بإسدال الستار على الدور الثاني من الانتخابات التشريعية يوم 29 كانون
الثاني (يناير) الماضي بنسبة مشاركة معلنة بـ 11,4% دون أن تكون أفضل من سابقتها
في الدور الأول فقد وصلت الاجندة السياسية المعلنة في17 كانون الأول (ديسمبر) 2021
إلى نهايتها بحصيلة لن تؤدي إلى الاستقرار السياسي ولن تعيد الثقة للمؤسسات
المالية الدولية ولا إلى المستثمرين خاصة بعد التخفيض مرة أخرى في الترقيم السيادي
للبلاد والمواقف المطالبة بالعودة للديمقراطية.
ولا عبرة بتبرير تدني نسبة المشاركة بانهيار ثقة الناخبين في
البرلمان لأن العزوف لم يحصل في الانتخابات التشريعية فقط بل حصل في الاستشارة الإلكترونية
وفي الاستفتاء على الدستور بما يعني أن العزوف بمخلتف منطلقاته من مقاطعة أو
لامبالاة معتادة أو طارئة إنما هو رفض لمسار 25 تموز (يوليو) بعد سنة ونصف من
تجميع كل السلطات الذي زاد
الأزمة تفاقما وحول الحالة الاقتصادية والاجتماعية
للبلاد إلى حالة يصعب تداركها إلا أن هذا لا يعني العودة إلى منظومة 2019. كما أن
القول بأن نسبة العزوف 30% وليست 90% لأن نسبة المشاركة في انتخابات 2019 كانت
تقريبا 40% إنما هو إمعان في تزييف الوعي ومغالطة
الرأي العام لأن نسبة المشاركة
يقع احتسابها بالاستناد إلى عدد المسجلين مثلما يتم احتساب نسب الفوز بالاستناد إلى
عدد المقترعين .
ولنفترض جدلا أن الصورة السلبية للبرلمان هي السبب في تدني نسبة
المشاركة وهو بذلك أمر خاص بالانتخابات التشريعية فقط، فهل تقبل السلطة التحدي
وتدعو لانتخابات رئاسية سابقة لأوانها تحسم بنتائجها الجدل وتبطل ادعاءات المدعين
على حد تعبيرها بفشل مسار 25 تموز (يوليو) وفشل مشروع البناء القاعدي وتحصل على
تفويض تؤكد به عمقها الشعبي وتمضي به على بينة وتعاقد واضح مع مواطنيها؟
يبدو أن ذلك مستحيل رغم ما فيه من عقلانية ومنطقية وأن حصيلة الأجندة
قد ذهبت بحديث الشرعية والمشروعية لتحل محله
سياسة الأمر الواقع والهروب إلى الأمام،
فالدستور قد دخل حيز التنفيذ والبرلمان سينطلق في العمل مع بداية شهر آذار (مارس)
ضمن صلاحياته المحدودة ودون وجود للغرفة الثانية وقد يتم الذهاب إلى محطة انتخابية
أخرى قريبا لمجلس الأقاليم والجهات وربما للمجالس البلدية، كما أن الأزمة
الاقتصادية والاجتماعية مضخمة ومفتعلة ومن مخلفات العشرية الماضية دون اعتبار لما
حصل في السنة والنصف الماضية من فشل في إقناع صندوق النقد الدولي بتمويل الميزانية
وتخفيض وكالة موديز الدولية للترقيم السيادي للبلاد من caa1 إلى caa2 مع آفاق سلبية بما يعني إمكانية العجز
عن سداد الديون الخارجية الذي يؤدي إلى طلب جدولتها والذهاب إلى نادي باريس وحتى
مقاومة الفساد فقد حصل فيها تراجع ملحوظ بأربعة درجات مقارنة بترتيبها السابق حسب
منظمة الشفافية الدولية وخاصة في علاقة بالتعامل مع الصفقات العمومية التي لها
علاقة مباشرة بلوبيات المال والأعمال الجاثمة على الاقتصاد الوطني.
في المقابل نجد المعارضة لا تزال مشتتة ومتنافرة يغلب على آدائها
الحسابات الضيقة والعجز عن طرح نفسها كبديل ديمقراطي لإنقاذ البلاد من إمكانية
الانهيار الشامل .
أما أطراف المجتمع المدني التي كان بإمكانها أن تلعب دور الوسيط
القوي القادر على جمع الفرقاء الوطنيين حول طاولة الحوار مثلما حصل سنة 2013 مع
اختلاف السياقات والتموقعات والحسابات فإنها في وضع لا تحسد عليه، فسياسة المنزلة
بين المنزلتين التي سلكتها منذ 25 تموز (يوليو) 2021 قد اسنفذت أغراضها ولم تعد
تسعها فهي لا تقدر على الاصطفاف وراء السلطة ولا على معارضتها وتطور الأحداث يفرض
عليها الحسم في أحد الإتجاهين خاصة في علاقة بقانون المالية والإصلاحات الاقتصادية
والتزامات الحكومة تجاه صندوق النقد الدولي إضافة إلى ملف الحقوق والحريات
والديمقراطية .
لقد أهدرت المنظمات الوقت بترددها وتذبذبها الذي أتاح الفرصة للسلطة لتشكيل أمر واقع زاد في تعقيد الأزمة، كما أن هندستها للمبادرة لم تختلف في جوهرها عن حوار السلطة الذي أطلقته قبل الاستفتاء، حيث كرست تقسيم التونسيين بين مجتمع مدني مشارك وأحزاب سياسية مستثناة ودعمت بشكل غير مباشر حملة ترذيل السياسة والسياسيين ومشروعية إقصائهم
في هذا الاطار تأتي المبادرة التي أعلنت عنها أربع منظمات وهي على
التوالي الاتحاد العام
التونسي للشغل وعمادة المحامين ورابطة حقوق الإنسان
والمنتدى الاقتصادي والاجتماعي يوم الجمعة 27 كانون الثاني (يناير) الماضي في ندوة
صحفية ودون مشاركة اتحاد الصناعة والتجارة واتحاد الفلاحين والتي جاءت متأخرة جدا
بل في الوقت بدل الضائع في علاقة بحاجة البلاد لإنقاذ حقيقي وجهته واضحة وهي
الحوار الوطني الجامع لكل الأطراف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية دون استثناء إلا
من استثني نفسه.
لقد أهدرت المنظمات الوقت بترددها وتذبذبها الذي أتاح الفرصة للسلطة
لتشكيل أمر واقع زاد في تعقيد الأزمة، كما أن هندستها للمبادرة لم تختلف في جوهرها
عن حوار السلطة الذي أطلقته قبل الاستفتاء، حيث كرست تقسيم التونسيين بين مجتمع
مدني مشارك وأحزاب سياسية مستثناة ودعمت بشكل غير مباشر حملة ترذيل السياسة
والسياسيين ومشروعية إقصائهم الذي يعد في جوهره ضربا للديمقراطية إضافة إلى إقصائها
لتوجهات فكرية بعينها من التركيبة المعلنة للجان الحوار .
هذا من حيث الشكل أما من حيث المخرجات المنتظرة فإن سقفها مهما انخفض
لن ينزل تحت المطالبة بمراجعة بعض الإجراءات في قانون المالية وموضوع الرفع
التدريجي للدعم والتشاركية في القيام بالإصلاحات الاقتصادية وخاصة إصلاح المؤسسات
العمومية وبعض الإجراءات لمعالجة تدهور المقدرة الشرائية إلى جانب التراجع عن
المسار الانتخابي المتعلق أساسا بالانتخابات التشريعية. هذه المخرجات المرتقبة
للمبادرة سيتم التوجه بها لرئاسة الجمهورية التي لا يبدو أنها ستتفاعل إيجابيا
معها من خلال ما يتم إعلانه باستمرار إلا رجوع إلى الوراء ومن خلال الرسائل
المباشرة وغير المباشرة الموجهة خاصة لاتحاد الشغل في علاقة بالتعددية النقابية
وموضوع الاقتطاع المالي وبشرعية القيادة الحالية وموضوع المؤتمر الاستثنائي وكذلك
بطبيعة العمل النقابي والتوظيف السياسي في علاقة بإضراب موظفي شركة الطرق السيارة
وإيقاف الكاتب العام لنقابتها.
إن كل المؤشرات تدل على رفض المبادرة وما يمكن أن يصدر عنها من
مخرجات فهل سيبقى بعد ذلك لهذه المنظمات من بديل للإنقاذ؟ وأي إنقاذ؟ هل هو إنقاذ للبلاد
أم إنقاذ لنفسها بعد أن فقدت كل أوراقها للقيام بدور الوسيط القوي والنزيه؟
*كاتب وناشط سياسي تونسي