في اللحظة التي تغرق فيها
تونس، بتسارع منقطع النظير، في موجة الغلاء
الفاحش وفقدان أهم متطلبات الحياة العادية، وحيث تصرخ الرفوف في الحوانيت الصغيرة
والمغازات (المتاجر الكبرى)، في هذه الأثناء نجد المنقلب على الجانب الآخر مشغولا
بالانتقام من خصومه السياسيين، ويقدم زعيم حركة
النهضة راشد الغنوشي ونائبه رئيس
الحكومة الأسبق
علي العريض وآخرين للتحقيق، والتنكيل بهم في المحاكم العسكرية..
ولأن الإفلاس المادي والمعنوي للمنقلب هو العنوان الأبرز لهذه المرحلة؛
ولأن الناس بدأت بالصراخ؛ فقد وجد المنقلب أو أملى عليه مستشاروه الذين لا يقلون
عنه غباء وجهلا في إدارة البلاد، وأبرزهم وزير داخليته الحاقد، أن يبدأ موجة جديدة
من اللعب القذر مع
قيادات حركة النهضة وأبرز شخصياتها، لعله يلهي المطحونين عن
الأوضاع المزرية التي يعيشونها اليوم؛ فقام بنبش ملفات "تسفير الشباب التونسي
لبؤر التوتر" الذي كان قد فتح سابقا، وتمت تبرئة حركة النهضة منه. لكن فتْح
الملف مرة أخرى في هذه المرحلة يدل على إصرار
قيس سعيد على توريط النهضة بأي طريقة،
ليقول بأنه يقدم إنجازات لوطن يئن وشعب يحتضر؛ بعد أن لم نعد نحس بالأمان في وطن مغتصب
من مجموعة من الفشلة والجهلة والعابثين بأمنه وحريته وكرامته..
ولم يقتصر الظلم الذي وقع على
الغنوشي ونائبه على تقديمهما للتحقيق غير
الأخلاقي وغير الإنساني، بل خرجت أبواق بعض الإعلاميين والسياسيين المغرضين لتشمت
بالنهضة وتحرض عليها، وتتوعدها بمزيد من الملفات كملف اغتيال بلعيد والبراهمي وملف
التنظيم السري للنهضة. وللأسف، يعلم الجميع بمن فيهم الخصوم أنها كلها ملفات
ملفقة، فلم تنجح كل المحاولات السابقة والحالية في إثبات شيء على حركة النهضة التي
تحاربها أحزاب وجهات حربا أيديولوجية لا يماري فيها مراقب حصيف. وإن القول بأن
الحقد على النهضة مصدره الغيرة والحسد من قدرتها على حصد العدد الأكبر من الأصوات
في كل الانتخابات التشريعية والبلدية التي جرت في تونس بعد الثورة، كلام يجافي
الواقع، ونحن نعايش على الأرض كل ما يجري بكثير من التدقيق والاهتمام.
فتْح الملف مرة أخرى في هذه المرحلة يدل على إصرار قيس سعيد على توريط النهضة بأي طريقة، ليقول بأنه يقدم إنجازات لوطن يئن وشعب يحتضر؛ بعد أن لم نعد نحس بالأمان في وطن مغتصب من مجموعة من الفشلة والجهلة والعابثين بأمنه وحريته وكرامته..
ولم يقتصر الظلم الذي وقع على الغنوشي ونائبه على تقديمهما للتحقيق
يكفي أن تجلس مع أي يساري ربع ساعة، لتجد أن النهضة حاضرة والمؤامرات
الخسيسة ضدها هي الشغل الشاغل له ولرفاقه؛ فلا همّ للجبهة الشعبية التونسية سوى بث
الشائعات الكاذبة والأفكار الهدامة التي تعمل بشراسة ضد حركة النهضة التي لم تستطع
للأسف أن تؤثر في قطاع من البسطاء والجهلة من عامة الشعب وتقنعهم بكذب ما يشاع
حولها، وظلت تناقش القضايا الكلية، بعيدا عما يجب أن يعلمه البسطاء وعوام الشعب.
أضف إلى ذلك أن أعضاء حركة النهضة، على كثرتهم، لا يقومون بالدور المنوط بهم؛ ففي
حين تجد أعضاء الجبهة الشعبية وأنصارها يعملون ليل نهار على تشويه حركة النهضة،
تجد أعضاء الأخيرة أقل حماسة وجرأة في الدفاع عن حركتهم ورموزها، ولو فعل أعضاء
حركة النهضة كما يفعل اليسار، لحظيت النهضة بضعف مؤيديها على الأقل.
إن الملفات المتهمة بها النهضة رسميا، أقل بكثير مما يشاع عنها بين الجهلة؛
فإذا استقللت سيارة أجرة، وجدت سائقا بسيطا يقول لك: سمعت بما قيل عن الغنوشي؟
فتقول له: وما الذي قيل عنه؟ فيقول: لقد سرق 200 مليون دينار من الأموال التي
أرسلتها قطر، وبنى قصرا، واشترى أسطول سيارات فخمة له ولأولاده وأصدقائه، أو يقول
لك: الله لا تربحه الغنوشي، فقد أرسل له أردوغان ملايين الدولارات، ووزعوها بينهم
بدلا من أن يعطوها للفقراء، إضافة إلى عشرات القصص التافهة التي يبثها الكارهون في
نفوس البسطاء الذين يصدقون كل شيء ويعدونه من المسلّمات.
وعودا على بدء، فإن توجيه الاتهامات لحركة النهضة وزعاماتها في هذا الوقت، ليس
مجرد محاولة لصرف أنظار الناس عن الوضع الاقتصادي المتردي الذي تعيشه البلاد وحسب،
بقدر ما هو لعب على عواطف عامة الشعب من المؤيدين والمناهضين على حد سواء، بغية
توتير الأجواء وتعكير ما تبقى من صفاء في نفوس الناس، فقيس سعيد يعتمد مبدأ
"فرق تسد"، ما ذكرني بالاستراتيجيات العشر التي تبناها ساسة رأسماليون
منذ عام 1979 في وثيقة سرية تم اكتشافها عام 1986، وكانت بعنوان "الأسلحة
الصامتة لخوض حرب هادئة"، وأكتفي هنا بالاستراتيجية السادسة التي تقول:
"تتم إثارة عاطفة الشعوب أكثر من عقولهم حتى يتحرك الشعور اللاواعي، فيتم
بذلك وأد التفكير العقلاني والانتقادي، ويجمد التفكير ليتم تسليمه بدون تفكير إلى
حكم العاطفة". وهذا جزء مما يحدث اليوم، فالإجراءات التي قام بها المنقلب ضد
قيادات حركة النهضة، لم تكن فقط للتغطية على الوضع الاقتصادي من باب إشغال الناس،
بل أيضا حركت الحاقدين على النهضة بدوافع عاطفة الكره لها، فتناست الوضع الاقتصادي
والاجتماعي المزري، وراحت تتشفى بالنهضة ورموزها، مدفوعة بالعاطفة وليس بأي اعتبار
آخر. كذلك فقد عملت هذه الإجراءات على إشغال أذهان المؤيدين للنهضة بعاطفة النقمة
على المنقلب وأدواته وإعلامه.
توجيه الاتهامات لحركة النهضة وزعاماتها في هذا الوقت، ليس مجرد محاولة لصرف أنظار الناس عن الوضع الاقتصادي المتردي الذي تعيشه البلاد وحسب، بقدر ما هو لعب على عواطف عامة الشعب من المؤيدين والمناهضين على حد سواء، بغية توتير الأجواء وتعكير ما تبقى من صفاء في نفوس الناس
ولعل من نافلة القول أن قيس سعيد ما زال يمارس أداء معتوها صادما في كل
مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فهو مأخوذ بشهوة السلطة، ولكن
بجهل وسفه قل مثيله. وهو في ذلك يشبه عبد الفتاح السيسي الذي يلعب ببلاهة وطيش في
مقدرات الشعب والوطن. وكما أضاع الأخير مصر وباع الغالي فيها والنفيس، فقيس سعيد
يأخذ تونس إلى ذات الهاوية، وهو يعلم أنه عاجز، لكنه مكابر مكابرة مرضية، وحتى
اللحظة يرفض بشدة الاستماع إلى صوت العقل والحكمة، وهو يرى بكلتي عينيه مركب الوطن
وهو يغرق، بينما هو يصرخ ويعربد ويأمر وينهى بدون رادع ولا ضمير حي.
من السخرية أن نتصور أن قيس سعيد يحمل أدنى قدر من المصداقية في التعامل مع
قوى المعارضة، ففي حين يدعي أنه لم يفكر في حل الأحزاب أو تقييد عملها؛ فإنه يحاول
تلطيخ سمعة أكبر حزب معارض في البلاد، والتنكيل بقادته بكل وسيلة ممكنة، فمن
اعتقال قسري لعدد من القيادات إلى تلفيق تهم لبعضهم الآخر والتحقيق معهم أمام
النيابة العسكرية، وانتهاء بحملة التشويه الإعلامي الموجهة ضدهم، مع أنه يعلم أن
النهضة لن تغامر بالمشاركة في انتخابات البرلمان المهزلة؛ وهي تؤكد أنها لن تشارك
فيها، وقيس سعيد يعلم أن مشاركة النهضة ستكون لصالحه فهي تمثل اعترافا بإجراءاته
الأحادية، وهو ما لن تنيله النهضة له.
ما بين الحقيقة والوهم شعرة رفيعة سرعان ما تنقطع، ليتضح للشعب أن قيس سعيد
باعهم الوهم والكذب، ولم يبق إلا أن يتخلصوا منه ومن سياساته العرجاء.