نظرية المقاصد هي واحدة من أبرز الإسهامات الفكرية
في الفقه الإسلامي، وقد تطورت بشكل كبير من خلال جهود علماء بارزين مثل الإمام الشاطبي
والشيخ الطاهر بن عاشور.
فقد أصل الإمام الشاطبي
(ت 790هـ) لنظرية المقاصد كركيزة أساسية للشريعة، فهو هو أول من وضع الأسس الفكرية لنظرية المقاصد
بشكل شامل في كتابه "الموافقات". ويرى أن الشريعة الإسلامية وُضعت لتحقيق
مصالح العباد في الدنيا والآخرة.
وقسّم المقاصد إلى ثلاث مراتب:
الضروريات: الأمور
التي لا تستقيم الحياة بدونها، كالدين، النفس، العقل، النسل، والمال.
الحاجيات: ما يُرفع به الحرج عن الناس ويُيسّر
حياتهم.
التحسينيات: الأمور التي ترتقي بحياة الإنسان
إلى مستوى الكمال والجمال.
وركّز على ضرورة أن يُراعي المجتهد مقاصد الشريعة
في فهم النصوص واستنباط الأحكام، مشيرًا إلى أن الغفلة عن المقاصد قد تؤدي إلى تعطيل
روح الشريعة.
أما الطاهر بن عاشور (ت 1973م)، فقد وسّع نطاق المقاصد
في كتابه "مقاصد الشريعة الإسلامية"، محاولًا إبرازها كمنهج شامل يصلح للتعامل
مع المستجدات في العصر الحديث.
ورأى أن المقصد العام للشريعة هو "حفظ نظام
الأمة وضمان استمرارها بتحقيق الصلاح في الدنيا والآخرة". هذه الرؤية أضافت بعدًا
اجتماعيًا وتنمويًا لنظرية المقاصد.
ودعا بن عاشور إلى استخدام نظرية المقاصد في
مواجهة القضايا المعاصرة، مثل قضايا التنمية، حقوق الإنسان، والمساواة. وقد ركّز على
أن المقاصد يجب أن تكون موجهة للإصلاح وتيسير حياة الناس.
وأضاف بن عاشور مقاصد مثل الحرية والعدالة كأهداف
أساسية للشريعة، مما يُظهر عمق تفكيره في توسيع المفهوم التقليدي للمقاصد.
الكاتب والمفكر التونسي الدكتور عبد المجيد النجار، وهو أحد المفكرين
والباحثين في مجال الفقه والفكر الإسلامي المعاصر، ويعتبر من المساهمين في تأصيل الاجتهاد
المقاصدي كمنهج للتعامل مع النصوص، يؤكد أيضا على أهمية النظر إلى مقاصد الشريعة لتحقيق
المصلحة العامة، ويقدم في هذه السلسلة من المقالات التي تنشرها "عربي21" مرة كل أسبوع، بالتزامن مع نشرها على صفحته على منصة "فيسبوك"، تحت عنوان "مسالك المقاصد عند ابن عاشور..
مقارنة بالإمام الشاطبي"، وفيها وجهة نظر تجديدية لنظرية المقاصد وعلاقتها بعصرنا الراهن.
تمهيد
إن التشريع الإسلامي فيما وضع له من ضبط لحياة
الإنسان وتوجيها لما فيه خيره يندرج ضمن التدبير الإلهي للكون الذي بمقتضاه يتحرك هذا
الكون بكلّ ما فيه على أساس من الحكمة والقصد في اتجاه غائي هادف، وهو ما صوره قوله
تعالى: (الأنبياء،16)؛ ولذلك جاءت أحكام
الدين مبنية على مقاصد تهدف إلى تحقيقها، مثل
كل مخلوقات الكون وحركاته في انبنائها على الحكمة.
وكما تبدو الحكمة الإلهية في كل الكائنات بالنظر
إلى ذاتها، وبالنظر إلى حركتها ضمن الحركة الكونية، فإنها أيضا تتحقق في كل تشريع من
التشريعات الإلهية، فما من حكم من الأحكام الشرعية إلا وهو منطو على حكمة موصلة إلى
الغاية من الوجود الإنساني، وهي غاية تحقيق الخلافة في الأرض بما فيه نفع الإنسان في
الدنيا والآخرة، ومجموع تلك الحكم هي المعبّر عنها في الدراسات الفقهية
الأصولية بمقاصد
الشريعة.
وإذا كانت هذه المقاصد الشرعية لا يخلو منها
أي حكم إلهي بحيث يكون كل أمر ونهي مبنيا على ما يحقق مقصداً يقرب الإنسان من تحقيق
غاية وجوده، فإنها بالنظر إلى طبيعتها تكون دوائر ثلاثا مترتبة في الكلية والجزئية
بحيث يندرج الجزئي منها في الكلي، وهو ما يؤول بالأحكام الشرعية كلها إلى الانخراط
في هذه الدوائر الثلاث في انطوائها على المقاصد ليحقق كل حكم مقصدا جزئيا، ثم يحقق
بواسطته ما هو أعلى منه إلى نهاية الدوائر.
إنّ شطرا مهما من الاجتهاد المقاصدي ينبغي أن يتوجه إلى معرفة تلك المقاصد وضبطها وتحديدها، إذ لمّا كان تقرير الأحكام مبنيا عليها وجب أن تعرف هي أولا معرفة دقيقة لتكون الأحكام المبنية عليها أحكاما صحيحة، ومن ثمة أصبحت معرفة الطرق التي يتوصل بها المجتهد إلى معرفة المقاصد ينبغي أن تكون موضوع بحث وتقرير لأنها آلات تتوقف معرفة المقاصد عليها.
إلا أن تلك المقاصد التي أنيطت بها الأحكام فكانت
كلها مبنية عليها لم تكن في مستوى البيان والظهور على نفس الدرجة التي عليها الأحكام
نفسها، بل هي متفاوتة في ذلك على درجات مترتبة بين الظهور والخفاء وبين القطع والظنّ،
بل تنتهي في بعض الأحكام إلى درجة الاحتجاب في العلم الإلهي الخاص بذاته كما في بعض
الأحكام التعبدية.
ولما كانت مقاصد الشريعة على هذا النحو من المراوحة
بين الظهور والخفاء، فإنّ شطرا مهما من الاجتهاد المقاصدي ينبغي أن يتوجه إلى معرفة
تلك المقاصد وضبطها وتحديدها، إذ لمّا كان تقرير الأحكام مبنيا عليها وجب أن تعرف هي
أولا معرفة دقيقة لتكون الأحكام المبنية عليها أحكاما صحيحة، ومن ثمة أصبحت معرفة الطرق
التي يتوصل بها المجتهد إلى معرفة المقاصد ينبغي أن تكون موضوع بحث وتقرير لأنها آلات
تتوقف معرفة المقاصد عليها. غير أن هذه الطرق التي تكشف عن مقاصد الشرع في الأحكام
بالرغم من أهميتها.. غير أنّ هذه الطرق
التي تكشف عن مقاصد الشرع في الأحكام بالرغم من أهميتها في الاجتهاد فقد كان البحث
فيها ضنينا في تراث الأصوليين والمقاصديين.
1 ـ قضية الكشف عن
مقاصد الشريعة
لقد مثلت سبل الكشف عن المقاصد الشرعية إشكالا
كبيرا أدى إلى نتائج خطيرة في الاستنباط الفقهي في القديم وفي الحديث؛ ذلك أن بعض الباحثين
قرّر أن السبل إلى استكشاف المقاصد منحصرة في ظواهر النصوص، فهي المعبرة وحدها عن مقاصد
الشرع، ولا يمكن أن تلتمس إلا منها، وكل بحث عنها في غيرها يؤول إلى تزيد في الدين
وتحكم في صياغة أحكامه، وهذه هي وجهة الظاهرية.
وانتهج آخرون وجهة مناقضة لهذه الوجهة،
فذهبوا إلى أن للنصوص ظواهر وبواطن، والمقاصد الحقيقية إنما هي قائمة في معان باطنة
لا تدل عليها ظواهر النصوص؛ ولذلك فان معرفة هذه المقاصد ينبغي أن تلتمس في هذه المعاني
الباطنة بسبل من التأويل لظواهر النصوص، وهذه هي وجهة الباطنية بأنواعها.
وليست الظاهرية والباطنية نزعتين تاريخيتين آلتا
إلى الانقراض، بل هما متجددتان في أثواب مختلفة عبر العصور، وفي عصرنا هذا بعض التحققات
لهما تظهر خاصة فيما نشاهده عند بعضهم من جمود على ظواهر النصوص عند معالجة النوازل
المستجدة لاستنباط حكم فقهي ينطبق عليها، إذ ينبغي أن لا يستنبط ذلك الحكم بناء على
مقصد لم تدل عليه ظواهر النصوص، ويكاد هؤلاء يؤولون بهذا الموقف إلى أن ينفوا عن الدين
قدرته على الوفاء بمصالح الإنسان في جميع العصور والأقطار . كما تظهر أيضا فيما يذهب
إليه بعضهم نقيضا لذلك من توهم مقاصد تشتق من معان لا صلة لها بالنصوص فتبني عليها
أحكام تؤول إلى إهدار ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وتعود بالبطلان على ما دلت عليه
النصوص بوجه القطع. وليست الدعوة المبدئية إلى إباحة الربا والمساواة في الميراث وغير
ذلك مما هو في مقامها تعللا بـ"الحداثة" ومساوقة "روح العصر" إلا
تحقيقات للنزعة الباطنية في الكشف عن مقاصد الشريعة.
كما تبدو الحكمة الإلهية في كل الكائنات بالنظر إلى ذاتها، وبالنظر إلى حركتها ضمن الحركة الكونية، فإنها أيضا تتحقق في كل تشريع من التشريعات الإلهية، فما من حكم من الأحكام الشرعية إلا وهو منطو على حكمة موصلة إلى الغاية من الوجود الإنساني، وهي غاية تحقيق الخلافة في الأرض بما فيه نفع الإنسان في الدنيا والآخرة
وقد بحث الأصوليون القدامى سبل الكشف عن مقاصد
الشريعة إلا أن بحثهم فيها اتصف على وجه العموم بالجزئية تناسبا في ذلك مع جزئية بحثهم
في قضية المقاصد بأكملها، ولعل من المظاهر
الأولى لذلك البحث ما ورد في كتب الأصول من طرائق في استكشاف العلة ليتم بها الإلحاق،
وهو ما عرف بمبحث مسالك العلة، وقد رسمت في هذا المبحث أساليب متعددة في الكشف عن علة
الحكم أي عن مقصده القريب.
ولما تطورت مباحث المقاصد الشرعية، نازعة إلى
أن تصير علما قائما بذاته تطوّر معها البحث في السبل الكاشفة عنها، فإذا هو عند الإمامين
المؤسسين للمقاصد علما قائما: الشاطبي وابن عاشور أصبح بحثا قائما بذاته هو أيضا، فوضع
كل منهما منهجا للكشف عن مقاصد الشريعة، وهي محاولة منهما تتناسب في صيغتها التنظيرية
الكلية مع ما ارتفعا به في بحث المقاصد إلى درجة التنظير والتقعيد، وسنحاول فيما يلي
أن نتبين هذا المنهج عند الإمامين بمسلك مقارن، إذ لا يمكن أن تُفهم حقّ الفهم محاولة
ابن عاشور إلا بفهم محاولة الشاطبي؛ وذلك لكثرة رجوعه إليه أولا، وللعلاقة التطورية
بين المحاولتين ثانيا.