هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يُنظر في أوساط السلفيات المعاصرة إلى (شيخ الإسلام) تقي الدين بن تيمية بوصفه مرجعية دينية محترمة ومقدرة، خاصة في تقريراته لمسائل الاعتقاد، المطابق لما كان عليه السلف الصالح، والمدافع عن توجهاتهم الدينية، والمجادل لمخالفيهم من الاتجاهات العقائدية المختلفة من أهل الملة الإسلامية.
لكن، ووفقا لباحثين فإن ذلك الاحتفاء السلفي بابن تيمية، والاهتمام الشديد بإنتاجه الديني، اقتصر في أغلب جوانبه، ومعظم اهتماماته على الجوانب العقدية والأصولية والفقهية، وغاب عنه غيابا شبه تام الاهتمام بابن تيمية الفيلسوف والمتكلم، الذي درس الفلسفة والمنطق دراسة متأنية وواعية وعميقة، خرج منها بدراسات وأبحاث نقدية هامة.
ذلك الغياب في أوساط تلك السلفيات، مع استثناءات محدودة، مدعاة لإثارة تساؤلات حول أسباب ذلك، فما الذي منع جماهير السلفيين المتابعين لابن تيمية من الاحتفاء بإنتاجه المنطقي والفلسفي؟ ولماذا لم يبنوا على تجربته الموسوعية في دراسة علوم عصره والتمكن منها، والتفوق فيها، لدراسة الاتجاهات الفكرية والفلسفية المعاصرة ومناقشتها ونقدها، والإفادة من نافعها كما فعل من قبل؟
الباحث المصري المتخصص في الدراسات العقائدية، علاء إسماعيل، لا يتوافق مع ذلك التوصيف الذي يرى أن ابن تيمية الفيلسوف كان غائبا عن اهتمامات السلفيين المعاصرين، ويؤكد أن "التراث الفلسفي لابن تيمية لم يكن غائبا عن السلفية لا قديما ولا حديثا، فللعلامة عبد العزيز آل عبد اللطيف تعليق وشرح على كتاب (نقض المنطق) لابن تيمية، وشرحه محرر وقوي في بابه، وبه إحالات مهمة لكتب المناطقة وأهل الكلام".
علاء إسماعيل.. باحث مصري
وواصل استدلالاته على اهتمامات السلفيين بابن تيمية الفيلسوف بالقول: "وعلى منواله كتاب الدكتور سعود العريفي (النقد التيمي للمنطق)، وللعلامة سليمان بن صالح الغصن مشاركة كلامية قوية في كتابه (موقف المتكلمين من استدلالات الكتاب والسنة)، ومنها كتاب الدكتور صالح الرقب (منهج المتكلمين في إثبات وجود الخالق)، وكتاب الدكتور يوسف الأحمد (منهج المتكلمين والفلاسفة في الاستدلال.. عرض ونقد)، وهي رسالة دكتوراة".
وأضاف في حديثه لـ"عربي21": "وكذلك كتاب الدكتور عبد الله الجديع (العقيدة السلفية في كلام رب البرية)، ويقع في مجلد ضخم، ناقش فيه الجديع دقائق المتكلمين في الأفعال الاختيارية وحلول الحوادث، والتي تنبثق منها مسألة الكلام، ومُعضلة الحدوث والقدم، ومن ذلك أيضا مصنفات الدكتور عبد الرحمن القاضي في مسألة التفويض، وتميم القاضي له مصنف جليل بعنوان (قلب الأدلة على الطوائف المضلة".. ولا ننسى أيضا مصنف الدكتورة كاملة الكواري في مسألة تسلسل الحوادث، وهو أوسع كتاب ناقش المسألة من منظور ابن تيمية..".
ولفت إسماعيل إلى أن "كل ما سبق مجرد أمثلة لمصنفات سلفية، يوم أن كان يُذاع أن السلفية لا علاقة لها بالمنطق والكلام، والحقيقة أن جهودهم كانت موجودة، لكن لم تكن مشهورة عند التيار الشعبي للسلفية، ومن جهة أخرى من تأمل جهود أساتذة دار العلوم والمحسوبين على السلفية فكرا ـ في مفهومها الواسع ـ سيجد حضورا للتراث الفلسفي عندهم بشكل رئيس، ومنهم الدكتور محمد السيد الجليند ومصنفاته في علم المنطق والكلام .. وغيره الكثير من أساتذة الدار".
وخلص إلى أن "الأبحاث الكلامية والفلسفية كانت موجودة عند السلفية في السنين السابقة، لكن لم تكن مشهورة ولا أخذت حيزا يليق بها من الاهتمام عند السلفية الشعبوية، ولعل سبب عدم شهرتها عندهم أنها كانت محصورة في أروقة البحث العلمي والمجال التخصصي، ولم تكن مشهورة عند العوام وطلبة العلم، لعدم وجود التحديات أو الحاجة إلى إخراجها ودراستها وهناك أسباب أخرى، لكن هذه أهمها".
من جهته قال الباحث والداعية السلفي المغربي، حسن الكتاني: "التيارات السلفية كلها تعد شيخ الإسلام ابن تيمية إمامها.. فإذا قالت حذام فصدقوها، فإن القول ما قالت حذام، فهم يعدون كلام ابن تيمية كلاما ثقيلا، وهم بهذا لا يقدسونه، بل هو مقدم ومقدر، وقد خالفه علماء منهم قديما وحديثا في العقيدة والفقه".
حسن الكتاني.. باحث مغربي
وأضاف: "من الضروري الإشارة إلى أن التيارات السلفية المعاصرة تنقسم إلى عدة أقسام، فليسوا كلهم على مستوى واحد من الفهم والخلفية العلمية والثقافية، فمنهم أناس شعبيون، ومنهم أساتذة كبار في الجامعات متعمقون، وفي ما يخص الجانب العقلاني والفلسفي فيوجد من بين السلفيين من اهتم به، ونسج على منواله، وأفاد منه كثيرا".
وأردف: "من هؤلاء الدكتور سامي العامري، فله كتابات تنحو هذا المنحى، وكذلك الدكتور عبد الله العجيري في شروحاته ودروسه المنهجية في شرح وتدريس كتب ابن تيمية، والدكتور سلطان العميري في مصنفاته ودروسه المنهجية في صناعة المحاور، وكذلك الدكتور فارس العجمي باهتماماته العميقة بالعلوم العقلية".
وعن مدى إفادة السلفيين المعاصرين من تراث ابن تيمية العقلاني، أوضح الكتاني أن أساتذة كثيرين أفادوا من ابن تيمية في هذه المجالات، وبنوا على منهجيته في البحث والنظر، وأخذوا عنه تقريراته ومسالكه في تقرير الأدلة العقلية، والرد على المخالفين، ومناقشة أصولهم وتفنيد آرائهم ومناقشة مقولاتهم، وهذا بالطبع يتفاوت بين منظر وآخر من أتباع المدرسة السلفية".
بدوره رأى الباحث المغربي في التراث والفلسفة، يونس الخمليشي، أن "اعتناءات السلفية المعاصرة بابن تيمية كانت تهم ابن تيمية العقدي بالدرجة الأولى، ثم الجانب الفقهي، فالجانب الأصولي منه بدرجة أقل، لكن ابن تيمية المفكر غائب تماما عن هموم السلفية المعاصرة، سواء الجانب الكلامي من فكره أو الفلسفي أو المنطقي".
يونس الخمليشي.. باحث مغربي
وأرجع في حواره مع "عربي21" ذلك إلى عدة عوامل، من أبرزها: غياب المباحث الفلسفية والكلامية والمنطقية عن المناهج التعليمية السلفية، وبالأخص في المجالس غير الأكاديمية منها أكثر، ومرد هذا الغياب يعود إلى أن البنية المعرفية السلفية تقوم على الأثر والحديث، وكل ما له التصاق أكثر بالوحي، من حيث المنهج والمفاهيم والاستدلالات، أو حتى من حيث الألفاظ والمصطلحات".
وتابع: "ومما يدلل على هذا أن ذم الكلام والفلسفة والمنطق دارج جدا في الآثار والأخبار السلفية (وغير السلفية أيضا لكن بدرجة أقل بكثير)، سواء أكان قدحا أو تحريما، وهذا يعكس نمطيْ وجود وعمل البنية السلفية المعاصرة الفكرية".
وأردف: "ومن أسباب ذلك تنميط المهموم بالكلام والمنطق والفلسفة بالجرأة على البدعة، ولا سيما أن غالب من اشتغل بهذه المعارف تبدَّع بها، إن كليا أو جزئيا، ناهيك عن أن أغلب الباطنية والملاحدة والزنادقة كانت تكئة لهم، وكانوا من المشتغلين بها".
وعن اشتغال ابن تيمية بهذه العلوم والمعارف أكدّ الخمليشي أنه "يعد باشتغاله بها نقيضا لصنيع السلفية المعاصرة هذا، ومسوغ هذا في نظرهم أن ابن تيمية حاد الذكاء، أثري النظر، عارف بالمخبوء والظاهر، والنافع والفاسد، سالم من المحظور الفلسفي الذي قد يوقعه في براثن البدعة، فهو متكلم ومنطقي لا لذاتي الكلام والمنطق؛ وإنما ليرد عليهما، وقد كفاهم بذلك مؤنة شرهما، بخلاصة ما وصل إليه، والذي هو موافق أساسا لما نقل عن بعض السلف من تجنب علم الكلام وما يتبعه".
وردا على سؤال ما إن كان السلفيون قد أفادوا من منهجية ابن تيمية في بحث ودراسة القضايا العقلية، قال الباحث المغربي: "إن السلفيين التابعين لابن تيمية قديما، كدّوا في هذا الممر كدّا، فابن القيم في ردوده على مخالفيه المتكلمة يمشط أنماط الاستدلال التيمي، ويعكس موسوعيته الكلامية والمنطقية والفلسفية، لكن هذا الكدّ بدأ يفتر شيئا فشيئا إلى أن انقطع في السلفية المعاصرة" على حد قوله.
وتابع الخمليشي: "وسبب هذا الانقطاع في نظري هو ثورة محمد بن عبد الوهاب غير التامة، ذلك أنها أحيت ابن تيمية، فمست الجانب العقدي منه، فكان رجوعا إلى ابن تيمية لم يراكمه ـ أي ابن تيمية ـ في كل علومه، بل في جانب عقدي منه..".
وخلص إلى القول: "ولو تم تثوير ما وصل إليه ابن تيمية في نقوده الخالصة للمنطق والفلسفة والكلام، ومدها إلى أقصى مداها استرسالا وإنتاجا وترتيبا وتنقيحا، مع الدخول في عراكات واشتباكات مع المتكلمين والفلاسفة والمناطقة، وتم تجذير ما تُوُصل إليه جراء ذلك في كافة العلوم الشرعية مع إعادة صياغتها وفق ذلك، لكانت المدرسة السلفية توازي المدارس الكلامية والفلسفية الإسلامية في اكتمال نظرياتها المعرفية، ورؤاها إلى العالم".