هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الصراعات والخلافات العقائدية الواقعة بين أهل الملة الإسلامية قديمة، ممتدة في الزمان وهي قائمة إلى وقتنا هذا، وهو ما أفرز الاتجاهات والأطر العقائدية المختلفة، وتولدت من رحمها الفرق العقائدية المتعددة، بمقولاتها وأفكارها وتاريخها وتراثها ورجالاتها المندرجة تحت عناوين الفرق والمذاهب الإسلامية.
وفي غمرة الخلافات العقائدية القائمة بين الاتجاهات الإسلامية المختلفة في واقعنا المعاصر، والتي اشتد أوارها في السنوات الأخيرة بين السلفية والأشعرية، كيف ينبغي للمسلم أن يتعامل مع تلك الفرق بمقولاتها وأفكارها المتعارضة؟ وهل من واجب المسلم الديني أن يلتزم عقائد بعينها في إطار أهل السنة لا يجاوزها إلى غيرها؟
ولعل من المفيد تنوير المسلم بشأن ما يدعو إليه بعض دعاة تلك المذاهب من ضرورة الالتزام بمذهب عقائدي بعينه بوصفه المذهب الحق (أشعري، ماتريدي، سلفي، معتزلي، إباضي..) وما عداه من المذاهب الأخرى يقع في دائرة الضلال والابتداع، وبالتالي ما على المسلم لو تخير من بين المذاهب ما يراه أقوى دليلا وأقوم سبيلا.. وهل يكون بذلك ضالا ومبتدعا أم ناظرا ومجتهدا؟
في هذا الإطار قرر العلامة التونسي الطاهر بن عاشور، في كتابه (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام)، أن المسلم "في ما عدا ما هو معلوم من الدين بالضرورة من الاعتقادات، مخير في اعتقاد ما شاء منه إلا أنه في مراتب الصواب والخطأ، فللمسلم أن يكون سنيا سلفيا، أو أشعريا أو ماتريديا، وأن يكون معتزليا أو خارجيا أو زيديا أو إماميا، وقواعد المناظرة تميز ما في هذه النحل من مقادير الصواب والخطأ، أو الحق والباطل، ولا نكفر أحدا من أهل القبلة..".
وتوضيحا لموقف المسلم تجاه الخلافات العقائدية القائمة في إطار الملة الإسلامية، قال الباحث والأكاديمي المصري، الدكتور أحمد الدمنهوري: "يكفي المسلم التصديق إجمالا بكل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويمكنه ألا يزيد على ذلك، فإن أراد زيادة تفصيل فيكفيه قراءة مثل عقيدة الإمام الطحاوي التي أجمعت الأمة على اعتبارها ممثلة لعقيدة الصحابة رضي الله عنهم، والتي تلقتها الأمة بالقبول..".
وأضاف: "وأما الخلافات فلا ننصح بالخوض فيها لا من قبل العامي ولا غيره، إذ قد تشوش على العامي دينه، والمسلم يحتاج إلى تصحيح قلبه بعد تصحيح اعتقاده كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في تربية صحابته، أي إنه بعد الإيمان بالأركان الستة عليه أن يشتغل بتزكية نفسه".
أحمد الدمنهوري.. كاتب وأكاديمي مصري
ولفت الباحث الدمنهوري المتخصص في العقائد، والمتبني للمذهب الماتريدي، إلى عدة علامات تفيد المسلم عند وقوع الاختلاف، منها أن "ينظر إلى المتحدث.. هل هو متخصص في ما يتحدث فيه، شهاداته، شيوخه، مؤلفاته.. لأن (هذا العلم دين.. فانظروا عمن تأخذون دينكم)، وبدهيات العقل السليم تقول: لا ينبغي أخذ أي علم إلا من أهله".
وتابع لـ"عربي21": "وعليه أن ينظر كذلك للمحتوى الذي يقدمه.. إن كان ما يقوله محل إجماع أهل العلم، فخذ قوله، لأن الإجماع واجب الاتباع.. أما إن كان ما يقوله يخالف الإجماع، فلا تأخذ بكلامه، فكل من يأتي بقول يضلل به علماء الأمة أو يدعي تجديد الدين، أو اختراع ما لا يعلمه أهل العلم بالدين من قبل، أو ليس له فيه سلف من أهل العلم، فلا تلتفت لكلامه وأنت مطمئن".
أما "إن كان ما يعرضه من كلام، قد اختلف فيه أهل العلم المعتبرين، وفي المسألة آراء فخذ برأي الجمهور أو الأغلب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (عليكم بالسواد الأعظم)، فإن لم يكن في المسألة أغلب وأقل، أو جمهور وغيرهم فخذ بأي قول شئت إن كان المتحدث ينقل قول علماء معتبرين بلغوا رتبة الاجتهاد، وشهدت الأمة بتمكنهم وفضلهم، بعد استشارة أهل العلم إن أشكل عليك شيء".
وأكدّ الدمنهوري في إجابته عن سؤال: هل يجب على المسلم الالتزام بمذهب عقائدي بعينه على أن "واجب المسلم فقط هو التصديق بكل ما جاء عن النبي صلى الله عليه سولم، والذي صح عن النبي اعتقادا وفقها وسلوكا هو ما أجمعت عليه الأمة من كون المذاهب الأربعة في الفقه، ومدرستي الأشاعرة والماتريدية ومن وافقهم في العقيدة، والتصوف الجنيدي في السلوك، وهو الذي ارتضته الأمة على مدار قرون قبل شقاق شيخ الإسلام ابن تيمية وبعده، وقبل خروج محمد بن عبد الوهاب وبعده" على حد قوله.
واستدرك بالقول: "ومع ذلك نقول: إن الانتساب إلى أهل السنة: الأشاعرة والماتريدية (وفق تحديده) لا يكون إلا لطاب العلم، وطالب العلم إذا بلغ رتبة الاجتهاد في مسألة، أو في باب من الأبواب يمكنه أن يختار ما يؤيده البرهان".
من جهته تساءل أستاذ فلسفة الدين بجامعة عبد الملك السعدي في المغرب، الدكتور أحمد بوعود: "هل يمكن أن يكون المسلمون مختلفين عقائديا؟" ليجيب بأن "الأكيد أن الإجابة المنطقية والشرعية هي أن المسلمين لا يمكن أن يكونوا مختلفين عقديا؛ فلا يمكن أن تجد مسلمين مختلفين حول أركان الإيمان الستة".
أحمد بوعود.. أستاذ فلسفة الدين بجامعة عبد الملك السعدي في المغرب
وتابع: "والذي حصل هو أنه بعد لحظة الانكسار التاريخي، أي بعد مقتل عثمان رضي الله عنه وتحول الخلافة إلى ملك، ظهرت في الأمة مجموعة من الفرق تناقش بعض القضايا العقائدية، وهي تفاصيل وممكنات للأصل العقدي لا يمكن لسائر العقول الاتفاق حولها، نظرا لاختلاف الأفهام، مع العلم أن النبي كان يوجه أصحابه إلى ما هو عملي ونابع من الإيمان، وتجنب كل جدال يمزق وحدتهم".
وردا على سؤال "عربي21" بشأن التزام المسلم بمذهب عقدي واحد لا يتجاوزه إلى غيره، تساءل بوعود: هل كانت في زمن نزول الوحي مذاهب عقدية يلتزم كل مؤمن بمذهب ما منها؟ ليجيب بأن "الأكيد أن الإجابة بالنفي، من هنا يمكن القول إنه لا حرج على المسلم عدم الالتزام بمذهب عقدي معين، ما دامت أصول الإيمان محفوظة، وما دام ذلك الخروج إلى مذهب ما في مسألة ما لا يؤدي إلى انحراف عقدي، وإلى مناقضة أصول الإيمان".
وشدد على أن "ظهور الفرق العقدية شيء حادث في الإسلام، ولا ينتمي إلى المرحلة المرجعية التي هي مرحلة نزول الوحي، بل حتى مصطلح العقيدة نفسه لم يكن متداولا زمن النبوة، وإنما ظهر في القرن الرابع الهجري".
وعن مسألة التقليد في العقائد، ذكر أستاذ فلسفة الدين المغربي بوعود أن "الشيخ ابن تيمية ذهب إلى القول بأن تقليد العاجز عن الاستدلال للعالم يجوز عند الجمهور، والتقليد المحرم بالنص والإجماع هو أن يعارض قول الله ورسوله بما يخالف ذلك كائنا من كان المخالف لذلك، ففي هذا المستوى ليس هناك إشكال في التقليد".
وأردف: "كما يمكن للمسلم القادر على النظر والاستدلال أن يتخير من كل مذهب ما يراه الأقوى دليلا، والأقوم سبيلا، ما دام أنه يحافظ على أصول الإيمان، ولا ينقاضها كما لا يناقض قرآنا أو سنة، ولا يتوصل إلى ما ينحرف به عن الدين، فعلى المسلم، عاميا كان أم صاحب نظر واستدلال أن يسعى إلى البحث عما يقوي إيمانه، والبعد قدر الإمكان عن الجدالات العقدية التي لا تثمر إيمانا، بل في معظم الأحوال تفرغ القلوب من معاني الإيمان من حيث يراد تثبت العقيدة، وهذا ما يفسر نزوع الناس نحو التصوف بعد ظهور علم الكلام".
وبدوره قال الداعية والمحاضر بجامع الأزهر، أشرف الشريف: "الأصل أن المسلمين يجمعهم دين واحد، فإذا ما ظهر بينهم خلاف وجب أن يتعاملوا بالرفق وحسن الظن والتماس العذر للمخالف ما وسع ذلك، ويجب على كل ناصح لدينه وأمته أن يحرص على تضييق دائرة هذا الخلاف بمد جسور التقارب والتراحم والتلطف بين المسلمين".
وتابع: "فإن كان المقام مقام تحرير المسائل وبيان محل الصواب، والتماس طريق الهدى والرشاد والوفاق والبعد عن سبل الهوى والضلال والشقاق؛ وجب العودة إلى ما قبل الخلاف، إلى سلف هذه الأمة، فننظر كيف كان تعاملهم مع مثل هذه المسائل العقدية، فنلتزم طريقتهم في السلوك والاعتقاد، ونكف عما سكتوا عنه".
وأردف الشريف: "وعما كان نتيجة فكر كلامي حادث في تاريخ الإسلام، وما ترتب عليه من طريقة مخترعة في الاعتقاد والسلوك بكلام مبهم، يقضي ببطلان الكتاب والسنة، وإجمال محتمل، يُحدث الاضطراب والجذب والطرد، ومصطلحات مشاقة، أصلها غربي.. والأصل في الخلافات تحرير محل النزاع، ثم تحرير المصطلحات ـ قبل محاكمتها وترتيب الأحكام عليها ـ وفق منبتها ومخاضها مع مراعاة تطورها الزماني والمكاني المؤثران في المصطلحات وتطورها..".
وتمنى الشريف في ختام حديثه أن "يرتفع صوت العقلاء لجمع الشتات، وتوحيد الكلمة في ساحة الجدل العقدي التي احتدمت بالاشتباك، وعلت فيها الفرقة بين أبناء الدين الواحد"، مؤكدا بأن "على المسلم القاصد النجاة لنفسه، والفلاح لأمته أن يلتزم نهج السلف، خير القرون، كما قال الإمام مالك (لن يُصلح هذه الأمة إلا ما أصلح أولها"، واتباع طريقتهم، وسلوك سبيلهم والسير على منهاجهم".