في سنة 2013، أعاد "الخبير
الدستوري"
قيس سعيد طرح مشروعه
السياسي الذي كان قد أعلنه -بعيدا عن وسائل الإعلام التقليدية- منذ 2011، واختار له عنوان "من أجل تأسيس
جديد". وكما قال في حوار له مع صحيفة الشارع المغاربي خلال الحملة الانتخابية،
فإن "القضية في التأسيس، يجب أن يكون هناك فكر سياسي جديد يترجمه نص دستوري
بالفعل جديد".
لقد كان السيد قيس سعيد يتحدث عن "تأسيس" جديد في
فترة لم يصادق المجلس التأسيسي فيه بعدُ على دستور "الجمهورية الثانية"،
ولكنه لم يُركز على فكرة "التأسيس الجديد" خلال حملته الانتخابية في
وسائل الإعلام التقليدية، ولم يدفع بها إلى الواجهة خلال مناظرته لمنافسه نبيل
القروي في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية.
قبل الانتخابات الرئاسية، كان السيد قيس سعيّد يتحرك أمام
الرأي العام من موقع "الخبير الدستوري" الزاهد في الحكم رغم وجود مشروعه
السياسي، وكان حريصا على تجنب الحديث من موقع "السياسي" حتى يحافظ على
دور "الحكم" بين مختلف الفاعلين الجماعيين. ولمّا أعلن ترشحه للرئاسة
نجحت آلته الدعائية -المتمركزة خاصة في مواقع التواصل الاجتماعي- في إبعاده عن حرج
الظهور الإعلامي، كما نجحت في التغطية على حقيقة مشروعه السياسي. فلم يكن عموم
المواطنين يرون فيه إلا ذلك "الخبير الدستوري" القادم من خارج النخب
السياسية التقليدية ومن خارج الأحزاب، والحريص على حماية الدستور ومواجهة تلاعب
النخب السياسية به. وهي صورة أكدها قسمه -خلال حفل تنصيبه- على احترام دستور
تونس
وتشريعها، ثم زاد في ترسيخها حرصُه بعد ذلك على الاحتجاج بالدستور في كل خلافاته
مع خصومه داخل مجلس النواب وخارجه.
"الخديعة الانتخابية" التي مارسها الخبير الدستوري على عموم التونسيين ليست في قبوله الترشح تحت سقف دستور ومنظومة سياسية لا يؤمن بها، بل هي في حجب حقيقة مشروعه السياسي هذا على الناخبين، خاصة خلال الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية
إن "الخديعة الانتخابية" التي مارسها الخبير
الدستوري على عموم التونسيين ليست في قبوله الترشح تحت سقف دستور ومنظومة سياسية
لا يؤمن بها، بل هي في حجب حقيقة مشروعه السياسي هذا على الناخبين، خاصة خلال
الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية. فقد اختارت الأغلبية الساحقة من الناخبين
(أكثر من 72 في المائة) السيد قيس سعيد، لا لأنه يحمل مشروعا تأسيسيا جديدا،
بل لأنه كان يُمثل النقيض الموضوعي لمنافسه السيد نبيل القروي: غياب الشبهات
المالية، رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني، عدم التورط مع المنظومة القديمة،
الانحياز للدستور ورفض التلاعب به، عدم الارتباط بالأحزاب وباللّوبيات المالية
والجهوية، تجسيده للشخصية التونسية المحافظة أو المتدينة والمتصالحة مع
"النمط المجتمعي".. الخ. وهو ما يعني أن "شرعية" الرئيس كانت
مرتبطة أساسا بالدستور وبالتشريعات المرعية في الجمهورية الثانية، ولم تكن ترتبط
ولو بسبب بعيد بأطروحة "التأسيس الجديد".
بعد وصوله إلى قصر قرطاج، كان أمام "الخبير
الدستوري" أن يختار بين مسارين متناقضين. فإما أن يكون وفيا لمشروعه السياسي
القائم على التأسيس الجديد -أي الانقلاب على الدستور ومجمل المنظومة السياسية
ومختلف الأجسام الوسيطة المسيطرة على الديمقراطية التمثيلية- وإما أن يكون وفيا
لقسمه على احترام الدستور فيتحرك في إطاره قصد تصحيح مسار الانتقال الديمقراطي،
بما يملكه من أولوية في تقديم مشاريع القوانين أو حتى بالدعوة إلى الاستفتاء. وقد
اختار الرئيس المسار الأول -أي المسار الانقلابي الذي جسدته إجراءات 25 تموز/ يوليو- وذلك بعد أن مهّد له داخليا بالتحالف مع "حزامه
البرلماني" وبعض أنصاره في المجتمع المدني والنقابات والإعلام، ومهّد له
خارجيا بالاصطفاف الصريح مع محور الثورات المضادة وبإعلان حربه المفتوحة ضد حركة
النهضة وحلفائها.
مثلما استفاد من "السياق" خلال الدور الثاني من
الانتخابات الرئاسية، استطاع الرئيس أن يوظف السياق السياسي المأزوم داخل مجلس
النواب ليدفع بتناقضاته إلى الأقصى، وليمهد لإجراءات 25 تموز/ يوليو باعتبارها "حتمية تاريخية" أو باعتبارها "تصحيحا
للمسار". ولكنه لم يطرح إجراءاته إلا باعتبارها إجراءات "شرعية" و"مؤقتة"
تستند على الفصل الثمانين من الدستور، أي باعتبارها حقا دستوريا يمتلكه الرئيس
لتأمين "عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال". وبصرف النظر
عن أن الفصل 80 من الدستور لا يعطي للرئيس الحق في حل الحكومة ولا في تجميد مجلس
النواب ولا في تولي الإشراف على السلطة القضائية، فإن هذا الفصل لا يعطي للرئيس
الحق في أن يدير "الحالة الاستثنائية" باعتبارها "مرحلة
انتقالية" تضيف إلى صلاحياته سلطة "التأسيس الجديد" أو التفرد
بكتابة "دستور الجمهورية الثالثة".
في إطار هذا التعامل مع "حالة الاستثناء"، لم يعد
"الخطر الداهم" المهدد لحسن سير دواليب الدولة أو لوجودها ذاته هو
الأهم، بل أصبح الأهم هو "الخطر الجاثم" الذي أضافه الرئيس للنص
الدستوري، وأصبح هو المبدأ التوليدي أو المحرك الرئيس لكل المراسيم والأوامر بعد 25 تموز/ يوليو. وليس "الخطر الجاثم" هنا إلا الدستور ذاته وكل
التشريعات والهيئات والأجسام الوسيطة التي تتولى إدارة البلاد، وهو خطر لا يمكن
ربطه بـ"العشرية السوداء"، بل هو يرتبط بالخيارات التأسيسية للجمهورية
الثانية التي انتقدها الرئيس وطرح بديلا لها منذ 2011.
ففي الحقيقة، لا يؤسس الرئيس "شرعيته" على الطعن
في "مشروعية" المنظومة الحاكمة -أي غياب أي مكاسب حقيقية للشعب من جراء
سياساتها وخياراتها الاقتصادية والاجتماعية- بل يؤسس "شرعية" تصحيح
المسار على الطعن في أساس "شرعية" تلك المنظومة التي لم تنتج دستورا
جديدا، ولم تشتغل بعقل سياسي جديد يكون في مستوى الثورة واستحقاقاتها.
الرئيس قد أقام شرعيته الانتخابية على "تزييف" وعي التونسيين الذين انتخبوه لتصحيح المشهد السياسي تحت سقف الدستور ولم ينتخبوه للانقلاب عليه
إن "اللا مفكر فيه" الأساسي -أو التلاعب الجوهري-
في أطروحات الرئيس وأنصاره هو أنّ تهمة "تزييف الوعي" التي يرمون بها
خصومهم؛ هي تهمة لا يصعب توجيهها إلى الرئيس وسياساته التواصلية منذ الحملة
الانتخابية الرئاسية. فالرئيس قد أقام شرعيته الانتخابية على "تزييف"
وعي التونسيين الذين انتخبوه لتصحيح المشهد السياسي تحت سقف الدستور ولم ينتخبوه
للانقلاب عليه.
كما أن الرئيس قد "زيّف" وعي التونسيين بأن سعى
إلى ترذيل مجلس النواب والأحزاب وشيطنة النخب السياسية باعتبارهم شرا مطلقا لا خير
فيه، وزاد على ذلك بأن "زيف" حقيقة مشروعه، فطرح تصحيح المسار تحت سقف
الدستور ثم قام بتعليق العمل به حتى أصبحت المراسيم والأوامر أعلى رتبة من فصول
الدستور دون وجود أي سلطة رقابية على قراراته.
ولكن "التزييف" الأعمق والذي ما زال يمنع تشكل
جبهة معارضة شاملة لمشروع الرئيس هو ذاك الذي مارسه على حلفائه؛ الذين ظنوا
"تصحيح المسار" مجرد إعادة هندسة للمشهد السياسي تحت سقف الدستور، فإذا
بهم يجدون أنفسهم أمام "مشروع بديل" سيُنهي الحاجة إليهم جميعا ولو بعد
حين.
الرئيس -رغم كل مظاهر الفشل في إدارة الشأن العام ورغم انحسار شعبيته- ما زال يعتبر نفسه الممثل الشرعي والأوحد للإرادة الشعبية، وهو ما يجعله في حل من أي حوار وطني يعترف بوجود وسائط أخرى تمثّل تلك الإرادة الشعبية
ختاما، يبدو أن فشل الاستشارة الإلكترونية التي أراد الرئيس
قيس سعيد أن يُشرعن بها الاستفتاء وما يقوم عليه من احتكار "السلطة
التأسيسية"، لن يمنعه من مواصلة سياسة الهروب إلى الأمام. فرغم أن عدد
المشاركين في الاستشارة الإلكترونية لم يبلغ حتى عدد من انتخب الرئيس في الدور
الأول من الانتخابات الرئاسية، فإنه ما زال مصرا على الحديث باسم جميع التونسيين
والتشكيك في وطنية خصومه، بل التشكيك حتى في وطنية أنصاره "النقديين" في
الأحزاب والإعلام والمجتمع المدني.
فالرئيس -رغم كل مظاهر الفشل في إدارة الشأن العام ورغم
انحسار شعبيته- ما زال يعتبر نفسه الممثل الشرعي والأوحد للإرادة الشعبية، وهو ما
يجعله في حل من أي حوار وطني يعترف بوجود وسائط أخرى تمثّل تلك الإرادة الشعبية.
ولا شك في أن هذا المنطق سيدفع الرئيس إلى المضي في فرض مشروعه السياسي، مستعينا
بشرعية "الغلبة" وفرض الأمر الواقع، ومستعينا
كذلك بشرعية غياب أي بديل وطني يجمع التونسيين حول "كلمة سواء"؛ لا تعيد
إنتاج شروط الفشل قبل 25 تموز/ يوليو وبعده.
twitter.com/adel_arabi21