقراطية وسلم وحقوق مدنية وسط محيط من الهمجية والجهل
والتخلف. لذلك سريعا ما انهارت موجة التعاطف المنافقة معها يوم 7 أكتوبر وبعده.
فمناصروها اليوم باتوا محشورين في الركن وبات تواطؤهم مفضوحا. وبالمقابل قطعت دول
عديدة علاقاتها معها واعترفت بدولة فلسطين. والأهم من هذا كلّه ما حصّله الفلسطينيون
من اعتراف الدولي بأنها الطرف المارق الذي لا يتوانى عن ارتكاب جرائم الحرب.
وإجمالا فما حقّقته عملية "طوفان الأقصى" يمثّل رصيدا رمزيا يحفظ الحق
الفلسطيني، وهو ما لم يحقّق عُشُره محمود عباس ونهجه المتخاذل.
وما يمكن أن يعدّ من الخسائر السّياسة ظاهرا
بالنسبة إلى الفلسطينيين هو مكاسبُ في الحقيقة. فقد مكّنتهم عملية "طوفان
الأقصى" من كسر الوهم. وجعلت الذين يعوّلون على الدّعم العربي أو الإسلامي
منهم يدركون اليوم أنهم يقفون وحدهم في المعركة. فالقيادات العربية وجدت في نهج
مفاوضات أوسلو تخلصا من التزامها نحو القضية. وإيران التي تنتج خطابا ناريا كلّما
تعلّق الأمر بالحقّ الفلسطيني، تقصر همّها اليوم في حلم القنبلة النووية. وكلّ ما
تُحدث من صخب ليس سوى تجييش للرأي العام الدّاخلي وشحذ للهمم لتحقيقه. فكيف لمن لم
يرد الفعل على مقتل علمائه وتخريب برامجه النووية أو مقتل قائده قاسم سليمان أن
يردّ الفعل لقتل الفلسطينيين؟ وهلالها الشيعي الذي يبدي التمرّد على الخط العربي
المهادن لا يتحرّك إلا وفق مصالحها.
ـ 4 ـ
على المستوى المالي، أسقطت الحرب أسطورة
مناعة الاقتصاد الإسرائيلي أمام الحروب. فقد ارتفع مؤشر الأسعار عامة من 2إلى 9
وتراجعت قيمة الشيكل وارتفعت نسبة التضخّم. وسجّلت ميزانيتها عجزا في بداية العام
الحالي وصل إلى 7 مليار دولار بسبب زيادة الإنفاق الحكومي لتمويل الحرب. أضف إلى
ذلك الصعوبات التي تشمل مختلف المجالات. فزراعتها تعيش أزمة عميقة خاصّة أنّ نسبة كبيرة من الخضراوات التي تستهلكها تأتي من
غلاف غزة. ويشهد سوق الشّغل لديها صعوبات بدوره. فقد ارتفع معدل البطالة
وسُرّحت الأعداد الكبيرة من العمّال بعد انكماش الاقتصاد بسبب تراجع النشاط
وانخفاض معدل النمو. ووفقا للتقارير المحينة فقد خفضت منظمة التعاون الاقتصادي
والتنمية "أو إي سي دي"
(OECD) توقعها لنمو اقتصادها خلال العام الحالي إلى 1.9% بدلا
من 3.3% كانت متوقعة قبل حربها على القطاع.
صحيح أنّ غزة محاصرة وعلى مشارف مجاعة وأنّ
تكلفة الحرب عليها ثقيلة جدّا من النّاحية الاقتصادية. لكنّ الغزاويين أصحاب الأرض
وضحايا العدوان الإسرائيلي وهدفهم هو استعادة أرضهم الذي تهون معه كل التضحيات.
أما الإسرائيلي فانتهازي يأتي بحثا عن رفاهة يفتقدها بلاده الأصلية. وكل ما يحل به
يحسب في ميزان الخسائر لأنّ تطلعاته هي الربح دون تضحيات هو ليس مستعدّا لها.
ـ 5 ـ
تدعونا المصادرات إلى من مراجعة الكثير من
ممارساتنا أو قناعاتنا. فانتظار هدية من إسرائيل أو مساعدة من الولايات المتحدة
والتسليم بكونها راعية للسلام أمر مناقض لمنطق السياسية. ولا يمكن أن نجعله في
خانة السذاجة وإنما في خانة التخاذل والتفريط المعلن في القضية. فقد أثبتت الوقائع
التاريخية أنه خيار مفلس أضاع على القضية
وقتا طويلا ثم ذهب بنضالات حركة فتح للأسف. أمّا الانخراط في لعبة تقديم تنازلات
وتصديق الوعود الكاذبة فحماقة وقعت فيها منظمة التحرير بعد مغادرتها لتونس لتجد نفسها
محاصرة في رام الله تضطلع بدور الشرطي الذي يحرس أمن إسرائيل. وحينما حاول عرفات
أن يتدارك زلّته كان الوقت متأخرا جدا.
لا سبيل لتحرير فلسطين دون المرور بتحرير ساسة العالم المرتهنين للوبي الصهيوني. لقد استولت الصهيونية على العقول ونجحت في جعل وصول السّاسة إلى سدّة الحكم رهين مناصرتهم لإسرائيل.
المفارقة هنا أنّ التعويل على المواجهة
المسلحة وحدها مغامرة تؤلم إسرائيل أحيانا وتجعلها تتراجع خطوة، لكنها ليست قادرة
وحدها على حسم المعركة. ولا بد للمناضل الفلسطيني عندئذ من أن يضع في الاعتبار أن
هذا الكيان اللقيط استثمار غربي لن يقبل المستثمرون خسارته. ولنفترض أنّ المقاومة
كسرت شوكة إسرائيل وألحقت بها الهزيمة، فإنّ الدول العظمى ستتدخّل عندئذ.
والمؤشرات على ذلك بانت جلية في طوفان الأقصى. فقد هددّت أمريكا صراحة بالتدخل في
حال تحركت الجبهة الشمالية التي يسيطر عليها حزب الله. واستعملت صواريخها لإسقاط
المسيرات الإيرانية في عملية "الوعد الحقّ"، والأمر نفسه قامت به كل من
بريطانيا وفرنسا.
ـ 6 ـ
ففضلا عن المقاومة المسلحة التي يكفلها
القانون الدولي لا بد من ضبط إستراتيجيا طويلة الأمد وخيارات عملية. ولا بأس من الإفادة من استراتيجيات العدو نفسه. فتوطين اليهود في فلسطين فكرة عمرها اليوم قرنين وربع، كما أسلفنا. ومازال
الصهاينة يعملون على تنفيذها بلا هوادة جاعلين من تأسيس "وطن قومي لليهود" قضية كل منتسبي هذه الديانة في العالم.
فيسهمون في تحقّقها مهما كان انتماءهم الجغرافي ومهما كانت جنسيتهم أو منزلتهم
الاجتماعية أو موقفهم من الدّين. ويتنافسون في إظهار الولاء إليها أكثر من ولائهم
إلى أوطانهم الأصلية. ولنا في التسويق للوجبات السّريعة بعد 7 أكتوبر خير مثال.
فقد حوّلت مطاعمها دعمها للحرب على غزّة إلى موضوع للتنافس. وجعلته مضمون حملاتها الدّعائية. فنشرت دومينوز بيتزا
فيديوهات لتوزيع البيتزا على جنود
الاحتلال وصورا لعلم إسرائيل معلّقة "من يستطيع أن يهزمنا"؟ وأعلنت مطاعم
ماكدونالدز الأميركية للوجبات السريعة في إسرائيل، عن تقديم 4 آلاف وجبة يوميا على
هؤلاء الجنود فيما نشر حساب برغر كينغ صورا لتوزيع وجبات مجانية عليهم مرفوقة
بالعبارة "خرجنا لتقوية الأمة، فِرقنا تعمل بجد لمواصلة التبرع بآلاف الوجبات
لأبطالنا، برغر كينغ يرسل التعازي إلى عائلات الضحايا".
ـ 7 ـ
لا بد إذن من اتجاه ثالث في المقاومة يختلف
عن "غصن الزيتون" و"بندقية الثائر" دون أن يلغيهما. ويتمثّل
الرّهان الأكبر في قلب المعادلة. فلا سبيل لتحرير فلسطين دون المرور بتحرير ساسة
العالم المرتهنين للوبي الصهيوني. لقد استولت الصهيونية على العقول ونجحت في جعل
وصول السّاسة إلى سدّة الحكم رهين
مناصرتهم لإسرائيل. فكيف نقلب المعادلة لنجعل من الانتصار إلى القضية الفلسطينية
انتصارا للإنسانية واختبارا لكل سياسي وحقوقي يطمح إلى كسب الناخبين؟ لن يتحقّق
ذلك إلا بالتعويل على طول النّفس وجملة من الشروط الموضوعية. منها:
ـ ألاّ يدفعنا اليأس من المنظومة العربية إلى اليأس من
الإنسان مطلقا وأن نعمل على خلق نواة لرأي عام مناصر لقضايا الحق على المدى الطويل
فلا يفتر بتراجع العنف الإسرائيلي في نشرات الأخبار. والشرفاء ومناصرو الحق
والمؤثرون على المستوى الدّولي موجودون دائما. وموجة التعاطف الطلابي مع الحق
الفلسطيني هذه الأيام خير دليل على ذلك.
معركة التحرير تقتضي إستراتيجية واضحة ومشروعا طويل النفس والتزاما شعبيا عربيا يغرس فكرة المقاومة بأشكالها المختلفة في الأفئدة بعيدا عن المواقف العاطفية.
ـ الرّهان على الدّاخل الإسرائيلي لإقناعه
بوجود بديل عن القمع المستمر للفلسطينيين بعيدا عن الاتهامات بالتطبيع. ولنا في
الثورة الجزائرية خير مثال. فقد استقطبت عديد الفرنسيين المؤمنين بعدالتها ليعملوا
على نصرتها، بل إن كثيرا منهم دفع حياته فداءً لها. من ذلك يمكننا أن نذكر أو
فرناند إيفتون الذي التحق بالثورة المسلحة سنة 1955. فأُلقي عليه القبض في 1956
وحكم عليه بالإعدام.. أو الصحفي فرنسي هنري مايو الذي ناهض الاستعمار في الجزائر
فقتله الجيش الفرنسي سنة 1956 وعرض جثته للجماهير في ساحة عامة أو موريس أودان
الذي أوقفته السلطات الاستعمارية سنة 1957 بتهمة إيواء عناصر ناشطة واتضح لاحقا
أنها قتله. وغيرهم كثير.
ـ العمل على تحرير العقل الإنساني بتقويض
الأساطير التي رسّختها الصهيونية وعلى رأسها فكرة أنّ إسرائيل دولة تقدمية
ديمقراطية يطوقها حزام من الجهل أو فكرة حتمية عودة اليهود المشردين في الشتات إلى
وطنهم المسلوب وطرد الفلسطينيين الغزاة الذين استأثروا به لقرون طويلة.
ـ يمكن لهذا النّضال أن يتحقّق على الجبهة
القانونية وقد افتتحتها جنوب إفريقيا بعد أن رفعت دعوى على إسرائيل في محكمة العدل
الدوليّة في لاهاي، هولندا في 29 كانون الأول/ ديسمبر 2023 تحت عنوان تطبيق
اتفاقيّة منع جريمة الإبادة الجماعيّة والمعاقبة عليها في قطاع غزة. والهدف من هذه
القضايا جعل الإسرائيليين المورطين في جرائم ضد الفلسطينيين محاصرين. ولعلّ
إعلان النرويج عبر وزير خارجيتها إسبن
بارث إيدي عن التزامها بتطبيق القانون
واستعدادها لاعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إذا ما تمّ إصدار
اعتقال بشأنه من قبل المحكمة الجنائية الدولية" في حدّ ذاته نصر وبداية تحوّل
كبير في المواقف الدولية.
ـ 8 ـ
لنسلّم إذن بأنّ الالتزام بالقضية
الفلسطينية عسير للأسبقية المعنوية التي حقّقها التحالف الصهيوني الإنجيلي في حشد
الرأي العام الكسول الذي يسلم بما يقدم له في الإعلام الرسمي. ولكن لنسلّم
بالمقابل بأن معركة التحرير تقتضي إستراتيجية واضحة ومشروعا طويل النفس والتزاما
شعبيا عربيا يغرس فكرة المقاومة بأشكالها المختلفة في الأفئدة بعيدا عن المواقف
العاطفية. فتضبط البرامج والتصورات العقلانية على المدى المتوسط والبعيد. وتجعل
القضية الفلسطينية فوق الاصطفاف الديني أو الحزبي أو الإيديولوجي ـ بوعي. وتقف ضد
كل من يحاول إنتاج خطاب متشنّج مولد للتشذر والتشتت والخلافات . ولعلّ ذلك أن
يتحقّق من خلال بعث منظّمة تضبط الخطط المستقبلية وسبل تحقيقها ميدانيا، فتكون
مستقلة عن الأحزاب السياسية، بعيدة عن المقاومة المسلحة حتى لا تحاصر أنشطتها أو
تكون عرضة لتجميد أموالها أو تصنيفها بالمنظمة الإرهابية. فتعاضد العمل السياسي
والعسكري دون أن تؤخذ بجريرتهما.
ختاما: لا ندّعي استشرافا للمستقبل ونقرّ
بمحدودية هذه الورقة على تقديم حلول فعلية. ولكن لنعتبرها النقطة الصفر التي تكون
منطلقا للنظر إلى المستقبل بتصوّر جديد ولنختزلها في الوعي بأنّ طريقا أخرى يجب أن
تسلك. فتعاضد المقاومة الميدانية وتعمل على الوصول معها إلى الهدف نفسه.