تونس.. الاستشارة الإلكترونية بين الوهم وخيبة الأمل..

تونس تعود للوراء بسرعة البرق، دون بارقة أمل تلوح في الأفق.. انتظار المجهول هو ما استقر في الوعي الجمعي للشعب التونسي؛ فلا أحد يعرف ماذا سيكون عليه الأمر غدا. ذلك أن المنقلب غير قادر على طمأنة الشعب بما سيكون في قابل الأيام، لأنه نفسه لا يعرف إلى أين هو ذاهب، في ظل إمساكه بكل مفاصل الدولة وعدم قدرته على قيادتها، بما يحرك دواليبها كغيرها من الدول التي يُحترم فيها القانون والدستور، فقد أصبحت تونس بفضل المنقلب شبه دولة وشبه وطن.

الحكومة المهزلة التي عينها، لم يصادق عليها برلمان ولم يشارك في اختيارها أحد، وهي أعجز منه عن الفعل؛ فكلاهما الرئيس والحكومة عاجزان عن استيعاب الوضع الذي أوصلنا إليه فخامته، وسلطات الدولة الرئيسة مغيبة، لا برلمان ولا مجلس أعلى للقضاء، ولا حرية ولا عدالة اجتماعية، وفقر وجوع وغلاء فاحش، وفقدان للمواد التموينية الأساسية. فماذا تبقى من هيكلية الدولة المعروفة؟!

ولك أن تسأل أي سياسي في العالم عن دولة يسيّرها شخص أكاديمي لا خبرة له في السياسة، من خلال مراسيم رئاسية، متجاوزا الدستور والقوانين المرعية والبرلمان ومجلس القضاء الأعلى؛ ليقول لك ببساطة: هذه ليست دولة.. هذه مزرعة خاصة..!!

وأغرب ما في المشهد حالة الهوس والقتال المستميت للمنقلب في سبيل إنجاح الاستشارة الإلكترونية بكل الوسائل الممكنة، ومنها طرحه منح المواطنين اتصالا مجانيا بشبكة الإنترنت ليمكّنهم من المشاركة، فكأنه يريد أن يبرر ضعف المشاركة في الاستفتاء بضعف شبكة الإنترنت أو عدم وصولها للعمق التونسي.. ربما يريد أن يوهمنا بذلك.. وسواء قصد ذلك أم لم يقصد؛ فهو في الحالين يتعامل مع شؤون البلاد ببلاهة وضيق أفق شديدين، ويكفي أنه سمح للفئة العمرية ابتداء من 16 عاما بالمشاركة في الاستشارة أملا في زيادة نسبة المشاركين!!

ومن المضحك المبكي في آنٍ معا، أن المنقلب يعطي الاستشارة الإلكترونية أكبر من حجمها، ويراها الجزء الأهم في إجراءاته؛ مما يجعلنا نحس بأنه يظن أنها ستحل العقد، وتقضي على مشاكل الاقتصاد والمجتمع، وتأتي بالمساعدات والقروض، علما بأنها، قانونيا وعمليا، مجرد استشارة لا يمكن البناء عليها أو الاتكاء على مخرجاتها سواء جاءت لصالح إجراءاته أو ضدها، فهو يتعامل معها بوصفها جزءاً من رؤيته لحل الأزمة السياسية في البلاد، وسط رفض الغالبية العظمى من الشعب التفاعل معها أو احترامها. ومما قاله مَن يعرفونه أنه كان - قبل توليه رئاسة الجمهورية التونسية- ينتقد الاستفتاءات قائلا: "الاستفتاءات في البلدان العربية أداة من أدوات الدكتاتورية المتنكرة.. تتنكر تحت عباءة الاستفتاء. هو ليس استفتاءً حول المشروع، ولكنه استفتاء حول صاحب المشروع، وهو هنا يقول بصريح العبارة: أنا دكتاتور متنكر تحت عباءة الاستفتاء، والاستفتاء يخصني ولا يخص تونس الدولة!!

وتتناول الاستشارة الشأن السياسي والانتخابي، والشأن الاقتصادي، والشأن التعليمي والثقافي وجودة الحياة والشأن الاجتماعي، والتنمية المستدامة، ويرفق بها عددا من الفيديوهات التوضيحية، فهي استشارة مملة وطريقة عرضها عصية على وعي العامة ومستوى إدراك كثير منهم.

لقد أحس المنقلب بالإحباط جراء نسبة المشاركين في الاستفتاء، وهو ما جعله في وضع لا يحسد عليه أمام نفسه وأمام المحيطين به، وأمام الشعب التونسي، وأمام العالم؛ فقد عرف المنقلب حجمه الحقيقي، وأحس بخيبة كبرى، وهو الذي كان يظن أنه يحظى بشعبية كبيرة، أو يوهم نفسه بذلك، وإذا حاولنا أن نتعرف إلى المشاركين سنجد أنهم من بقايا أنصاره، ومن المغفلين والجهلة والبسطاء، ومن الانتهازيين، وممن أجبروا على المشاركة من بعض موظفي الدولة.

ثم إن الاستشارة مكشوفة، فالمشارك يجب أن يذكر اسمه ورقم بطاقة التعريف (البطاقة الوطنية)، بمعنى أن المنقلب قد يحاسب بعض الذين ملؤوا الاستبانة خلافا لرغباته المريضة، أو يضعهم مبدئيا في القائمة السوداء للمحاسبة في الوقت المناسب، وربما الحرمان من الوظيفة أو الخدمات التي تقدمها الدول لمواطنيها في العادة. ولعل هذا أحد أسباب الإحجام عن المشاركة، هذا إذا لم نتحدث عن المقاطعة التي طالب بها المقاومون للانقلاب، ووجدت استجابة كبيرة من الشعب.

وفي اللحظة التي ينشغل فيها المنقلب بالاستشارة المهزلة، ترزح البلاد تحت نير واقع سيئ وقادم أسوأ؛ فقد أكد المدير العام لديوان الحبوب أن مخزون تونس من الحبوب يكفيها إلى حدود نيسان/ أبريل المقبل، بما يعني ما لا يزيد عن شهر، إن لم يكن أقل. فبدلا من أن يشغل فخامته نفسه وحكومة الدمى في البحث عن بدائل القمح الروسي والأوكراني، والبحث عن تمويل صفقات القمح الذي ارتفع سعره ارتفاعا جنونيا، لا ينفك يهذي بالاستشارة الإلكترونية ويهلوس فيما وصلت إليه، ولم يزل لديه أمل بطفرة عددية فيها، إذ لعله يقوم بطرحها على عالم الجن والشياطين بالاستعانة بالسحرة والمشعوذين.

ويغيب عن المنقلب أن الشعب لا يؤمن إلا بالإجراءات التي تحسّن أوضاعه المعيشية، وتخرج به من الأزمات، فالمواطن غير معني بهذه الاستشارة، لأنها لا تمس مباشرة حاجاته الأساسية، فهو يراها سفسطة لا أكثر ولا أقل، في اللحظة التي تنوي فيها الحكومة رفع أسعار الوقود مرة أخرى في غضون أيام، إضافة إلى معاناته التي تزداد يوما بعد يوم.

من جهة أخرى، هددت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، الاثنين الماضي، بتنفيذ إضراب عام جراء تدخلات السلطة في القطاع الإعلامي، حيث بدأت الداخلية بتوجيه الخط التحريري للتلفزة التونسية، وفرض أجندة الرئيس قيس سعيد على هذا المرفق العمومي.

وقالت أميرة محمد، نائبة رئيس نقابة الصحافيين -في مؤتمر صحفي بالعاصمة تونس- إن: "ما يحدث بمؤسسة التلفزة التونسية من تحكم السلطة في الخط التحريري سيؤدي إلى التصعيد في التحركات القادمة، بما في ذلك الإضراب العام في مؤسسات القطاع العمومي، وقد نلجأ إلى الإضراب العام في كل القطاع، وإلى ما هو أكثر من الإضراب العام".

في ظل الأزمات التي ينتظرها المواطن التونسي في قابل الأيام، حيث لم يزل عدد كبير من المخابز مغلقا بسبب شح السميد والفارينة (الدقيق)، وينتظر الأسوأ الحتمي إذا لم يقم المنقلب بتدبر أموره سريعا للخروج من الأزمات المتلاحقة التي تصب كلها فوق رأس المواطن الذي يتندر بانتفاخ وجه المنقلب وامتلاء جسده، وقد كان نحيلا قبل توليه الرئاسة، مما دفع شابا عاطلا عن العمل، للتندر أمام أصدقائه في المقهى بـ"مسرحية الزعيم لعادل إمام" التي يدعو فيها على الشعب في مقابل الدعوة للرئيس بجملة من الأدعية الساخرة، مثل "اللهم أفقرنا واغنيهم.. اللهم خذ مننا واديهم".. إلخ.. في ظل هذه الأزمات نجد المنقلب مهتما بشؤون صغيرة وإجراءات عبثية، وتصفية حسابات مع الخصوم، بعيدا عن كل ما يمس حاجات المواطن الحقيقية، وهو ما جعله يخسر معظم أنصاره الذين كانوا ينتظرون منه المعجزات، فلم يجدوا غير الكذب والإخفاقات...

إن حالة قيس سعيد تقول للمواطنين ما قاله معروف الرصافي ساخرا:

يا ناس لا تتكلمـوا   إن الكـلام محرّمُ
ناموا ولا تستيقظوا   ما فاز إلا النُوَّمُ

إنه يريد شعبا من النيام والمخدرين، في ظل ضعفه وركاكة أدائه وانتظاره السماء أن تمطر ذهبا.. والسماء لا تمطر فضة ولا ذهبا.. لا أرى هذا الرجل إلا خاسرا خائبا لأنه حنث بالقسم، وجوع الشعب، وأضاع الأمانة، وخذل من وثقوا به ومنحوه أصواتهم، بما يدفعنا لسؤاله: إلى أين أنت ذاهب بنا؟ وما الذي ننتظره؟ وماذا ستفعل غدا؟ وهل أقنعتك مخرجات الاستشارة الإلكترونية بأنك فاشل وأنك أضعت وطنا عزيزا أم ليس بعد؟!