كتاب عربي 21

الريسوني.. مهندس "الزحف" المقدس!

طارق أوشن
1300x600
1300x600

كانت كلمات معدودة نطق بها الشيخ أحمد الريسوني في حوار له مع موقع مغربي مغمور، ظلت غير ذات معنى لأسبوعين قبل أن يتلقفها "مجهول"، ويقتطعها من ساعتين من النقاش لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا تناولها، كافية لتنطلق موجة من الردود، لم تخرج في غالبيتها عمّا يسمى بـ "الصف الإسلامي"، وكأن أصحابه كانوا على أهبة الاستعداد للنيل من الرجل وتحميله تبعات التشرذم والفرقة والفتن التي يعيشها العالم الإسلامي، العربي منه على الخصوص. لقد بدا الأمر وكأنه تصفية حساب قديم داخل الصف "الواحد" لم يتردد الريسوني في اعتباره "حملة ذات أبعاد سياسية" فيما يمكن اعتباره أول خلاف علني بين أقطاب الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

أواخر شهر حزيران/يونيو 2016، وفي المعتكف الرمضاني للناجحين في البكالوريا من أبناء حركة التوحيد والإصلاح، أشار السيد أحمد الريسوني في مداخلة له، إلى أن "أي واحد فيه الروح الإسلامية من موريتانيا، يعتبر نفسه مغربيا. موريتانيا مسألة طارئة للأسف، ولذلك فالناس العميقون في أصالتهم يعترفون أنهم مغاربة". 

بقي تسجيل المحاضرة منسيا حتى استحضاره شهورا بعد الضجة التي أثارتها تصريحات السيد حميد شباط بخصوص "مغربية موريتانيا"، باعتباره أمينا عاما لحزب الاستقلال المتبني لهذا الطرح منذ أيام علال الفاسي، وهي المواقف التي ردّ المغرب الرسمي عليها بقوة لما لصاحبها من وضع اعتباري في الحياة السياسية، بقوة المنصب الذي يتولاه. 

يومها، لم يتصد لتصريحات الريسوني إلا مجموعة من المدونين الموريتانيين وحزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية الإسلامي الذي طالبه بـ "الاعتذار" على التصريحات التي حملت "إساءة واضحة لموريتانيا، وخطأ بينا وخلطا في النظر لوقائع التاريخ المسطورة المشهودة". 

بقيت الردود في نطاقها المعقول دون تهويل أو تجريح، ودونما حاجة لاستدعاء منظمة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين واستنفار هيئاته لإصدار البيانات التوضيحية، المنتصرة للطرح الانفصالي بتسميته الصحراء المغربية "صحراء متنازع عليها"، ولا إلى مداخلات أمينه العام الشيخ القره داغي على القنوات الإخبارية الجزائرية، لتأكيد تبرؤ الاتحاد من تصريحات رئيسه وطمأنة الجمهور هناك، أو السلطات، أن الريسوني مقبل على إصدار اعتذار، تحول لمجرد توضيح، وأنه لن يترشح مجددا لرئاسة الاتحاد، وتعدى ذلك لتقييم وتنقيط الدول المعنية وأنظمتها في مسألة التطبيع التي لا علاقة لها بالموضوع. 

لم تكن هذه أول مرة تثير فيه تصريحات أعضاء الاتحاد الجدل، فعلى إثر توقيع المغرب لاتفاقية التطبيع مع دولة الاحتلال، خرج الشيخ محمد الحسن الددو لينتقص من مغربية الصحراء. لكن المغرب الرسمي والشعبي تجاهل الأمر، وحسنا فعل.

لا جديد إذن حمله الحوار الأخير للشيخ أحمد الريسوني الذي أعاد فيه تكرار ما سبق له التصريح به علنا وعلى رؤوس الأشهاد. فما الذي تغير هذه المرة، ليتم إطلاق النار عليه بشكل جماعي من كل حدب وصوب، ومن داخل الهيئة التي يقودها، سعيا على ما يبدو لإضعافه، ومن تم إبعاده عن منصب الرئيس؟

 

ستستمر موريتانيا والجزائر والمغرب دولا "مستقلة" و"ذات سيادة"، وفق الحدود الموروثة عن الاستعمار ووفق الاتفاقيات البينية والدولية المصادق عليها. لن يغير في واقع الأمر لا دعوات للزحف ولا دسائس للتجزئة ولا أوهام للتوسع أو للتقزيم. وستستمر فلسطين في حربها التحريرية، لن تنفعها الشعارات الجوفاء ولا المزايدات الفارغة، بل وحدة الصف الذي بدونه ستبقى أسيرة مؤامرات الأشقاء وهمجية الاحتلال.

 



في خضم التصريحات الأولى التي لم يصطف أبناء الحركة الإسلامية لإدانتها، وتركوا حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية وحيدا لاستنكارها، أشار كاتب موريتاني في مقال مرتبط بالموضوع أن الأمر ربما كان متعلقا بشخص الشيخ عبد الله بن بيه، حيث اعتبر ما تقول به الريسوني جزءا من "دعاية سخيفة، تندرج في إطار الحرب الشرسة التي تقودها قيادات من حركة الإخوان المسلمين، وبعض الدوائر التي تنتسب للمشهد السياسي الإخواني ضد العلامة بن بيه وتلامذته، بسبب مقارباته الفكرية الجريئة التي نسفت  الأسس الفكرية، التي قامت عليها الفتوى الدينية منذ أزيد من قرن. 

هذه المقاربة التي تدعو إلى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، ورؤية التجديد والترشيد التي طرحها العلامة الموريتاني بن بيه، والتي نسفت اجتزاء النصوص عند أصحاب الفكر المأزوم، وأظهرت بطلان تكفير الأحكام واستباحة الاقتتال بين المسلمين".

لكن أهم ما حمله الحوار الجديد للسيد أحمد الريسوني، لم يتعلق بالجمهورية الإسلامية الموريتانية، التي لم يعترف المغرب باستقلالها إلا في العام 1969، ولم تقبل الجامعة العربية بعضويتها إلا في العام 1973 لأسباب يعرف القاصي والداني أنها كانت مرتبطة برفض المغرب للتقسيم الاستعماري الفرنسي بدعم ومساندة من الدول العربية وقتها. 

الجديد، كان تأكيد الشيخ المقاصدي، وهو عالم معروف باستقلاله عن "المخزن" ودوائره، على إجماع مغربي لا تشوبه شائبة على "مغربية الصحراء". إجماع المغاربة حول مغربية الصحراء، مهما كانت خلافاتهم أو توجهاتهم أو حتى معتقداتهم، حالة فريدة لم تفلح كل المحاولات على اختراقها، وهو أمر لم تتمكن "النخبة" العربية بيسارها في الماضي وإسلامييها في الحاضر من استيعابه، أو على الأقل "التعايش" معه كحقيقة لا مناص من أخذها بعين الاعتبار. 

فهذا أحمد الريسوني، الذي لم يدخر جهدا في انتقاد النظام المغربي وفي تسفيه توجهاته، وعلى رأسها التطبيع مع الكيان الصهيوني، يؤكد لمن لا يزال عنده شك أن مغربية الصحراء قضية إجماع، بل يتعدى ذلك إلى التنويه لاستعداد الشعب وعلمائه للانضواء تحت راية الدفاع عن الصحراء في تحركات شعبية، مماثلة للمسيرة الخضراء التي يعد من المعجبين بفلسفتها، بديلا عن التوجه الرسمي الذي يراه "مسارا ذليلا وخطيرا" و"علاقة عشق حرام"، في تناغم مع انتقاده المتصل لطريقة تدبير ملف الصحراء وتغييب الشعب وقواه الحية، بما فيها العلماء، عن الإشراك حيث اعتبر أنه "وبدل الإقلاع عن هذه السياسة الظلامية اللا شعبية في تدبير معركتنا الكبرى، وبدل العودة بها إلى المشاورات الموسعة، وإلى المشاركات والمسيرات الشعبية، إذا بنا نُفاجأ بسياسة جديدة غريبة، هي أشد توغلا وإمعانا في إبعاد الإرادة والمشاركة الشعبية، سياسة مضادة وصادمة ومستفزة للشعب وعقيدته وقيمه ومبادئه ومكانته التاريخية؛ إنها سياسة الاستنجاد بدولة العدو، دولة الاحتلال والعدوان والإجرام".

لم يشفع للرجل موقفه المعلن من التطبيع، فتبرأ منه إخوانه في الداخل، على لسان عبد الإله بنكيران، الذي نفى أن تكون تصريحاته تعبيرا عن موقف حزب العدالة والتنمية، وزايد عليه إخوانه في الخارج، فاستنكروا عليه دعوته لإشراك الشعب والعلماء في تدبير القضية الوطنية الأولى، واعتبروا الأمر دعوة للغزو وإعلانا للحرب، وكأن الريسوني زعيم أممي له من التأثير ما يمنحه القدرة على تحريك الجموع.

كان خطأ الرجل أنه اعتبر مشكلة الصحراء صناعة استعمارية وتأسف على تورط دول شقيقة ودول عربية وإسلامية في دعم انفصالها، بل وفي تبني هذه الصناعة الاستعمارية، معلنا استعداد علماء ودعاة المغرب "للإقامة بالأسابيع والشهور في الصحراء، بل وفي تندوف؛ ومستعدون لمسيرة تقودنا لا إلى العيون بل لمسيرة إلى تندوف". 

ولفهم مثل هذا التصريح، كان حريا بالمنتقدين العودة لما سبق أن كتبه عن مبادرة لوزير الأوقاف المغربي السابق الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري، رحمه الله، في تسعينيات القرن الماضي، حيث قام "بمحاولة جريئة لحشد مشاركة شعبية فعالة لخدمة قضية الوحدة المغربية، وتعزيز التلاحم الديني والاجتماعي بين شمالها وجنوبها. فاتصل بأهم الجمعيات الإسلامية بمختلف أنحاء المغرب، وطلب منها ترشيح أسماء لعدد من خيرة العلماء والدعاة والخطباء والوعاظ، لإرسال أفواجهم تباعا إلى الصحراء، تحت إشراف وزارته، ولقي طلب الوزير استجابة حماسية، فورية تامة. وبدأ الدعاة يستعدون للذهاب. وفجأة توقف المشروع وأُلغي".
 
ولأننا في زمن المزايدة، فقد أنكر عليه هؤلاء تغاضيه عن الزحف لتحرير سبتة ومليلية، ونسوا الجزر الجعفرية لضعف معرفتهم بتاريخ وجغرافيا المغرب الكبير. وإن كان من فضل لهذه الضجة المصطنعة، فهو تذكير المنتقدين بالجزائر باتفاقيات ترسيم الحدود الموقعة في العام 1972، وكذا إعلان دعمهم لمغربية سبتة ومليلية حتى يقضي الله أمرا مفعولا. 

ينسى هؤلاء في خضم التذكير باتفاقية ترسيم الحدود تلك أنها مرتبطة باتفاقية ثانية، وُقعت ذات اليوم بخصوص التعاون الاقتصادي، وتحدث عنها الملك الحسن الثاني في ندوة صحفية على هامش المؤتمر التاسع للقمة الأفريقية بالقول؛ "إن الأمر يتعلق بشركة مختلطة جزائرية مغربية تتكلف بإيجاد طريقة للتمويل من أجل استخراج المعدن، الذي سينقل بواسطة السكة الحديدية من تندوف إلى إقليم طرفاية قصد تسويقه لفائدة الطرفين بشكل متعادل". 

يتعلق الأمر بمناجم الحديد بغار اجبيلات الذي أعلنت الجزائر قبل أيام عن البدء في استغلاله بشكل أحادي، فيما اعتبر خرقا لاتفاقية ترسيم الحدود بين البلدين، وهو ما لم يصدر بخصوصه أي تعليق رسمي مغربي حتى الآن. لكن الأكيد أن تذكير التصريحات والكتابات والبيانات الجزائرية بأمر الاتفاقية، على وقع ضجة تصريحات الريسوني، لم يكن اعتباطيا أو كلاما مرسلا، ويشي بـ "معركة" قادمة لن تخفيها غابة "الزحف" المزعوم على تندوف، التي تأوي منظمة مسلحة اختارت إعلان الحرب على بلد جار. 

فليس أحمد الريسوني هو الذي يستدعي الحرب بين البلدين كما عنون السيد عبد الرزاق مقري، رئيس حركة مجتمع السلم، مقالا له وفيه اعتبر رفيقه في الحركة الإسلامية "أميرا من أمراء الحروب القذرة المعطِّلة لنهضة الأمة باستدعاء مَلكه إليها"، ويختم بالقول؛ إن "على علماء الأمة أن ينكروا استدعاء الحرب بين دولتين مسلمتين شقيقتين الذي تورط فيه الريسوني، وعليه أن يستقيل من رئاسة الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين أو أن يقيلوه!"، وهنا مربط الفرس كما يقال.

 

لم يشفع للرجل موقفه المعلن من التطبيع، فتبرأ منه إخوانه في الداخل، على لسان عبد الإله بنكيران الذي نفى أن تكون تصريحاته تعبيرا عن موقف حزب العدالة والتنمية، وزايد عليه إخوانه في الخارج فاستنكروا عليه دعوته لإشراك الشعب والعلماء في تدبير القضية الوطنية الأولى ،واعتبروا الأمر دعوة للغزو وإعلانا للحرب، وكأن الريسوني زعيم أممي له من التأثير ما يمنحه القدرة على تحريك الجموع.

 



كل المواقف "العنترية" قابلة للتفهم، فالمزايدة في أمور كهذه لا ضريبة تدفع مقابلها. لكن إصرار أبناء الصف الواحد وإمعانهم في جلد من كان حتى وقت قريب "رمزا" للحكمة والتأصيل الديني، يطرح أكثر من علامة استفهام. لا يهمنا هنا الدهماء الذين جعلوا من السب والقذف والإهانة ديدنا لا ينزاحون عنه، ومنهم من كتب أن الشيخ "مدمن مخدرات" دون أن يضير ذلك إخوته الاتحاد العالمي للعلماء. وعندما يقبل هؤلاء، بالسكوت عن الحق أو تغليب الطموحات الشخصية أو اعتبار الحسابات السياسية القُطرية، "المدمنين" رؤساء لائتلاف العلماء، يحق للدهماء والجهلة أن يمدوا أرجلهم ويتسيدوا ويتصدروا المشهد وينفثوا السموم.

ملاحظة لها علاقة بما سبق:

لم يكن الشيخ أحمد الريسوني وحده من طولب هذا الأسبوع بتقديم الاعتذارات والتوضيحات. فقد وجد محمود عباس نفسه في أتون ضجة تلت تصريحاته ببرلين أنه "منذ عام 1947 ارتكبت إسرائيل 50 مجزرة، 50 مذبحة، 50 هولوكوست". أصدر عباس توضيحا وتلاه محمد اشتية لتأكيد عدم إنكار أبو مازن للمحرقة بعد حملة ممنهجة، اتحد فيها قادة الاحتلال مع كثير من القادة والحكومات والمنظمات الغربية، التي لم تترك نقيصة إلا وألصقتها بالرجل الذي وجد نفسه وحيدا في مرمى النيران.

لقد كان مناهضو التطبيع وداعمو الحق الفلسطيني في مختلف الدول العربية مشغولين بالرد على الريسوني، ودعوته لعدم صب الزيت على النار. وفي نفس يوم تصريحات عباس، أعلنت إسرائيل عن استعادة العلاقات الديبلوماسية الكاملة مع تركيا، وأعلن وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو أن أنقرة لن تتخلى عن القضية الفلسطينية. سيناريو مكرر سبق أن سمعناه في العاشر من كانون الأول/ديسمبر 2020، لكن وقعه على الآذان يختلف باختلاف الارتباطات والولاءات والحسابات المحلية التي تغلب كل انتماء ظاهري للأمة وقضاياها.

ستستمر موريتانيا والجزائر والمغرب دولا "مستقلة" و"ذات سيادة" وفق الحدود الموروثة عن الاستعمار، وفق الاتفاقيات البينية والدولية المصادق عليها. لن يغير في واقع الأمر لا دعوات للزحف ولا دسائس للتجزئة ولا أوهام للتوسع أو للتقزيم. وستستمر فلسطين في حربها التحريرية لن تنفعها الشعارات الجوفاء ولا المزايدات الفارغة، بل وحدة الصف الذي بدونه ستبقى أسيرة مؤامرات الأشقاء وهمجية الاحتلال. 


التعليقات (2)