يعيش العالم هذه الأيام على وقع نهائيات
كأس العالم لكرة القدم 2022
في
قطر.. ومنذ انطلاق أول دورة لكأس العالم في ثلاثينيات القرن الماضي في الأرغواي
بأمريكا الجنوبية ولعبة الجلد المدور أكثر الرياضات شعبية وأهمية وتأثيرا في
الرأي
العام الدولي شعوبا وأنظمة.
وقد كشف الدورة الحالية التي ينظمها أول بلد
عربي مسلم عن عدة أبعاد
لم تبرز في الدورات السابقة لعل أهمها ما برز من عنصرية مقيتة لدى نخب بعض الدول
وجدل عقيم حول فوز قطر بالتنظيم، والذي تمحور حول التشكيك في قدرتها على ذلك نسبة
لصغر حجمها وعدم جاهزيتها حينها.. ومع تحقق ذلك تحت راقبة "الفيفا" تحول
التشكيك والدس إلى كيفية التنظيم خاصة في علاقة بهوية البلد المنظم وخصوصياته
الثقافية والدينية التي تعمدت بعض الفئات والجماعات الدولية محاولة انتهاكها باسم
حرية التعبير والحريات الشخصية.. وبلغ الأمر حد تنظيم حملات لمقاطعة المونديال في
قطر بالحضور أو حتى المتابعة.. بل والذهاب لحد قطع البث في الأماكن العامة في بعض
الدول الأكثر تطرفا وعنصرية وعنجهية استعمارية.
ومع انطلاق الدورة وما أبدته قطر من قدرة غير مسبوقة على التنظيم وما
وفرته من إمكانيات وما مارسته من صرامة تجاه محاولات الانحراف بمسار المونديال
مسنودة في ذلك "بالفيفا"التي تعاملت بحيادية ونزاهة في علاقة بدورها
كمنظمة دولية ممثلة لكل الشعوب قبل الأنظمة وأعطت في ذلك درسا لغيرها من المنظمات
الدولية وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة.
بينت فعاليات المونديال عدم وجود الحواجز الاستعمارية المفتعلة في وجدان الشعوب وخاصة العربية والإسلامية وشعوب العالم الثالث وتطلعاتها نحو الوحدة والحرية والتعاون والمصير المشترك
فقد جعل المونديال من قطر الدولة الخليجية الصغيرة في حجمها كبيرة
بسياساتها ورهاناتها وقوتها الناعمة في أعين كل شعوب العالم بالخصوص الشعوب
العربية والإسلامية وكل الدول والقوى الحية والنزيهة. رغم كل المحاولات التي حصلت
وتحصل وآخرها ما يروج الآن حول ما سمي" بقطر غيت" المتعلق "باللوبينغ"
الذي قامت به في علاقة بالمونديال رغم أن حشد الدعم في الغرب غير ممنوع قانونيا.
هذا في مستوى التنظيم أما في علاقة بفاعليات الدورة ونتائجها
وانعكاساتها فقد أكدت أيضا أن للشعوب رأيا اخر بعيدا عن حسابات الأنظمة وإكراهات
السياسة رغم أن الرياضة عموما وكرة القدم خصوصا في قلب السياسة وقد برز ذلك من من
خلال الحضور المتميز للقضية الفلسطينية لدي الجمهور الحاضر في قطر ولدى الجمهور
المتابع من خلال الشاشات وخاصة لدى الجماهير العربية والإسلامية التي أكدت أنها مع
الحق الفلسطيني قلبا وقالبا ومع تحرير القدس وغير معنية بحسابات الأنظمة وإكراهاتها
وصفقاتها التطبيعية أيا كانت عناوينها ومسوغاتها.
كما بينت فعاليات المونديال عدم وجود الحواجز الاستعمارية المفتعلة
في وجدان الشعوب وخاصة العربية والإسلامية وشعوب العالم الثالث وتطلعاتها نحو
الوحدة والحرية والتعاون والمصير المشترك.. وقد برز ذلك في علاقة بالشعوب الخليجية
وتفاعلها مع فوز السعودية على الأرجنتين وتجاوزها لخلافات الأنظمة وحساباتها وكذلك
بين شعوب المغرب العربي عند ترشح المغرب للدور النصف النهائي، حيث كان التفاعل
الشعبي مغربيا وجزائريا وتونسيا وموريتانيا وليبيا مشتركا ومتجاوزا لما وضعته
السياسة من حواجز لتكريس التجزئة والهيمنة الاستعمارية غير المباشرة.
كما كشفت بعض تفاعلات الفرنسيين مع مقابلة فريقهم مع الفريق المغربي
عن عمق الانفصام الحضاري والفجوة النفسية بين قيم الغرب وشعاراته وبين وعي بعض
الشعوب وسلوكياتها وعن حجم توظيف السياسيين وخاصة اليمينيين منهم ضد المهاجرين
واندماجهم في مجتمعات ساهموا مساهمة فعالة في بنائها، وأكبر دليل على ذلك المنتخب
الفرنسي المتكون تقريبا من 11/9 من لاعبين من أصول غير فرنسية حيث يبدو للمشاهد من
الوهلة الأولى أنه فريق لإحدى الدول الإفريقية.
و أظهر مونديال قطر2022 تطورا نوعيا لكرة القدم العالمية من حيث إدارة
"الفيفا "وفنيات اللعب الجماعي والإبداعات الفردية للاعبين ونجاعة
التحكيم وأظهر أن وراء ذلك استثمارات مالية مهمة وإدارة قائمة على النجاعة
والتخطيط والبرمجة وفق معايير الجودة من أجل تنمية قدرات الشباب والبحث عن
المبدعين منهم واحتضانهم ورعايتهم دون تمييز أو فوارق، الشيء الذي جعل الأندية
العالمية تتحف البشرية في كل دورة بنجوم جدد بعد عمل ممنهج وجهد مدروس معتمد على أكاديميات
تابعة للفرق وللدولة في كل المدن والقرى للاستثمار في كرة القدم.
الأمر الذي جعل عديد الدول تهيمن على اللعبة لعقود وجعل المغرب في
المستوى الذي ظهرت به ويتطلب من عديد الدول ومن بينها بلادنا تونس مراجعات في
العمق للأطر القانونية والسياسات وتجديد للهياكل والمؤسسات والمسيرين لفتح المجال
لانطلاقة جديدة لكرة قدم عصرية قوامها النجاعة والفاعلية والإبداع ورفع الراية
الوطنية.
*كاتب وناشط سياسي تونسي