هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
معلوم أن الانتخابات ليست غاية في حد ذاتها إنما هي وسيلة لبناء مؤسسات الدولة ضمن النظام السياسي المعتمد رسميا والمنصص عليه في دستور البلاد.
ومعلوم أيضا أن الانتخابات لا تكون نتائجها مقبولة من مختلف مكونات
المجتمع من المشاركين في المنافسة ومن غير المشاركين من الناخبين والمجتمع المدني
والمراقبين المحليين وغير المحليين ومن الشركاء الدوليين إلا إذا جرت في إطار
النزاهة والشفافية واحترام القانون والمعاييرالدولية.
فهل أن المسار الانتخابي الحاصل هذه الأيام في تونس والذي دخل مراحله
الأخيرة تنطبق عليه هذه المواصفات؟
يحتوي أي مسار انتخابي على مفاصل أساسية تحتاج إلى توفر نسبة عالية
من المصداقية فيها لا تقل عن 70% مع التسليم بوجود جملة من الإخلالات والتجاوزات
التي لا تخلو منها أي انتخابات ويبقى الفصل فيها للقضاء المختص.
ومن خلال متابعة للمسار الانتخابي الحالي في تونس يتبين ما يلي :
1 ـ المناخ الانتخابي:
وجود حالة تخبط سياسي وتدهور اقتصادي واجتماعي عمق الانقسام داخل
البلاد بين مؤيد لمسار 25 تموز (يوليو) 2021 كعملية إنقاذ للدولة والمجتمع ورافض
له باعتباره انقلابا على الديمقراطية.
ولا يزال الخلاف يحتد والصراع يشتد ويزداد الطين بلة مع ما تبديه
السلطة من عجز عن معالجة الأزمة في مختلف أبعادها والتعاطي مع الملفات الحارقة
ورفضها للحوار .
هذا السياق صنع مناخا انتخابيا تنعدم فيه الثقة بين كل مكونات
المجتمع ومع الدولة ومؤسساتها. تترجمه حالة المقاطعة السياسية والمجتمعية الواسعة والتي
تكاد تكون عامة إلا من بعض الاستثناءات. وهو مناخ يتناقض تماما مع المناخات التي
حصلت خلالها كل العمليات الانتخابية أثناء العشرية السابقة.
2 ـ الإطار القانوني:
من أهم معايير نزاهة الانتخابات وشفافيتها الإطار القانوني من حيث
منهجية صياغته وكيفية المصادقة عليه ومضامينه المتعلقة بالمترشحين والناخبين
والحملات الانتخابية والدعاية والتمويل وخاصة نظام الاقتراع الذي ينعكس حتما على
وضع المؤسسات التي ستنبثق عن العملية الانتخابية. وقد أثبتت الوقائع ولا تزال تثبت
أن الإطار القانوني لانتخابات 17 كانون الأول (ديسمبر) لم يكن تشاركيا بل كان أحادي
المصدر حيث انفردت بصياغته والمصادقة عليه السلطة التنفيذية دون التشاور مع أحد.
وكذلك اعتماده لنظام اقتراع شاذ ومتروك في كل أنحاء العالم وأحيانا يتم اللجوء إليه
جزئيا لتعديل التوازنات لا غير وقد أثبت فشله في أكثر من تجربة انتخابية في دول أخرى
من حيث تفكيك المجتمع وإثارة النعرات الجهوية والمحلية والقبلية وفتح المجال واسعا
لاستعمال المال الفاسد.
كما أدى نظام الاقتراع إلى تغيير صبغة العملية الانتخابية وتحويلها
من عملية تشريعية سينوب فيها الفائز عن كل الشعب ثم عن مواطني جهته إلى عملية
محلية محدودة في المكان بتقطيع أوصال الجهات إلى مناطق ترابية بشكل اعتباطي لا يخضع
لأي معيار كمي أو كيفي ولا أثر قانوني للتمثيل الوطني إضافة إلى ما سمي بسحب
الوكالة الذي لا يتم العمل به في أي بلد في العالم فضلا عن آلية تطبيقه غير
المحددة بدقة والمعقدة من حيث إعداد العريضة والنظر فيها ثم المصادقة عليها ثم
معاينة الشغور ثم تسديده. هذا إلى جانب حذف التمويل العمومي الذي يعزز انتقائية
الترشحات وفتح المجال لتحكم رأس المال في الانتخابات .
3 ـ هيئة التحكيم (هيئة الانتخابات):
لا يمكن وصف أي عملية انتخابية بالديمقراطية إلا إذا كانت هيئة
التحكيم التي تتولى إدارتها تتصف بالاستقلالية من حيث المواصفات التي يجب أن تتوفر
في أعضائها من نزاهة وخبرة وتمثيلية إضافة إلى منهجية اختيارهم وثقة المتنافسين
فيهم فهل تستجيب الهيئة الحالية لهذه الشروط؟
رغم انطلاق الحملة منذ أسبوع تقريبا فإن الأجواء لا توحي بوجودها في الشارع ولا في اهتمامات الناخب وأولوياته التي يطغي عليها الجانب المعيشي والتدهور الفادح والسريع للمقدرة الشرائية ومتابعة نهائيات كأس العالم ولا معني لما تعلنه هيئة الانتخابات من أرقام للمسجلين
بقطع النظر عن اختصاصات أعضائها التي تفتقر للتنوع من حيث تمثيلية
بعض القطاعات الهامة ومحدودية عددهم ونقص الخبرة لديهم في إدارة الحملات
الانتخابية فإن إبرز نقاط ضعفها أحادية اختيار أعضائها التي حصلت بقرار من السلطة
التنفيذية وخضوعها إليها. هذا إلى جانب ما أثبتته الوقائع من قلة خبرة وضعف تجربة
في إدارة العمليات الانتخابية في علاقة بالإجراءات سواء المتعلقة بالترشح والأمر
الترتيبي الذي كان من المفروض أن يصدر قبل الانطلاق في الترشحات ولم يصدر إلا بعد
انطلاقها بقرابة الشهر بعد أن صدر حكم من القضاء الإداري في صفاقس ببطلان عملية
الترشح. أو بمراقبة الدعاية الانتخابية أثناء الحملة والذي يحصل عادة بالتنسيق بين
هيئة الانتخابات وهيئة الإعلام السمعي البصري (الهايكا) عبر إصدار قرار ترتيبي
مشترك إلا أن ذلك لم يحصل وقامت بالاستحواذ على المراقبة باسم الولاية الكاملة على
الانتخابات.
4 ـ المترشح:
أمام تعقيد عملية الترشح وصعوبتها من الناحية القانونية الإجرائية
خاصة في علاقة بالتزكيات 400 لكل مترشح في ظل الاستبعاد الضمني للأحزاب وما انجر
عنه من تضارب في التصريحات السياسية الرسمية وفي تصريحات أعضاء الهيئة بين الإجازة
والمنع فقد اضطرت هذه الأخيرة للتمديد في آجال الترشح في مخالفة صريحة للمعايير
الدولية وذلك لتغطية النقص الفادح في الاقبال على الترشح دون جدوى حيث بقيت سبع دوائر في الخارج دون مرشحين وإحدى عشر دائرة في الداخل بمرشح واحد والغريب أن
الهيئة أعلنت أن الحملة ستقع في تلك الدوائر وأنها ستراقبها وقد تلغي نتائجها في
حالة وجود تجاوزات دون أن تعلن عن كيفية إجبار مترشح واحد فائز آليا على القيام
بحملة انتخابية؟
5 ـ الناخب:
رغم انطلاق الحملة منذ أسبوع تقريبا فإن الأجواء لا توحي بوجودها في
الشارع ولا في اهتمامات الناخب وأولوياته التي يطغى عليها الجانب المعيشي والتدهور
الفادح والسريع للمقدرة الشرائية ومتابعة نهائيات كأس العالم ولا معنى لما
تعلنه هيئة الانتخابات من أرقام للمسجلين خاصة في ظل اعتماد التسجيل الآلي الذي
يزيد من إضعاف نسبة المشاركة ولا يساعد على الحد من العزوف الذي ستكون نسبته الأعلى
مقارنة بكل المحطات الانتخابية السابقة بسبب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية
وانعدام الثقة في الطبقة السياسية وعجز منظومة 25 تموز (يوليو) عن معالجة الأزمة .
ضمن هذا السياق تتعدد القراءات لمآلات العملية الانتخابية الجارية الآن
في البلاد بين من يراها المحطة الأخيرة في استكمال بناء منظومة الحكم الحالية
ومنطلقا لاستقرار سياسي البلاد في أشد الحاجة إليه .
وبين من يراها الضربة القاضية لبقايا البناء الديمقراطي للعشرية
السابقة ومحو كل مكاسبه .ومن يراها عنصرا إضافيا لتعميق الأزمة دون وجود
أفق للحل ويبدو أن السناريو الأخير هو الأرجح رغم ما يلفه من غموض قد يزيد الوضع
تأزما.
*كاتب
وناشط سياسي