حتى اللحظة لم يقدم قيس سعيد لتونس والتونسيين غير الخراب، فكل ما فعله أنه قدم للمحاكم العسكرية والمدنية أشخاصا بتهم لم تثبت عليهم في الغالب الأعم، فهو منشغل في الانتقام من الخصوم، ومتفرغ للثأر والضغينة لا أكثر ولا أقل.. تونس تغوص في الأوجاع والأحزان وفخامة الرئيس منشغل بمحاكمة خصومه عن دوره الأساسي المتمثل في حراسة الوطن والسهر على راحة المواطن، وإنصاف المظلوم، وتوفير لقمة العيش الكريمة للفقير والمغلوب.
لقد تحول الوطن إلى ساحة لتصفية الحسابات بعيدا عن العدالة والأخلاق الوطنية، وبات رأس الدولة هو ذاته رأس الفتنة، وفُقدت قنوات الاتصال الشفافة بينه وبين الطبقة السياسية، وبينه وبين الإعلام المحلي، وتعثرت خطوات الإصلاح بسبب ضعفه وانعدام خبرته، مما أدّى إلى انسداد الأفق، وإحباط المواطن العادي، الذي لا يجد أمامه إلا أن يتغول على الحلقة الأضعف في محيطه، فيستقوي على أخيه المواطن، ويبدأ الناس يتخلون شيئا فشيئا عن مفهوم المواطنة، ويتراجع منسوب الإحساس بالتكافل الاجتماعي، وتبدأ قيم المودة والرحمة بالانحسار، ويصبح كل فرد من أفراد المجتمع يبحث عن أمنه الفردي متخليا عن الأمن الجمعي بسبب اليأس والإحباط والخوف من القادم؛ وهو ما تؤيده مشاهد كثيرة بدأت تظهر في المجتمع التونسي بشكل واضح وفاضح، كالسرقة تحت تهديد السلاح (البراكاج)، والنشل والاحتيال، والتعامل الخشن في البيع والشراء، وما إلى غير ذلك من أفعال لم يعرفها المجتمع التونسي من قبل، فالمجتمع التونسي مسالم بطبعه.
تحول الوطن إلى ساحة لتصفية الحسابات بعيدا عن العدالة والأخلاق الوطنية، وبات رأس الدولة هو ذاته رأس الفتنة، وفُقدت قنوات الاتصال الشفافة بينه وبين الطبقة السياسية، وبينه وبين الإعلام المحلي، وتعثرت خطوات الإصلاح بسبب ضعفه وانعدام خبرته، مما أدّى إلى انسداد الأفق، وإحباط المواطن العادي
ولك أن تتخيل شابا في العشرينات يحمل سكينا ويحاول انتزاع حقيبة امرأة في المترو المكتظ بالركاب، وحين حاولت المرأة مقاومته سحج وجهها بالسكين وأخذ الحقيبة ومضى، ولم يستطع أحد التدخل خوفا من سكين هذا اللص. وهذه الحالات ومثيلاتها تتكرر بشكل لافت في المجتمع التونسي هذه الأيام.
فحين يصبح القضاء لعبة بيد حاكم ظالم غاشم، تقل فرص العدالة؛ وتنتزع البركة من كل شيء، ويزداد السخط، ويكثر الظلم، ويستقوي الغني على الفقير، والفقير الانتهازي على الفقير المسكين. وقبل نحو سبعة قرون قال ابن خلدون: "ظلم الأفراد بعضهم بعضاً يمكن رده بالشرع (القضاء)، أما ظلم السلطان فهو أشمل وغير مقدور على رده وهو المؤذن بالخراب"، ففي حال خراب القضاء لا يمكن أن يكون ثمة مجتمع صالح، ذلك أن القضاء هو البوصلة التي تؤشر على طريق النجاة أو طريق الهلاك، وهو المقياس الأول الذي تقاس به زنة أية دولة في العالم.
إن انحياز قيس سعيد لأحقاده والوصول إلى إشفاء الغليل عن طريق بسط سيطرته على مفاصل الدولة وانفراده بالسلطات الثلاث، ونيته المبيتة للانقضاض على السلطة الرابعة يؤشر على خلل عميق وخطير. ومن المفيد هنا أن نذكر بأن قيس سعيد منذ أن تم انتخابه، لم يترك فرصة إلا ونادى فيها بالاقتصاص من اللصوص كلما اشتكى له المواطنون من حالة البؤس التي يعيشونها، ولا شيء غير ذلك؛ فهو يرى أن الاقتصاص من اللصوص هو الطريقة الوحيدة التي ستغير حال البلاد إلى الأفضل، وستغني الفقراء وتقضي على الفقر.
كان سعيد يردد دائما وفي كل مناسبة بأنه لا بد من القضاء على الفاسدين واللصوص لإنهاء حالة الفقر، ولم يكن يقول شيئا غير هذا، فهو منذ ترشح للانتخابات حتى اليوم يسير بلا خطة ولا منهج.. إنه لا يعرف كيف سيخرج بالبلاد من معاناتها التي تزداد سوءا يوما بعد يوم، وهنا لا بد من توضيح نقطتين مهمتين:
كان سعيد يردد دائما وفي كل مناسبة بأنه لا بد من القضاء على الفاسدين واللصوص لإنهاء حالة الفقر، ولم يكن يقول شيئا غير هذا، فهو منذ ترشح للانتخابات حتى اليوم يسير بلا خطة ولا منهج.. إنه لا يعرف كيف سيخرج بالبلاد من معاناتها التي تزداد سوءا يوما بعد يوم
الأولى: إن الخروج من حالة الفقر، لا يكون فقط بالقضاء على اللصوص والفاسدين، فثمة عوامل أخرى هي القادرة على تحسين الاقتصاد بما يعود بالفائدة على الوطن والمواطن، كإنشاء المعامل والمصانع، وتوسيع الرقعة الزراعية ودعم المزارعين، وتنشيط السياحة، وتعزيز الإنتاج والتصدير، من خلال برامج وخطط لا يضعها هو، فهذا ليس من اختصاصه، بل يضعها مختصون مخلصون. وأهم من ذلك كله سحب البساط من تحت أقدام اللصوص الحقيقيين باستعادة الثروات الوطنية المنهوبة من الفرنسيين التي لم يستطع فخامته حتى اليوم التفوه بكلمة واحدة عنها..
الثانية: إن ما قام به قيس سعيد من تقديم مَن أسماهم بالفاسدين للمحاكم ليس له أدنى جدوى، فهو لم يجد فاسدين ولصوصا إلا من خصومه السياسيين الذين لو صادر كل أموالهم وعقاراتهم فلن تسهم في اقتصاد البلاد بشيء يذكر، هذا في حال نجح في إثبات التهم عليهم، ولا أظنه سينجح إلا إذا استخدم قضاءه الهجين بعد أن ألغى المجلس الأعلى للقضاء.
كنت أراقب أداء هذا الرجل منذ اللحظة الأولى لتوليه منصب الرئاسة، وخصوصا حين كان يذهب إلى القرى حيث يوجد المهمشون والفقراء، وكنت أحس بالخجل من أدائه المتكرر حيثما ذهب، فهو لا يتحدث إلا من خلال تخصصه في القانون، وليته يلتزم به فيحترم القانون والدستور، لكنني كنت منحازا له ظنا مني أنه مختلف عن الزعماء الآخرين كونه أستاذا جامعيا، يفترض أن يكون صادقا نقيا إنسانا.. حيث يلاحظ المراقب لتصرفاته وتصريحاته أنه ليس لديه ما يقوله على صعيد الثقافة الإنسانية والفكر السياسي والدبلوماسية الوازنة، وهو ليس مقتنعا بالديمقراطية ولا حقوق الإنسان، ولا خبرة لديه في السياسات الخارجية والبروتوكلات الدولية، فأنا لم أرَ رئيس دولة من قبل يهاجم وطنه بدستوره وبرلمانه وقضائه ونخبته من قلب العالم الديمقراطي ومن خلال منصة من منصات الأمم المتحدة، كما فعل قيس سعيد الذي خوّن خصومه واتهمهم باتهامات لا يصح أن تخرج من فم رئيس في وطنه، فكيف في محفل دولي كبير هو مجلس حقوق الإنسان في 28 شباط/ فبراير الماضي..!!
وحين التقى بالسيّد فريد بلحاج، نائب رئيس مجموعة البنك الدولي لشؤون منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في 15 شباط/ فبراير الماضي، خطب فيه خطبة رعناء، أهان فيها مؤسسات الدولة الشرعية، وأساء لخصومه السياسيين واتهمهم باتهامات يندى لها الجبين، وكان أثناء حديثه متجهما عابسا فظا، كما لا يليق برئيس دولة، ولا حتى بمن ينادي على الشهود في المحكمة.
إنه مدمن خُطَب، فكل يوم يخطب في رئيسة الحكومة، وبالوزراء بشكل شبه يومي، وبالضيوف أيا كانوا من داخل البلاد أو خارجها، ومهما كان مستواهم الرسمي، وينتشي برفع هذه الخطب على الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية، ولا يمل من ذلك.. والحقيقة أنني لم أر من قبل أحدا يفعل ما يفعله هذا الرجل.
وبينما يرفع عقيرته بادعاء حرصه على الحريات العامة والديمقراطية، صُدم المجتمع التونسي بطبقاته كافة يوم 2 آذار/ مارس بصدور حكم قضائي من قبل قاض عسكري بالسجن لعميد المحامين التونسيين السابق عبد الرزاق الكيلاني محامي نور الدين البحيري؛ مما أثار موجة من الغضب حيث لم يقم الكيلاني بأية أعمال تستوجب سجنه، بعد تقديمه للمحكمة العسكرية، جراء تصريحات عادية يصدح بها كثير من التونسيين على اختلاف مواقعهم. ولو طبق قضاء سعيّد العسكري ما تم تطبيقه على الكيلاني، لوضع نصف الشعب التونسي في السجن.
أخشى على تونس الخضراء أن تستحيل حمراء في ظل هذا الحاكم الذي يقول عكس ما يفعل، ويكذب كما يتنفس، ويعمل على هدم هيبة القانون عكس ما يدعي تماما؛ فأي قانون هو ذلك الذي يحيل المدنيين على المحاكم العسكرية؟ أهذا هو ما يدعيه قيس سعيد عن العدالة ودولة القانون؟!!
وجدير بالذكر أن عميد المحامين عبد الرزاق الكيلاني كان في مقدمة الفاعلين في الثورة التونسية 2011، ومشهود له بمواقفه الشجاعة في كل المراحل التي مرت بها الدولة التونسية. فكأني بقيس سعيد ينتقم لابن علي، ولا أستبعد أن يهاجم الثورة صراحة في القادم من الأيام..!!
أخشى على تونس الخضراء أن تستحيل حمراء في ظل هذا الحاكم الذي يقول عكس ما يفعل، ويكذب كما يتنفس، ويعمل على هدم هيبة القانون عكس ما يدعي تماما؛ فأي قانون هو ذلك الذي يحيل المدنيين على المحاكم العسكرية؟ أهذا هو ما يدعيه قيس سعيد عن العدالة ودولة القانون؟!! لقد صارت تونس دولة تمارس القمع والجهل والسفسطة والنفاق بكل صفاقة، رغبة في الانتقام والتشفي من الخصوم ولا شيء غير ذلك..
يقول الإعلامي التونسي نصر الدين السويلمي: "منذ 25 جويلية (تموز/ يوليو) 2021، تاريخ الانقلاب ونحن نترقب وعود المنقلب.. ثم لا شيء تحقق، بعد أكثر من نصف عام على الانقلاب، لم نعد نترقب تحقيق الوعود، بل أصبحنا ندعو الله أن تكون كارثة الغد أخف من كارثة اليوم".