(عن العنوان)
المقصود بالعنوان هو "الندل" طبعاً، كما يدلنا المثل الشعبي
المصري، ولا يعنيني في هذا المقال (ولا خارجه) تحديد اسم أو وصف لنذل معين، فكل الأنذال سواء.. في الحقارة والخسة والخذلان.
أقول هذا لكي أترك باب التأويل مفتوحا على مصراعيه، فأنا أحب الكتابة التي تفسح مساحة أوسع للتأويلات، ربما لأنني أريد أن أقرأ المتلقي كما يقرأني، كما أريد (وهذا اعتراف ببعض الشر الذي يسكن عقلي) أن أستمتع بمشاهدة "المبطوحين" وهم يتحسسون مواضع البطحات على رؤوسهم، لذلك أواجه إغلاق الواقع بانفتاح كلماتي على حدائق التأويل العامة، فالتأويل كاشف أكثر من الكتابة ذاتها..
(وبعد)
تعرفون أني كتبت مقالا في ثلاث حلقات بعنوان "
رسالة إلى الجنرال"، وبعد نشر الحلقة الأولى من المقال هاجمني "الإعلام الوطني" بتهمة الخيانة والعيب في الذات الرئاسية، وتضمن الإنذار التلفزيوني تهديداً صريحاً بعقاب الكاتب على "المقال الصادم".. (وكله بالقانون).
كنت أعرف أن الإعلامي الطيب لم يهاجم من تلقاء نفسه، فهو حريص على الود، وإظهار المحبة والتقدير على الشاشة وخارجه، وهذه مشاعر لها تقديرها الكبير عندي، وأبدا لا أبادل الود بإنكار أو جلافة، لذلك اتصلت بزميل يعمل مع الإعلامي لإبلاغه بأن يتصل بي على رقم هاتف معين لتوضيح الأخطاء التي وقع فيها، احتراما للمدة التي يعلنها، حتى وهو يهاجمني، ولم يتصل الإعلامي، ولم أندهش من ذلك، لأن الحوار المباشر بيننا سيفتقد رسائل السامسونج التي تضبط وتغذي أفواه الإعلاميين الوطنيين في بلدي.
اعتبرت الهجوم كأن لم يكن، وأنهيت الموقف بإصدار بيان مختصر على صفحتي في وسائل التواصل لإعلان ما حدث، احتراما للشفافية، وتسجيلا للتهديد، ووضع النقاط على الحروف كما أوضحت في عنوان البيان، وتوقف الهجوم بالفعل على الشاشة، لكنه تصاعد خارجها في رسائل مختلفة النبرة والقنوات، وأوضحت للوسطاء المهذبين الذين نصحوني بالعدول عن هذا الاتجاه العنيف في النقد السياسي، وقال بعضهم بصراحة مشكورة: ابعد عن الراجل الكبير وانقد في أي حاجة تانية.
سألت بسذاجة متخابثة: أي راجل؟
لحظة صمت انتهت بتعليق: وبعدين بقى؟.. يعني مش عارف؟!
قلت: هل تقصدون الجنرال فرانكو؟.. المقال كله عبارة عن رسالة كتبها أديب إسباني منفي للجنرال فرانكو أثناء حكمه الديكتاتوري لإسبانيا، والرسالة التي نشرت في أنحاء العالم تمت ترجمتها إلى العربية وصدرت في كتاب وافقت عليها قوانين النشر العربية، وليس في النص أي خروج على الأخلاق الأممية ولا القوانين المحلية، فأين المشكلة التي تستوجب التذكير بالأخلاق؟ وأين الجريمة التي تستوجب تهديدا بمحاكمة واستخدام القانون ضدي؟!
وبعدين يا أعزاء.. كل هذا يفسد ما تبذلونه من "جهود وطنية" لتأسيس جمهورية جديدة تلغي الطوارئ وتفتح أبواب الحوار الوطني، وتتجه نحو حقبة ديمقراطية تتميز بالعفو عن المجرمين السياسيين الذين تابوا عن دعم الإرهاب فشملتهم رحمة الجمهورية الجديدة..
(أتعب ولا أيأس)
صار واضحا أن الصحة لم تعد تحتمل التوتر والضغوط العصبية، وصار واضحا أن مشاعر الغضب التي تملأني ضد الأنذال في مراحل نشاطهم، لم تعد تلائم القلب العليل، ولهذا هددني الطبيب هو الآخر بخطورة الاستمرار في هذا الطريق.
يا ربي.. هل أهجر الصراط؟
أنا الذي كنت أنشد مع محمود درويش: "سأعيد ترتيب الدروب على خطاي.. سأكون ما كانت رؤاي".. يطالبني النذل وطبيبي معا اليوم بالتخلي عن الطريق واتباع رؤى أخرى غير رؤاي!
استجابة لتوسلات المحبة ومشاعر العائلة تحولت إلى "مريض مثالي".. أغلقت الهاتف وتوقفت عن متابعة الأخبار وعطلت فيسبوك، واقتنعت بأن أشرب من "نهر البلهنية"، لكن لا مفر، فهناك مثل شعبي مصري آخر يمنعنا من اجتناب الندل، والمثل يقول: "رضينا بالهم، والهم مش راضي بينا"..
أعترف بأنني متعب إلى درجة التفكير في الاعتزال، ليس اعتزال الكتابة السياسية وفقط، ولكن اعتزال العمل العام كله، وحماية ما تبقى من حياتي بتدبير نوع من "الاختفاء الطوعي"، لكنني لا أستطيع أن أواصل التفكير في هذا "الترف البرجوازي"، ولا أستطيع التسليم بالهزيمة في معركة أراها معركة كرامة ومعركة شرف. ولا أقصد كرامة شخصية ولا شرفا شخصيا، لكن أقصد كرامة وشرف وطن، يليق به أن يقاتل من أجل كرامة جميع مواطنيه وشرف الكل، في ظل مبادئ دستورية وأخلاقية تتيح الحرية والمعيشة الكريمة بدون شروط مذلة ولا خنوع مهين..
(لا تغلقوا الطرقات)
بعد عودتي الطوعية من المنفى ودخولي السجن، ثم خروجي بدون شروط مسبقة، تعرفت على قيادات محترمة في السجون وفي جهاز الأمن، لذلك فإنني لا أهاجم الجميع احتراما لوجود شخصيات محترمة لمست سلوكها الأخلاقي المحترم وانضباطها بالقوانين بدون تفريط ولا تعسف، وفي كل حوار أو نصيحة كنت أقول دائما: نحن لسنا أعداء ضد الوطن أو ضد بعضنا البعض، نحن شركاء في الوطن، وكل واحد فينا يقوم بدوره.
وأنا دوري "معارض"، حتى لو حققت السلطة أعظم المعجزات "هفضل معارض"، فأنا مثل إنذار الحريق، سأظل أدق وأزعج الحراس للتحذير من أي خطأ. لن يحدث أن يصفق جهاز الإنذار لأن حريقا لم يحدث، فهذا يعتبر خللا في الجهاز، الصحيح أن يرن الإنذار ويطلق صرخاته لكشف الأخطاء، ولا يرن تحية للإيجابيات، فلماذا تنزعجون من النقد وهو وظيفتي التي يجب أن تشكرونني عليها؟
وكنت أقول أيضا: لا تطالبوني بالانضمام إلى صفوفكم.. لديكم ما يكفي من المؤيدين، ولا تتعاملون معي باعتباري عدوا يجب كسره وهزيمته، لأنني لست عدوا لكم، أنا عدو للغلط في أي مجال وأي مكان، وأظن أنكم أيضا أعداء للغلط، وبالتالي فإن هناك طريق ثالث يبعدنا عن ثنائية "الاستسلام أو الموت"، وهو طريق القبول بالجميع وفق التوصيف الوظيفي لهم في المجتمع. أنت كضابط مهمتك أن تحميني، وأنا مهمتي ككاتب معارض أن أنقد عملك، فلا تعطلني عن عملي بحجة قيامك بعملك. لا بد أن نبحث عن طريقة لتنظيم قيامنا بأعمالنا دون تعارض، وفق القواعد الدستورية التي أعطتني هذا الحق كما أعطتك حق الحماية وأنت تمارس عملك..
أرجو أن نتوقف عن التفكير بمنطق: "من يملك القوة يسعى إخضاع الآخرين"، التعاون معا هو الأجمل والأسلم، أما التناحر والكراهية والتسلط والعداء، فهو الأسلوب الخاطئ الذي يؤدي إلى انسداد الطرق الصحيحة، التي نأمل أن تفضي بالمجتمع إلى الاستقرار أو الأمان أو التقدم نحو معيشة أفضل..
هذا التفكير (السوي من الناحية النفسية، والدستوري من الناحية القانونية والسياسية) هو المفتاح الوحيد لحل أزمة الاختناق والاحتقان التي وصلنا إليها..
إنني بكل صراحة، لا أستطيع حتى الآن أن أعبر عن مشاعر شكر لأشخاص كرماء عاملوني بمنتهى اللطف والتقدير والاحترام خلال أزمة السجن وما بعدها، لأن اللغة الطيبة في أجواء سيئة لن تصل صحيحة، وسوف يتم الإساءة إلى لغة الشكر، لأنها ستبدو دعما لسياسة عامة تشرع القهر، أو تبدو في اتجاه آخر خضوعا للسلطة ونفاقا لممثليها..
إن طمر مشاعر الشكر لأشخاص جيدين، مؤلم وغير عادل، لكنه كاشف لأزمة عدم التقدير التي تعم المجتمع..
لدي كلام كثير وعتاب طويل، لكنني أحب أن أعاتب الكرماء المخلصين وأصاحبهم في طريق الوطن، وأنوي تجاهل الأندال الخبثاء ولا أصاحبهم في طريق، فليفتح الله بيننا بالحق بغية الإصلاح والفلاح.
والله الموفق..
[email protected]